ما يرويه ألمودوفار عن الموت والحياة في "الغرفة المجاورة"

تأبيد اللحظات السعيدة عبر تعليق جريان الزمن

El Deseo/Warner Bros
El Deseo/Warner Bros
جوليان مور وتيلدا سوينتون في فيلم "The Room Next Door"

ما يرويه ألمودوفار عن الموت والحياة في "الغرفة المجاورة"

أفلام كثيرة عالجت موضوع الموت، سواء بصورة مباشرة كما عند كوروساوا في "قصة طوكيو" أو برغمان في "الختم السابع" و"التوت البرّي"، أو صلاح أبو سيف في "السقا مات" أو كياروستامي في "طعم الكرز"، وغيرهم، أو بصورة غير مباشرة من خلال ثيمة الفقد والحداد عند كريستوف كيزلوفسكي في "الألوان الثلاثة: الأزرق" أو عند هيراكوزو كور- إدا في "ما زلت أمشي"، أو كينيث لونيرغان في "مانشستر بجوار البحر" وغيرها. بل يكاد لا يخلو عمل أدبي أو سينمائي أو فني عظيم من هذه الثيمة الكبرى، ومن آخر هذه المساهمات عمل الإسباني بيدرو ألمودوفار "الغرفة المجاورة" المقتبس عن رواية الأميركية سيغريد نونيز، "ما تمرين به" (2020)، والذي حاز "الأسد الذهبي" في "مهرجان البندقية السينمائي" العام الماضي، كما حاز مجموعة جوائز (منها النص والموسيقيى والتصوير) خلال الدورة الأخيرة من مهرجان "غويا".

لا تخرج مقاربة ألمودوفار للموت كثيرا عن معظم التجارب الآنفة الذكر، حيث لا يحضر الموت بوصفه حادثا مأسويا أو فجائعيا، بل باعتباره، وكما يشي عنوان الفيلم، لصيقا بالحياة، مجاورا لها، توأمها إن جاز القول. مارثا مراسلة حربية خاضت خلال عملها الصحافي المديد، العديد من التجارب التي جاورت خلالها الموت، لا سيما في حربي العراق والبوسنة، وفقدت على الطريق زملاء لها، بل فقدت قبل ذلك حبيبها وأبا ابنتها الوحيدة الذي شارك في حرب فييتنام وعاد "شخصا آخر"، كما تقول. عندما تكتشف أنها مصابة في مرحلة متقدمة من السرطان، وبعد محاولة فاشلة للعلاج الكيميائي الذي يجعل جميع حواسها تتدهور، تقرر العودة إلى حدسها الأول بعدم الخضوع للعلاج، ووضع حد لحياتها.

لا تعتبر مارثا ذلك استسلاما للموت، بل حرب من نوع آخر، حرب لا تقوم بتغطيتها مثلما فعلت طوال حياتها، لكنها حرب تخوضها وإن بجسد واهن وذاكرة متدهورة. بالأحرى هو نوع من عدم الخضوع لما يفرضه المرض عليها وعلى جسدها وروحها. الموت بوصفه خيارا، أو ما يسمى بـ"الموت الرحيم"، هو كما نعلم محل نقاش دائم في الغرب خصوصا، وألمودوفار، واضع سيناريو الفيلم أيضا، يمضي أبعد قليلا في هذا النقاش، فالخيار لا يفترض أن يقتصر على حالات يغدو فيها الفرد معطّل الجسد بالكامل، أو كما يقال "كائنا نباتيا" تمتد به الحياة يوما آخر اعتمادا بالكاد على الآلات الطبية فقط، بل تشمل الحالات التي يقرر فيها الفرد عدم خوض رحلة الآلام التي يفرضها العلاج والتي قد يخرج منها محطما وإن انتصر على المرض في النهاية.

في عالم هوبر

إنغريد (جوليان مور)، صديقة مارثا التي باعدت بينهما الأيام والسفر والمشاغل لسنوات طويلة، هي كاتبة روائية ناجحة، تخشى الموت وتعتبره حادثا غير طبيعي ولا ضروري، وهذه الخشية تجعلها ترتعب حين تطلب منها مارثا مرافقتها خلال أيامها الأخيرة، حيث ستقدم على تناول حبة (حصلت عليها عبر شبكة إنترنت سوداء، في فعل يوضح الفيلم تماما أنه مجرّم قانونا)، وتريد أن يكون هناك شخص في الغرفة المجاورة، لحظة مفارقتها الحياة.

لا يحضر الموت بوصفه حادثا مأسويا أو فجائعيا، بل باعتباره، وكما يشي عنوان الفيلم، لصيقا بالحياة، مجاورا لها

الوجود على هذه المقربة الشديدة من الموت يصدّع عالم إنغريد، لكننا لا نرى تلك التصدعات، ولا تطفو على السطح هواجس إنغريد ومخاوفها، فنحن نعلم مثلا خلال حديثها مع صديقها (حبيبها وحبيب مارثا السابق خلال بداية حياتهما المهنية) داميان (جون تورتورو) أنها "الوحيدة التي تتألم دون أن تشعر الآخرين بالذنب"، وبالتالي فإنها لا توافق فحسب على طلب صديقتها، لكنها تحرص باستمرار على وضع قناع الدعم والإيجابية تجاه صديقتها المحتضرة، ولعل هذا ما يجعل شخصية إنغريد تبدو في غالبية الأحيان سلبية، فهي المتلقية مشاعر مارثا، المستوعبة لها والمتماشية مع إيقاعها، وهذا ما لا يسمح كثيرا لممثلة قديرة مثل مور بالغوص كثيرا في أبعاد الشخصية وإظهار تعقيداتها، لا سيما خوفها من الموت، ويفسح في المجال لتيلدا سوينتن بأن تحتل المساحة المركزية على امتداد السرد.

El Deseo/Warner Bros
جوليان مور وتيلدا سوينتون في فيلم "The Room Next Door"

إنغريد في رواية سيغريد نونيز المنشورة خلال 2020، ذروة تفشي كوفيد19، هي الراوية، وهذا خيار لا يلجأ إليه ألمودوفار في اقتباسه لها، منحازا أكثر إلى ما يخدم أسلوبه السينمائي المعهود حيث تتحول الشخصيتان الرئيستان إلى جزء من المشهد وكأننا، نحن المشاهدين، في إزاء لوحة مفعمة بالضوء والألوان، ولا يأتي اختيار ألمودوفار لوحة إدوارد هوبر الشهيرة، "أناس في الشمس"، التي تصور مجموعة أشخاص جالسين على شرفة فندق، يستمتعون بالشمس وبالمشهد الطبيعي أمامهم، لتكون معلقة في منزل العطلات الفاخر الذي تختاره مارثا لتودع فيه الحياة، إلا تأكيدا لهذا الانحياز الفني إلى الضوء والثراء اللوني والسكينة عند ألمودوفار. هنا لا بد من الإشارة إلى العمل البديع لمدير التصوير إدو غارو الذي حوّل كل لقطة في الفيلم تقريبا إلى لوحة تنطلق من مفردات تشكيل المشهد المعهود في سينما ألمودوفار وتمنحها أبعادا تشكيلية جديدة.

انطلاقا من هذه الخلفية، ترتسم الصراعات الداخلية للشخصيتين أمامنا بالتناقض الصارخ مع المشهد المفعم بالدفء والحياة الذي تشكلان جزءا منه، وفي أكثر مشاهد الفيلم محاكاة لعوالم هوبر، نرى الشخصيتين ممددتين جنبا إلى جنب تستمتعان بالشمس على الشرفة الخارجية للبيت. وكأن ألمودوفار يسعى إلى تأبيد تلك اللحظات السعيدة من خلال وضع الشخصيتين ضمن إطار صورة يتجمد فيها الزمن كليا، فلا يعود الماضي والمستقبل مهمين، بل المهم هو هنا والآن.

تتحول الشخصيتان الرئيستان إلى جزء من المشهد وكأننا، نحن المشاهدين، في إزاء لوحة مفعمة بالضوء والألوان

لا يغفل ألمودوفار، ربما بصورة مباشرة أكثر من اللزوم، إبراز هذا التناقض الصارخ طوال الوقت. اللحظات التي تستذكرها مارثا من ماضيها كمراسلة حربية، أو من علاقتها بحبيبها الأول ووالد ابنتها، بما في ذلك موته المأسوي، لا تحضر إلا لخدمة هذا الهدف وإبراز هذا التناقض؛ تعميق حضور الشخصيتين في اللحظة الراهنة، والسلام المطلق المتأتي من هذا الحضور. كذلك الأمر في المشهد الذي يجمع إنغريد بصديقها داميان، والذي يعرب فيه هذا الأخير عن يأسه الفلسفي التام من عالم آيل إلى الفناء بفعل تدمير البشر للبيئة. لتصبح أيام إنغريد ومارثا معا في البيت الذي سيشهد وداع الأخيرة للحياة، نوعا من الملاذ الآمن الذي تحتمي فيه الامرأتان من كل قباحات العالم وأشكال الموت فيه، سواء كانت متأتية من الحروب أو الأوبئة والأمراض أو حتى من احتمال فناء الكوكب. ما يهم فعلا هو لحظات الصداقة الصافية التي تعيشها الامرأتان واغتسالهما معا، إن جاز القول، بالدفء المستمد من الشمس وبالسلام الداخلي المتأتي من مفارقة أسباب الألم والقلق الكثيرة التي تأتي بها الحياة، بل الأهم من نزع السلطة الهائلة التي يمتلكها الموت على الحياة.

El Deseo/Warner Bros
جوليان مور وتيلدا سوينتون في فيلم "The Room Next Door"

أنواع من الموت

في عالم تكثر فيه أسباب الموت، لا سيما ذلك الذي يتأتي من جرائم البشر بعضهم في حق بعض، وتتزاحم فيه وسائل الإعلام على أخبار الموت الجماعي، بفعل الحروب أو الكوارث، يختار ألمودوفار ثنائية الحياة/الموت، أو بدقة أكبر الحياة بالتقابل مع الموت (وليس بالضرورة بالتضاد معه) كنوع من البيان المضاد لهذه المناخات السائدة. بالنسبة إلى كثر، قد يبدو هذا خيارا بورجوازيا، فليس جميع البشر يملكون التحكم بمصائرهم، ولا بطريقة موتهم وتوقيته، ولا اختيار مكان شاعري فاخر، يكاد يكون رومانسيا، ليكون مسرح وداع الحياة، وليس الجميع يتحدث بالطريقة الفلسفية الوجودية وشبه المسرحية (أي المستلة لغتها من عالم الفن والكتب) التي تتحدث بها شخصيات ألمودوفار، خصوصا في فيلمه هذا.

هذا ما يجعل من "الغرفة المجاورة" نسمة هواء لطيفة في عالم مختنق تعصف فيه الأحداث الكبرى طوال الوقت

وبالقدر ذاته، لا يجد جميع البشر سلواهم وسلامهم الداخلي خلال أيامهم الأخيرة بالجلوس على كنبة وثيرة في قلب الطبيعة، ومشاهدة باستر كيتون أو جون هيوستون في "الموتى"، ولا بتذكر المقطع الختامي الشاعري من قصة جيمس جويس المقتبس عنها فيلم جون هيوستن. إلا أن هذا الاحتجاج الذي ساقه البعض ضد فيلم ألمودوفار، يمكن سوقه ضد معظم أفلام بيرغمان وأنطونيوني وحتى فيليني... بالنسبة إلى كاتب هذه السطور، فإن هذا المنحى الفلسفي والمتقشف، أي الميال إلى الصمت والمنحاز إلى الصورة، عند ألمودوفار في أعلى مراحل نضجه السينمائي والإنساني، والذي يقود بصورة حتمية إلى أن يبدو كلام الشخصيات مصطنعا، حتى لا نقول زائفا، هو أجمل ملامح الفيلم، إذا ما قارناه بسيل الواقع المتدفق علينا من محطات التلفزيون ومنصات التواصل الاجتماعي التي تستهلك كل شيء، وتمحو بسرعة هائلة كل شيء، بما في ذلك أقسى الأحداث، ولا تستبقي لحظة للتأمل الهادئ بالعالم من حولنا.

El Deseo/Warner Bros
جوليان مور وتيلدا سوينتون في فيلم "The Room Next Door"

هذا ما يجعل من "الغرفة المجاورة" نسمة هواء لطيفة في عالم مختنق تعصف فيه الأحداث الكبرى طوال الوقت. في أحد أجمل مشاهد الفيلم، تعود مارثا رفقة صديقتها إلى شقتها التي يفترض أنها ودّعتها بصورة نهائية، لكي تحضر حبة الدواء القاتلة التي نسيتها هناك. خلال وجودهما في البيت تقول مارثا لإنغريد إنها تشعر كأنها شبح يزور مسكنه القديم. وفي الفصل الأخير من الفيلم حين تظهر ابنة مارثا بعد موت هذه الأخيرة، ويتبين بالفعل أنها نسخة طبق الأصل عنها (تؤدي سوينتن الدورين بطبيعة الحال)، وتستلقي بجوار إنغريد على الشرفة في الوضعية نفسها لأمها، يراودنا – كما يراود إنغريد – الشعور الشبحي نفسه. وفي ذلك تتجسد تماما المجاورة الأليفة بين الحياة والموت التي أسلفنا الإشارة إليها. فما بعد رحيل مارثا ليس الفراغ ولا العدم ولا الأسى ولا الفقد، بل العالم الذي يبقى شاهدا على الذكريات بحلوها ومرها، وحيث "يسقط الثلج ناعما على جميع الأحياء والموتى" كما جاء في السطر الأخير من قصة جويس.

font change