حوار غير منشور مع يوسف حبشي الأشقر: فقد الإيمان هو زلزال جيلي

إعادة نشر أعمال أحد رواد القصة والرواية في لبنان

Facebook
Facebook
يوسف حبشي الأشقر

حوار غير منشور مع يوسف حبشي الأشقر: فقد الإيمان هو زلزال جيلي

يعد يوسف حبشي الأشقر مؤسس "تيار الوعي" الذاتي، بقلقه الذهني الوجودي، في الرواية اللبنانية المعاصرة. وعلى الرغم من رحيله المبكر عن 62 سنة في العام 1992، كثيرا ما ردد قائلا - عقب نشره روايته "الظل والصدى" في العام 1989 - إنه أنجز مشروعه الكتابي كله، ولم يعد لديه ما يقوله. وروايته هذه هي خاتمة ثلاثيته الروائية المسبوقة بـ"لا تنبت جذور في السماء" (1971) و"أربعة أفراس حمر" (1964). وقد استغرق إنجاز هذه الثلاثية نحو عقود أربعة من عمره، ليس لأنه يكتب ببطء فحسب، بل لأنه أيضا يعيد كتابة عمله الروائي مرات ثلاثا أو أربعا، وصرفَ عمره كله في الكتابة التي اعتبرها غاية حياته.

قطيعة ثقافية

لكن ما أسسه حبشي الأشقر في ثلاثيته هذه، وما تأسس في الرواية والثقافة اللبنانيتين المعاصرتين، عرضته الحرب الأهلية في لبنان (1975) - مسبوقة بهزيمة يونيو/ حزيران 1967 وبظهور حركة المقاومة الفلسطينية - إلى صدمة وانقطاع كبيرين غيرا تغيرا كبيرا مسار الثقافة والأدب اللبنانيين، وتياراتهما. حتى صار يقال "أدب الحرب" و"رواية الحرب" وما قبلها، كما يقال "ثقافة ما قبل الهزيمة" وما بعدها، إضافة إلى "ثقافة المقاومة" و"شعر المقاومة". وقد سادت هذه التسميات والتصنيفات منذ أواخر الستينات، وسرعان ما زالت أو انطفأت في الثمانينات، عندما ضعفت صلات الوصل التي كانت قائمة وتجمع موضوعات الثقافة اللبنانية والعربية في محاور عدة محددة الملامح.

نسيت أعماله الروائية في زمن الحرب الأهلية بلبنان، بعد ما كان الاهتمام والاحتفاء بها كبيرين باعتبارها رائدة في الخمسينات والستينات

والقطيعة التي أحدثتها هذه الحوادث الكبرى الثلاث، كان باعثها ظهور مصادر ومخيلة سوسيوثقافية غير تلك التي تأسست عليها الثقافة اللبنانية قبلها - أي منذ مطالع القرن العشرين - وخصوصا في مجال الرواية التي كانت محدودة الأعمال والأسماء أصلا. وعلى الرغم من استدخال توفيق يوسف عواد (1911- 1989) مناخَ مقدمات حرب لبنان في روايته "طواحين بيروت" (1972)، ومن جعل يوسف حبشي الأشقر (1929- 1992) الحرب عينها مدار روايته "الظل والصدى" (1989)، فإن مستجدات الحياة الثقافية في لبنان والقطيعة التي أصابتها، ردتا أعمال هذين الروائيين وسواهما إلى زمن قديم طواه النسيان. والأرجح أن عاملين تضافرا لإحداث ذلك:

الشرخ والتباعد اللذان أحدثتهما الحرب الأهلية بين الجماعات اللبنانية، وانعكاسهما على الحياة الثقافية، حينما شرعت الجماعات اللبنانية في تأسيس مصادر خاصة لثقافتها في خضم الحرب التي كانت في وجه من وجوهها حروب هويات وعلى هوية لبنان السياسية والثقافية.

رواية "أربعة أفراس حمر"

العامل الثاني الأعمق، وهو تاريخي - ثقافي، يتمثل في أن الانقطاع لازم الحياة الثقافية العربية الحديثة أو المعاصرة، منذ بدايات نشوئها في ما سمي "النهضة" الأدبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن سمات تلك "النهضة" أنها تأسست على قطيعة مع ما سمي "عصر الانحطاط" العثماني، وابتكار لغة عربية جديدة تتماشى مع العصر والحداثة الغربية.

في النسيان

أدت تلك القطيعة إلى نسيان أعمال الروائي يوسف حبشي الأشقر في زمن الحرب الأهلية بلبنان، بعد ما كان الاهتمام والاحتفاء بها كبيرين باعتبارها رائدة في الخمسينات والستينات اللبنانية. وصارت الكتابة الروائية اللبنانية تنهل في زمن الحرب من مصادر ثقافية واجتماعية وتخييلية مختلفة تماما عن العوالم الروائية السابقة عليها. وحتى بين البلدان العربية ضعف التواصل الثقافي، فإذا بنجيب محفوظ الذي قرأ رواية حبشي الأشقر "لا تنبت جذور في السماء"، قال للناقد المصري غالي شكري: كيف لا نعرف هذا العبقري؟ إنه روائي فذ. ولماذا هو غير معروف من القارئ المصري؟

Jean-Pierre PREVEL / AFP
صورة لساحة رياض الصلح وسط بيروت

لا أحد يسأل مثل هذه الأسئلة اليوم، لا في لبنان ولا في مصر وسوريا والعراق التي تصدرت عواصمها المشهد الثقافي العربي منذ مطالع القرن العشرين. فالانقطاعات والمآسي والتمزقات الكبرى ألمت طولا وعرضا بالمشرق العربي الذي كانت حروب لبنان فاتحتها ونموذجها في انهيار الدول والمجتمعات وتصدر العصبيات والحروب الأهلية المشرقية. فلم يبق من ماضي التواصل الثقافي الآفل بين البلدان العربية سوى القليل من الظلال والأصداء الخافتة، التي يصعب أن تنعقد في إطار جامع يتجاوز العوالم المحلية.

عيشه في المدينة لم يجلب له سوى "الشك والقلق والخيبة"، بينما تذهب "جذوره عميقا وتمتد في القرية"

لكن "دار النهار" اللبنانية والبيروتية - وهي كانت أصدرت ثلاثية حبشي الأشقر تباعا بين الستينات وأواخر الثمانينات - باشرت إعادة إصدارها اليوم، بعد غيابها وفقدانها ونسيان وجودها أصلا منذ سنوات كثيرة. وقد صدرت الرواية الأولى من الثلاثية "أربعة أفراس حمر" مطلع هذا العام 2025، على أن تليها تباعا "لا تنبت جذور في السماء" و"الظل والصدى".

وفي هذه المناسبة تنشر "المجلة" مقابلة غير منشورة مع يوسف حبشي الأشقر، تعود إلى سنة قبل رحيله في العام 1992. وهي كانت جزءا من عمل بحثي في اجتماعيات الأدب وتكوين المثقفين. وقد روى فيها سيرته الثقافية وتأملاته حول الكتابة ومصادرها الفكرية والاجتماعية.

رواية "لا تنبت جذور في السماء"

سأم العمر والكتابة

على مدخل البلدة أو المدينة الريفية القديمة، بيت شباب في جبل لبنان - وسماها حبشي الأشقر "كفر ملات" في ثلاثيته الروائية - سألنا شابا كان يقف أمام بيت قديم يرفرف فوق مدخله علم أحد الأحزاب اللبنانية أن يدلنا الى منزل يوسف حبشي الأشقر، فأبدى الشاب جهله بصاحب هذا الاسم. فعرفنا أن الأحزاب لا تزال تستقدم شبانا غرباء عن المنطقة وتكلفهم حراسة مراكزها فيها. وهذا من إرث الحروب الأهلية الذي يتشبث بحاضر لبنان وبنظامه السياسي.

أما الرجل الستيني الكهل الذي سألناه عن منزل الأشقر في ساحة البلدة، فاستفسر إن كنا نقصد يوسف حبشي الأشقر المحامي، فأدركنا أن صفة المحاماة - التي قال الأشقر إنه لم يعمل قط في مجالها، بعدما درس الحقوق - تغلب في بلدته على صفته الأدبية التي قال أنه نذر لها حياته وجعلها غاية وجوده.

وفي حديثه طغت اللهجة البلدية على كلام حبشي الأشقر الذي يبدو أن إقامته وعمله في بيروت بين 1944 و1975 لم تقوَ على تبديلها إلا طفيفا، ربما يساوي ما أدخله من تحسينات جديدة على منزل عائلته القديم الذي أقام فيه قبله جده وجدته ووالداه. فالقرية اللبنانية وحضارتها لا تزالان مبعث طمأنينة صاحب "لا تنبت جذور في السماء" الذي قال إن العيش في المدينة لم يجلب له سوى "الشك والقلق والخيبة"، بينما تذهب "جذوره عميقا وتمتد في القرية"، مسقط رأسه وموطن أهله وأجداده.

AFP
صورة مؤرخة لعام 1939 من بيروت

وفي جلستنا وأحاديثنا الطويلة كان حبشي الأشقر يرتدي "دشداشة" قد يبقى لأيام يرتديها لاستنكافه عن الخروج من منزله إلا مرتين في الأسبوع ليداوم في مركز عمله، إدارة الضمان الاجتماعي في بيروت، ويعود سريعا إلى مطمأنه في مسقط رأسه. لكن هذا المطمأن لا يبدو قادرا على دفع السأم الذي لا يحتاج من عرف حبشي الأشقر إلى جهد كي يستقرئ علاماته في كلامه وعلى وجهه.

حملني ذلك الكبت الاجتماعي العاطفي التقليدي المبكر على كتابة الشعر والانطواء على نفسي، والشعر الذي صرفت له جل وقتي جعلني كسولا في المدرسة

أهو سأم الذهاب في العمر أم سأم الانقطاع الطويل إلى الكتابة والقراءة اللتين يعتبرهما الأشقر خلاصه الوحيد؟ وقد يكون عزاؤه في أن عمره لم يذهب سدى، بعد ما خلف وراءه كتبا قصصية وروائية عشرة. ولربما لا تربي حرفة الكتابة في نفوس محترفيها غير السأم.

الإقامة في الإرث

هنا في هذا البيت الذي كان يقيم فيه وعائلته منذ مطلع حرب لبنان، ولد حبشي الأشقر. وفيه ولد والده إميل حبشي الأشقر الذي ورثه عن أبيه. ومنذ ولادته حتى موت والده سنة 1981 لم ينفصل صاحب "الأرض القديمة" عن أهله ليقيم في منزل مستقل، إلا مدة قصيرة اسغرقتها دراسته الجامعية في بيروت. حتى أن زواجه في سنة 1958 لم يحمله على حياة مستقلة عن والديه: "بقينا - أنا وزوجتي، التي تربطني بها صلة قرابة بعيدة، وأولادي الثلاثة ووالدي - نقيم في منزل واحد، ببيروت وفي بيت شباب. وهذا أمر شديد الأهمية في حياتي وحياة أولادي الذين نشأوا في كنف أمهم وأبيهم كما في كنف جديهم اللذين صارا ذخيرة (أي رمزا يتضمن قدرا من القداسة) في حياتهم. وفي الحقيقة لم أشعر في حياتي كلها بحاجة إلى الانفصال عن أهلي للإقامة بعيدا عنهم. وهذا حماني وحمى وأولادي من انفصام في الشخصية". والحق أن هذا كله يخالف تماما سلوك شخصيات ثلاثية حبشي الأشقر الروائية. وهي شخصيات تستغرقها علاقات فردية وتأملات وحوارات ذهنية وجودية حول الحب والدين والايمان والمجتمع والحياة والموت.

رواية "الظل والصدى"

وكان إميل حبشي الأشقر، والد يوسف، أديبا معروفا صرف حياته كلها في الكتابة والتأليف، من دون أن يعمل في غير مجال الأدب وكتابة التاريخ والقصص التاريخية، معتمدا في حياته المادية على بقية من إرث أبيه وعلى ما كان يحصله من إصداره مجلة وجريدة بين العام 1912 والعام 1915 في بيت شباب التي كانت من أهم الحواضر التجارية والصناعية في جبل لبنان منذ أواخر القرن التاسع عشر.

وفي العام 1929 أصدر مجلة "الليالي" الفصلية المتسلسلة التي خصصها لنشر كتاباته القصصية التاريخية عن شخصيات من تراث العرب والمسلمين، شأن جرجي زيدان. وتوقفت "الليالي" عن الصدور في العام 1949، بعدما كان صاحبها يعتاش من مردود اشتراكاتها في لبنان وسوريا والأردن، حيث كانت توزع وتنتشر. وكانت الطباعة آنذاك تحدث على اليد وبطرق بدائية.

روى الأشقر أن الحدث الأبرز في سنوات صباه كان تعلقه المحموم، في سن الثانية عشرة، بفتاة من الجيران في البلدة "وقد حملني ذلك الكبت الاجتماعي العاطفي التقليدي المبكر على كتابة الشعر والانطواء على نفسي، بعد ما هاجرت الفتاة مع أهلها إلى أفريقيا. والشعر الذي صرفت له جل وقتي جعلني كسولا في المدرسة".  

المدنية الحديثة لم تضف إلى حياة الكائن البشري إلا التيه والألم والتعب والقلق وعدم الرضا والغربة عن الذات

في العام 1944 حين غادر حبشي الأشقر بيت شباب لاستكمال تحصيله الدراسي الجامعي في بيروت، لم يستسغ العيش في المدينة. "فلا الترامواي ولا البنايات العالية ولا الاختلاط السكاني ولا تعدد أوجه الحياة وتشعبها وتداخلها شكلت مصدرا لادهاشي. ولم تحملني إقامتي في المدينة لا على رفض عالمها وقيمها ولا على التآلف مع ذلك العالم وتلك القيم. وكانت بيروت الأربعينات أحياء كبيرة شبه مقفلة على ساكنيها، والصلات بين أهل هذا الحي وذاك طفيفة ومحدودة. وهذا ما بدأ يرسخ في وجداني نفورا من حضارة المدينة وعالمها وشغفي بحضارة الحياة القروية وبساطتها. وربما أكون في هذا مثل اسكندر بطل 'لا تنبت جذور في السماء'. فالمدنية الحديثة التي ولدت في المدن لم تضف إلى حياة الكائن البشري إلا التيه والألم والتعب والقلق وعدم الرضا والغربة عن  الذات".

التمزق الوجودي

حتى سنة 1951 ظل يوسف حبشي الأشقر يكتب الشعر النثري الحر، وينشر بعضا من قصائده في المجلات الأدبية. ولما تعرف إلى الروائي اللبناني فؤاد كنعان الذي كان رئيس تحرير مجلة "الحكمة"، نصحه بكتابة القصة فأخذ بها. وهو روى أن "الحكمة" في الخمسينات كانت تجمع حولها عددا من كتاب القصة التي كانت "موضة" رائجة آنذاك. منهم موريس كامل الذي كان يساريا، فأغضبه اسمه فبدله إلى صلاح. أما فؤاد حداد فكان من أهم الذين كتبوا القصة آنذاك ونشر في صحيفة "العمل" مقالات ضد جمال عبد الناصر بتوقيع "أبو الحن".

Bernard ESTRADE / AFP
ميليشيا مسيحية تقوم بدورية في شارع محاط بأشجار الزيتون في زغرتا

نشر الأشقر مجموعته القصصية الأولى "طعم الرماد" في العام 1952. وكتب الثانية "ليل الشتاء" تحت إلحاح "شك عصف بي، فجعلت أرى الصدفة في أصل الوجود وأساسه. إصراري على اقتفاء أثر الصدف في رسم مصائر البشر وحيواتهم قادني إلى حال من التمزق الوجودي الذي كان العيش في المدينة إطاره وعنصرا أساسيا من عناصره. وقادني التمزق الوجودي إلى التساؤل عن مصير الكائن الذي يعيش في غربة عن ذاته في عالم المدينة. لذا كان علي أن أبحث عن خلاص من هذه الحال التي لم ألق خلاصا منها الا في عالم القرية. وفي صيف العام 1957 عدت الى بيت شباب حاملا أسئلة تمزقي الوجودي. فكتبت عودتي الى الجذور في مجموعتي القصصية 'شق الفجر'. لكن ذلك لم يشفني مما انا فيه، لأن المدينة كانت بدأت تنتقل إلى القرى، وهكذا وجدتني في حال من الضياع بلا قرار"

قراءتي التاريخ علمتني أن العقائد والأيديولوجيات لا تصمد ولا تستمر. وبقيت مقتنعا أن العالم لا يكفله إلا الله

روايته الأولى "أربعة أفراس حمر" شكلت انطلاقة جديدة في عمله الكتابي، وأحدثت ضجة في أوساط بيروت الأدبية. وهي تتناول أحوال جيل الخمسينات في المدينة وهواجسه وقلقه وعلاقاته. "لا تنبت جذور في السماء" جمع مادتها من الصحف ومن وقائع الحياة اليومية، وسجل انطباعاته وملاحظاته من دون صوغها قبل شروعه في الكتابة الأولى التي تلتها إعادة كتابة ربما وصل عددها إلى أربع. هذا ما فعله في "الظل والصدى" التي "بلغ حجم مسوداتها  4 أمتار من الورق".

لم تكن الكتابة والقراءة "مرة مورد رزق لي، بل أشبه بخلاص وصلاة - قال حبشي الأشقر- وفي عمري لم أستسغ الالتزام. وقراءتي التاريخ علمتني أن العقائد والأيديولوجيات لا تصمد ولا تستمر. وبقيت مقتنعا أن العالم لا يكفله إلا الله. لكنني في قرارة نفسي مقتنع أن العدل غريب عن هذه الدنيا وأن مشوار البشر فيها عذاب كله، لا يبعده عني غير الكتابة. الشك جعل الأرض تهتز تحت قدمي. وأنا أعتبر أن لكل جيل زلزاله الخاص. وفقد الإيمان هو زلزال جيلي. ولا أدري إلى أين يسير هذا الكائن التاعس وما هو مصيره".

font change

مقالات ذات صلة