الحكومة اللبنانية الجديدة... مخاطر أن يكون الإصلاح نقيض السياسة

من سوء التقدير الآن اعتبار أن المرحلة الماضية قد طويت نهائيا

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام في القصر الرئاسي في بعبدا، لبنان في 8 فبراير

الحكومة اللبنانية الجديدة... مخاطر أن يكون الإصلاح نقيض السياسة

كيف نقرأ المشهد اللبناني الجديد مع تشكيل الحكومة الجديدة في ضوء المشهد الكلي في المنطقة وتطوراته المتسارعة وغير المسبوقة وتحديدا بعد تصريحات دونالد ترمب بشأن تهجير الفلسطينيين والإعصار السياسي الذي أحدثته في المنطقة؟

ففي هذه اللحظة الإقليمية شديدة التوتر والتعقيد والتسييس تولد حكومة لبنانية كانت سمتها المعلنة أنها غير سياسية أي إنها لا تضم حزبيين كما أكد رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، ولو كان الكثير من وزرائها قد زكّتهم الأحزاب السياسية.

إذن ثمة تناقض واضح بين الطبيعة المعلنة للحكومة بوصفها حكومة إصلاحات تضم وزراء اختصاصيين وتقنيين، وبين طبيعة المرحلة الراهنة في المنطقة بوصفها لحظة سياسية بامتياز ليس لبنان خارج تأثيراتها وانعكاساتها. لا بل إن تشكيل الحكومة بحد ذاته كان انعكاسا واضحا للمتغيرات الإقليمية التي فرضتها بشكل أساسي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وعلى لبنان والتي لا تزال مفاعيلها مستمرة في جنوبه، حيث لا يزال الجيش الإسرائيلي يحتل قرى، كما يواصل قصفه مواقع خارج منطقة جنوب نهر الليطاني كما حصل ليل الأحد- الاثنين، وليس أكيدا بعد ما إذا كان سينسحب من كامل الجنوب بحلول 18 فبراير/شباط المقبل وهو تاريخ انتهاء المهلة الممددة لانسحابه.

قد تكون المهمة السياسية للحكومة منوطة برئيسها نواف سلام وبعض الوزراء من ذوي الخبرة كغسان سلامة وزير الثقافة أو طارق متري نائب رئيس الحكومة، إلا أن ذلك لا يلغي أن مركز الثقل السياسي في البلد لا يزال ضائعا وخصوصا داخل المؤسسات الرسمية بعد أن كان طيلة المرحلة الماضية خارجها، أي لدى "حزب الله" القوة التي كانت مهيمنة على المجال السياسي داخليا وخارجيا. فهل تستطيع حكومة غير سياسية أن تملأ الفراغ السياسي في البلد؟ أم إن مركز الثقل السياسي في النظام سينحاز إلى رئاسة الجمهورية؟ وماذا عن المجلس النيابي الذي تحوّل طيلة الفترة الماضية إلى دليل دامغ على أزمة السياسة في البلد إذ كان محكوما بالتعطيل الذي تحوّل إلى السمة الأبرز للسياسة اللبنانية وعندما ينعقد فبجدول أعمال محدد مسبقا وخاضع للخطوط الحمراء التي كان يضعها "حزب الله"؟ حتى إن البرلمان لم يناقش اتفاقات مصيرية في حاضر البلد ومستقبله مثل اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل الموقع في أكتوبر/تشرين الأول 2022 أو اتفاق وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل الموقع في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وذلك في "تقليد" ممتد منذ عام 1969 عندما "أسقط" اتفاق القاهرة الموقع بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية على النواب، حتى إن النائب الراحل ريمون إده قال وقتذاك إن سائق ياسر عرفات اطلع قبل النواب اللبنانيين على مضمون الاتفاق.

تركيبة الحكومة الجديدة تقدّم جوابا أوّليا ولو غير ناجز عن المسؤولية السياسية عن الانهيار من خلال عدم إفساح المجال للأحزاب للمشاركة "الكاملة" في الحكومة

والحال، فإن الحكومة التي جاءت في تركيبتها الهجينة، بين وزراء يمثلون الأحزاب الرئيسة في البلاد وإن كانوا غير حزبيين وبين وزراء من خارج النادي السياسي، كنتيجة للمتغيرات في لبنان والمنطقة وتحديدا كنتيجة لتراجع نفوذ "حزب الله" بفعل الضربات القوية التي تلقاها خلال المعركة الأخيرة مع إسرائيل، تعبّر بدقة عن طبيعة المرحلة الجديدة في لبنان، وهي مرحلة يتجاذبها مساران، أو أن فهمها يتطلب أخذ المسارين الداخلي والخارجي المرافقين لها والمؤثرين في مستقبلها في الاعتبار، على ما بينهما من تقاطع وثيق لا يمكن القفز فوقه أو إسقاطه، على الرغم من المحاولات الداخلية لفصل أو عزل المسار السياسي اللبناني عمّا يحصل في المنطقة، وهو ما يشكّل نقطة ضعف ونقطة قوة الحكومة الجديدة في آن معا. 

أ.ف.ب
إعادة فتح الطريق بعد انتشار الجيش اللبناني في قرية رب ثلاثين الحدودية إثر انسحاب الجيش الاسرائيلي منها في 9 فبراير

فالمسار اللبناني الذي يفترض بالحكومة أن تكون نتيجة له أو جوابا عليه لا يتصل وحسب بتراجع نفوذ "حزب الله" وسطوته على الحياة السياسية، بل يتصل أيضا بنتائج الانهيار الاقتصادي والمالي الذي شهده لبنان منذ خريف عام 2019 والذي دفع بضعف الدولة وإخفاقها بتأدية وظائفها الرئيسة إلى أقصاه. وهو انهيار يجعل اختصار الأزمة اللبنانية بهيمنة "حزب الله" على الدولة والمجال السياسي قاصرا، إذ إن المسؤولية السياسية عنه تقع على عاتق كل الحقل السياسي وإن بتفاوت ضئيل بين القوى السياسية التي كانت جميعا جزءا من التركيبة السياسية الحاكمة إلى هذا الحد أو ذاك.

بالتالي فإنّ تركيبة الحكومة الجديدة تقدّم جوابا أوّليا ولو غير ناجز عن المسؤولية السياسية عن الانهيار من خلال عدم إفساح المجال للأحزاب للمشاركة "الكاملة" في الحكومة وإن كانت مشاركتها المواربة إشكالية وتحمل في طياتها جزءا من المشهد القديم. لكن من جانب آخر فإنّ الاستعاضة عن الحزبيين بشخصيتات تكنوقراطية أو إصلاحية لا تعبّر عن مشروع سياسي نقيض لمشروع الأحزاب منتهي الصلاحية من حيث قدرته على إعادة التموضع وفق الأولويات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع اللبناني ووفق المتغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، هذه الاستعاضة تجعل من الإصلاح نقيضا للسياسة عوض أن يكون توطئة ورافعة لممارسة سياسية جديدة في البلد، إلا إذا كان الوعي الحقيقي للإصلاحات الاقتصادية المطلوبة هو وعي سياسي لا تقني وحسب، أي أن يكون هدف الإصلاحات النهائي سياسيا بامتياز، أي أن يكون هدفها محاصرة السطوة الحزبية على المجال السياسي والدولة من خلال إعادة إنتاج علاقات مستقلة بين الدولة والمواطنين وإفساح المجال للمجتمع لإنتاج نخب سياسية جديدة تعبر عن مصالحه الحقيقية ودفع الأحزاب إلى تجديد خطابها ومحاكاة تلك المصالح الفعلية للبنانيين.

الأولويات السياسية للحكومة والدولة عموما والتي تفرضها التطورات في المنطقة لا يمكن أن تكون مهمة ثانوية للحكومة بدعوى الأولويات الإصلاحية

والمسألة هنا تتجاوز التعامل مع مشكلة "حزب الله" كقوة هيمنة داخلية بدعم خارجي وتتجاوز أو يفترض أن تتجاوز ديناميكية الصراع الإقليمي والدولي حول لبنان والذي دخل مرحلة جديدة الآن بعد ضعف "حزب الله" ومحاولة ترجمة هذا الضعف ضمن تركيبة السلطة اللبنانية. فالشرعية السياسية والأخلاقية للأحزاب التي تحاول أن تقدم نفسها بديلا عن "الحزب" مشكوك فيها أصلا بفعل مسؤوليتها هي الأخرى في الانهيار الاقتصادي والمالي في البلد. وهذه نقطة قوة لصالح رئيس الحكومة نواف سلام على اعتبار أن منهجيته الرئيسة في تشكيل الحكومة لم تكن قائمة على قاعدة الأخذ من "حزب الله" لإعطاء القوى السياسية المناوئة له، بل إن الأخذ منه انعكس في تركيبة الحكومة ككل من خلال عدم قدرة أي طرف فيها على تعطيلها أو فرض أولوياته عليها.

لكن مع ذلك فإنّ التوازن الهش القائم داخل الحكومة بين المنحى الحزبي الموارب والمنحى المستقل الإصلاحي ينطوي على خطر حقيقي في أن تغلب السياسة الإصلاح أو أن تملأ السياسة فراغ الإصلاح عوض أن يملأ الإصلاح فراغ السياسة، خصوصا أن الأولويات السياسية للحكومة والدولة عموما والتي تفرضها التطورات في المنطقة لا يمكن أن تكون مهمة ثانوية للحكومة بدعوى الأولويات الإصلاحية، خصوصا أن أهم الأولويات اللبنانية في المرحلة المقبلة هي استرداد الدولة للسياسة الخارجية بعد أن كانت طيلة المرحلة الماضية تحت تأثير "حزب الله". ولعلّ حدود هذا الاستراداد هو المحك الرئيس الذي يقاس على أساسه حجم التغيير السياسي الذي حصل في البلد بعد فشل "حزب الله" في ردع إسرائيل عن مهاجمة لبنان في وقت أن كل مشروعه السياسي الذي حكم لبنان على أساسه كان قائما على تقديم أولوية هذا الردع على أي أولوية داخلية سياسية أو اقتصادية.   

أ.ف.ب
رئيس الحكومة نواف سلام في قصر بعبدا بعد الإعلان عن تشكيل حكومته في 8 فبراير

لذلك فإن الحكومة اللبنانية الجديدة مطالبة أولا وبالتوازي مع عرض مشروعها الإصلاحي بأن تبلور موقفا سياسيا واضحا مما يحصل في المنطقة ولاسيما في ما يخص سياسات الإدارة الأميركية الجديدة تجاهها، وذلك ليس لأسباب فلسطينية وحسب بل لأسباب لبنانية أيضا متصلة بإعادة بناء السياسة الخارجية للدولة وفق المصلحة اللبنانية وليس تبعا لأولويات المشروع الإقليمي الذي كان يعبّر عنه "حزب الله". وهذا مدخل ضروري لإعادة إنتاج السياسة في الداخل اللبناني على أسس جديدة على اعتبار أنّ قدرة الدولة على بلورة سياسة خارجية مستقلة عن المشاريع الإقليمية تقلص حجم الاستقطاب الإقليمي والدولي في الداخل اللبناني، ولاسيما أنّ هذا الاستقطاب كان سببا رئيسا طيلة الفترة الماضية في حصر الصراع السياسي في البلد بين القوى الحزبية بحسب ولاءاتها الخارجية، عوض أن يكون هذا الصراع متمحورا حول العناوين الإصلاحية للدولة أي بين الفئات التي تدفع باتجاه الإصلاح السياسي والاقتصادي وبين تلك التي تدافع عن مكتسابتها في ظل الستاتيكو الانهياري.

من سوء التقدير الآن اعتبار أن المرحلة الماضية قد طويت نهائيا بأزماتها المعقدة ورواسبها الكامنة، إذ ثمة فارق كبير بين تراجع هيمنة "حزب الله" الذي عكسته تركيبة الحكومة الجديدة وبين اعتراف "الحزب" بهذا التراجع

 لكن من سوء التقدير الآن اعتبار أن المرحلة الماضية قد طويت نهائيا بأزماتها المعقدة ورواسبها الكامنة، إذ ثمة فارق كبير بين تراجع هيمنة "حزب الله" الذي عكسته تركيبة الحكومة الجديدة وبين اعتراف "الحزب" بهذا التراجع وضرورة القيام بمراجعة سياسية لكل تجربته السابقة والتي انتهت بفشل ذريع خلال الحرب الأخيرة عكسته مضامين اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل. فقبول "حزب الله" بولادة حكومة متحررة من قيوده لا يعني أنه مسلم بقواعد اللعبة الجديدة، وأنه لا ينتظر متغيرات خارجية تعيد إنتاج مكانته الداخلية ولو بسطوة أقل ومن دون ترسانته العسكرية الضخمة، فالواقع أنّ إيران لا تنظر إلى "ترمب الثاني" كمصدر خطر عليها وحسب بل هي تنظر إليه أيضا كفرصة رغم التشدّد الذي أبداه حيالها حتى الآن بإعادة تطبيق سياسة "الضغوط القصوى" ضدها، لكن في المقابل فإن ترمب وضع خطا أحمر وحيدا أمام إيران وهو إنتاج قنبلة نووية، أما ما دون ذلك فهو مستعد لعقد صفقة معها، ولذلك فهو لم يماش ضيفه الأول في البيت الأبيض بنيامين نتنياهو في وضع الخيار العسكري ضدّ إيران كخيار أوّل. وهذا كله ليس دون تأثير على وضعية "حزب الله" في الداخل اللبناني، على اعتبار أنّ أي اتفاق أميركي- إيراني قد ينعكس على قدرة "الحزب" على إعادة التموضع في السياسة اللبنانية ولو وفق قواعد جديدة قائمة على طي صفحة الحرب مع إسرائيل، وهل من هدية أكبر يمكن أن يقدمها "حزب الله" للأميركيين؟ لكن وإلى حين تبلور السياسات الأميركية في المنطقة، هذا إذا تبلورت واتضحت قبل نهاية ولاية ترمب، فإن "الحزب" لن يكون معنيا بتسهيل عمل الحكومة الجديدة إذا كان المقابل فرض شروط خارجية عليه، حتى لو كان ثمن ذلك تأخير إعادة الإعمال وتأخّر الإصلاحات، وهذا التحدي الأبرز أمام رئاسة جوزيف عون وحكومة نواف سلام في المرحلة المقبلة، وهذا دليل ملموس على عدم إمكان فصل الإصلاح عن السياسة في لبنان وعلى خطورة أن يكون الإصلاح نقيض السياسة.

font change