في ظل أزمة مالية خانقة، سارعت الحكومة السورية المؤقتة إلى اتخاذ تدابير جذرية لإصلاح الاقتصاد المتعثر. تأتي في صميم هذه الجهود خطة عاجلة لتقليص القطاع العام المتضخم، الذي يعد إرثا لعقود من المحسوبية السياسية في ظل حكم نظام الأسد. وقد ناقش المسؤولون علنا خفض عدد موظفي الخدمة المدنية بنسبة لا تقل عن الثلث، مما قد يؤثر على نحو 400 ألف موظف، حيث اعتبر المسؤولون أن تقليص الهدر وإعادة تخصيص الموارد ضروريان لتحقيق تعافٍ اقتصادي طويل الأمد.
ورغم عدم وضوح الجدول الزمني وآلية التنفيذ، بدأت الخطوات الأولى بالفعل. فقد أُعلن عن عمليات تسريح بعد أسابيع فقط من إطاحة الثوار بالأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول. والأكثر أهمية أن عشرات الآلاف من موظفي الحكومة وُضعوا في إجازة مدفوعة لمدة ثلاثة أشهر، اعتبارا من ديسمبر، وهي خطوة يُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها تمهيدا لموجة تسريحات جماعية.
وأدى تسارع وتيرة هذه الإجراءات إلى حالة من القلق الواسع واندلاع احتجاجات متكررة، ليس فقط من قبل الذين فقدوا وظائفهم بالفعل، ولكن أيضا من قبل أولئك الذين يخشون التسريح الوشيك. ورغم أن إصلاح القطاع العام ضرورة ملحة، فإن الفشل في توفير بدائل وظيفية مناسبة للعمال المسرّحين قد يفاقم حالة عدم الاستقرار في لحظة حرجة من المرحلة الانتقالية الهشة التي تمر بها سوريا.
إرث من المحسوبية وعدم الكفاءة
لم يكن تضخم القطاع العام مجرد نتيجة لسوء الإدارة الاقتصادية، بل كان استراتيجية متعمدة لكبح المعارضة. فعلى مدار عقود، استخدم نظام الأسد التوظيف الحكومي كأداة للمحسوبية السياسية، حيث عيّن أعدادا تفوق بكثير الحاجة الفعلية لتعزيز السيطرة. ومن خلال توفير رواتب حكومية مستقرة لجزء كبير من السكان، خصوصا أولئك المرتبطين سياسيا بالنخبة الحاكمة، تمكن النظام من ترسيخ الولاء وضمان قدر من الاستقرار.
رغم أن تقليص الوظائف الزائدة في القطاع العام يُعد ضروريا لإنعاش الاقتصاد، فإن الفشل في معالجة تداعياته قد يزعزع استقرار سوريا قبل أن تتاح لها فرصة لإعادة البناء
ونتيجة لذلك، شهدت المؤسسات الحكومية تضخما هائلا في أعداد الموظفين، حيث تقاضى الكثير رواتب رغم محدودية مهامهم أو غيابها تماما. وتشير التقارير إلى أن الوزارات توظف، في المتوسط، ضعف العدد الفعلي المطلوب، مما أسهم في الركود الاقتصادي واستنزاف موارد الدولة وجعل هذا النموذج غير مستدام. فقد عجزت الإيرادات الحكومية عن تغطية فاتورة الأجور الضخمة، مما حال دون تعديل الرواتب لمواكبة التضخم، وأدى بالتالي إلى تفاقم الأوضاع المعيشية.
التسريحات الجماعية و"الموظفين الوهميين"
أدركت الحكومة المؤقتة سريعا حجم المشكلة. فوفقا لمراجعة أولية أجرتها السلطات الانتقالية، فإن 900 ألف فقط من بين 1.3 مليون موظف حكومي يباشرون عملهم فعليا، مما يكشف عن وجود نحو 400 ألف "موظف وهمي" يتقاضون رواتب دون أداء أي مهام. وحتى بين الذين يباشرون عملهم، فإن نسبة كبيرة منهم تصنف ضمن ما يعرف بـ"البطالة المقنّعة"، حيث تُقدَّر الحاجة الفعلية للعمالة بنحو 600 ألف موظف أو أقل، أي ما يعادل ثلثي القوة العاملة النشطة حاليا.
وفي محاولة لمعالجة هذه الاختلالات، بدأت الحكومة المؤقتة تنفيذ عمليات تسريح، استهدفت في المقام الأول الموظفين الوهميين، إلا أن آلاف الموظفين الفعليين وُضعوا أيضا في إجازة مدفوعة لمدة ثلاثة أشهر، دون أي وضوح بشأن مصيرهم بعد انتهاء هذه المدة. وأكدت الحكومة المؤقتة أن هذه الخطوة تأتي في إطار جهود أوسع لإعادة تقييم الاحتياجات الوظيفية، مشيرة إلى أن من يُعتبرون فائضين عن الحاجة سيجري إدراجهم ضمن قوائم الباحثين عن عمل لدى وزارة الشؤون الاجتماعية. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت رواتبهم ستستمر إلى حين إيجاد وظائف بديلة، مما أثار مخاوف من أن الإجازة المدفوعة ليست سوى مقدمة لعمليات تسريح جماعية واسعة النطاق.
تصاعد السخط الشعبي
رغم أن تقليص الوظائف الزائدة في القطاع العام يُعد ضروريا لإنعاش الاقتصاد، فإن الفشل في معالجة تداعياته قد يزعزع استقرار سوريا قبل أن تتاح لها فرصة لإعادة البناء. فلا القطاع العام ولا القطاع الخاص قادران على استيعاب هذا العدد الكبير من العمال المسرّحين، خاصة مع وجود عشرات الآلاف من أفراد الجيش والأجهزة الأمنية السابقين الذين فقدوا وظائفهم أو يواجهون خطر فقدانها. إن تسريح مئات الآلاف من العمال دون توفير بدائل اقتصادية قد يؤدي إلى خلق كتلة من الأفراد المحبطين، مما يزيد من هشاشة المرحلة الانتقالية في البلاد.
سعي الحكومة المؤقتة إلى إنشاء إدارة أكثر كفاءة وأقل تضخما أمر مفهوم، لكن إصلاح القطاع العام دون معالجة الأوضاع الاقتصادية الأوسع قد يحوّل هذه التعديلات الضرورية إلى أزمة
وقد أدى نطاق وسرعة هذه العملية لإعادة الهيكلة إلى اندلاع احتجاجات متكررة في مدن مثل دمشق ودرعا واللاذقية وطرطوس. وخرج المتظاهرون، ومعظمهم من موظفي القطاعات الصحية والمصرفية والدفاعية، إلى الشوارع للمطالبة بضمانات وظيفية والتنديد بما يعتبرونه عمليات فصل تعسفية. وتعكس هذه الاحتجاجات تصاعد مشاعر الإحباط بين العمال الذين يخشون أن يجدوا أنفسهم بلا مصدر رزق. فمن الناحية التاريخية، كان اليأس الاقتصادي عاملا رئيسا في زعزعة الاستقرار السياسي في سوريا، وقد تشكل موجة الاضطرابات الحالية خطرا أمنيا كبيرا.
علاوة على ذلك، في بعض المناطق، اكتسبت الاحتجاجات بعدا طائفيا، إذ وُجهت اتهامات بأن بعض المجتمعات مستهدفة بشكل غير متناسب في عمليات التسريح. وقد نفت الحكومة المؤقتة هذه المزاعم، مؤكدة أن الإصلاحات مدفوعة باعتبارات اقتصادية بحتة وليست ذات دوافع سياسية. ومع ذلك، فإن مجرد الإحساس بوجود تحيز- سواء كان حقيقيا أم لا- يمكن أن يزيد من حدة التوترات في مجتمع يعاني بالفعل من انقسامات عميقة.
تجنب زعزعة الاستقرار
يتعين على الحكومة المؤقتة التعامل مع هذه القضية بحذر، مع ضمان إتاحة الفرص للعمال المسرّحين لإعادة الاندماج في الاقتصاد. فمن شأن اتباع نهج تدريجي في تقليص الوظائف، بدلا من عمليات التسريح الجماعي المفاجئة، أن يساعد في التخفيف من الصدمة الاقتصادية. كما أن تنويع الاقتصاد يعد ضرورة ملحة، إذ يجب على الحكومة مواصلة تحفيز نمو القطاع الخاص، لا سيما في القطاعات القادرة على استيعاب أعداد كبيرة من العمال، مثل الزراعة والصناعات التحويلية والبناء.
وسيكون من الضروري تنفيذ برامج تدريبية لإكساب العمال مهارات جديدة تتماشى مع احتياجات الاقتصاد المعاد هيكلته. كما أن إنشاء شبكات أمان اجتماعي سيكون عاملا أساسيا في منع تدهور الأوضاع المعيشية لمن لا يجدون وظائف بديلة على الفور.
ورغم أن سعي الحكومة المؤقتة إلى إنشاء إدارة أكثر كفاءة وأقل تضخما أمر مفهوم، فإن إصلاح القطاع العام دون معالجة الأوضاع الاقتصادية الأوسع قد يحوّل هذه التعديلات الضرورية إلى أزمة. لذا، يتعين على السلطات الانتقالية المضي بحذر، وضمان تحقيق توازن بين الإصلاحات والاستقرار الاجتماعي، وإلا فقد تواجه موجة جديدة من الاضطرابات تهدد قبضتها الهشة على السلطة.