مشروع "مسح الأسلحة الصغيرة" (Small Arms Survey) هو مشروع بحثي مستقل تابع لمعهد الدراسات الدولية والتنموية في جنيف، سويسرا ويتخصص في تقديم معلومات شاملة حول جميع جوانب العنف المسلح، ويُعتبر مصدرا للمعلومات والتحليل للحكومات وصناع السياسات والباحثين والنشطاء حول النزاعات المسلحة وانتشار الأسلحة حول العالم.
في 30 يناير/كانون الثاني 2025، أصدر المشروع ورقة بحثية من إعداد الباحثين جوشوا كريز ورجاء مكاوي، بعنوان "جمهورية الكدمول: صورة لقوات الدعم السريع خلال الحرب". تقدم الورقة بعد 19 شهرا من اندلاع الحرب وبالاستناد إلى بحث ميداني مكثف ومقابلات على الأرض مع المواطنين ومع أفراد من "قوات الدعم السريع"، نظرة تحليلية ثاقبة لاستراتيجيات بقاء الميليشيا وأدواتها في التجنيد وأهدافها من الحرب بالإضافة إلى تناول مشاكل تفكك هيكل القيادة والسيطرة الخاص بالميليشيا عبر تحليل الاقتصاد السياسي للميليشيا في خضم حرب السودان المشتعلة منذ أبريل/نيسان 2023.
"الكدمول" المذكور في عنوان التقرير هو قطعة القماش التي يستخدمها أفراد ميليشيا "قوات الدعم السريع" لتغطية الرأس والوجه. وقد ارتبطت صورته بالزي العسكري لأفراد الميليشيا، حتى أصبح رمزا مميزا لهم. في الأصل، يُعد الكدمول جزءا من الزي التقليدي للرجال في بعض مناطق غرب السودان وتشاد ومالي والنيجر، حيث يُستخدم لحماية الوجه والعينين من أشعة الشمس القوية والرياح المحملة بالغبار والرمال. إلى جانب ذلك، يستخدم كقناع لإخفاء الهوية بتغطية ملامح الوجه، وهو ما جعله شائع الاستخدام بين الجماعات المسلحة في هذه المناطق، باعتباره أداة فعالة لتمويه المقاتلين وحيلولة التعرف عليهم.
ناقشت الورقة البحثية السياق التاريخي لتنامي نفوذ ميليشيا "قوات الدعم السريع" وتطورها من ميليشيات الجنجويد إلى مؤسسة موحدة تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) عبر خلفية تاريخية مفصلة تتداخل في صناعتها خمسة أركان أساسية:
التوظيف السياسي للتهميش: حيث تم استغلال الصراع في دارفور، الذي كانت جذوره مرتبطة بالتهميش السياسي بالإضافة إلى آثار التدهور البيئي الذي فاقم النزاعات بين الرعاة والمزارعين، بواسطة حكومة البشير. وقام نظام البشير باستغلال ميليشيات الجنجويد التي تنتمي إلى العناصر العربية في دارفور كألية منخفضة التكلفة للتصدي للتمرد، وهو ما أدى لعرقنة النزاعات منخفضة الشدة وتحويل صراعات الجماعات الزراعية والرعوية على الأرض والحقوق السياسية إلى نزاع وحروب إثنية. وبدلا من دفع الأموال بشكل مباشر إلى هذه القبائل، شجعت حكومة البشير قادة الجنجويد على نهب وسلب قرى خصومها مما فاقم من دوافع هذه الميليشيات ووحشيتها في القتال ضد المجتمعات غير العربية في الإقليم.
برز نجم حميدتي، كأحد قيادات الجنجويد، عبر تكتيكات القتال الوحشية التي كانت تحظى بدعم حكومي حينها. وبينما كان الجنجويد يقاتلون نظريا في جانب الحكومة، إلا أنهم استغلوا هذا النزاع والدعم الحكومي لتعزيز سيطرتهم على مناطق مختلفة من إقليم دارفور وإجبار سكانها الأصليين من القبائل غير العربية على النزوح والعيش في معسكرات النازحين.
اقتباس
يُعد الكدمول جزءا من الزي التقليدي للرجال في بعض مناطق غرب السودان وتشاد ومالي والنيجر، حيث يُستخدم لحماية الوجه والعينين من أشعة الشمس القوية والرياح المحملة بالغبار والرمال. إلى جانب ذلك، يستخدم كقناع لإخفاء الهوية بتغطية ملامح الوجه
أزمة الإنتاج: أدى فقدان احتياطيات النفط الجنوب سودانية في عام 2011 (والتي شكلت 75 في المئة من إيرادات البلاد حينها) إلى توجيه الاقتصاد السوداني نحو تعدين الذهب، والذي سيطرت ميليشيات الجنجويد على مناطق إنتاجه في إقليم دارفور. استطاع حميدتي انتزاع السيطرة الكاملة على نشاط تعدين الذهب حول منطقة جبل عامر (وهي الأغنى بالذهب في دارفور) من غريمه الأساسي والزعيم السابق للجنجويد موسى هلال. وأصبح الذهب لاحقا مصدرا رئيسا للإيرادات لميليشيا "قوات الدعم السريع" عبر التعدين المباشر أو عبر الإتاوات والرسوم التي يفرضها على شركات التعدين أو المعدنيين التقليديين الآخرين. بل إن ممارسة الإتاوات وفرض الرسوم في العقد الأساسية لسلاسل الإنتاج والنقل والتوزيع كان أكثر أهمية وربحا لحميدتي من الإنتاج المباشر، وكان أغلب هذه الموارد يتم توجيهها لصالح شركة الجنيد المملوكة لأسرة حميدتي (آل دقلو) وليس "قوات الدعم السريع" في ذاتها، والتي تحولت بشكل متزايد إلى مجرد إحدى المؤسسات المملوكة بشكل فعلي للأسرة. كما قام حميدتي باستعمال نفوذه وسيطرته على الحدود للتحكم ليس فقط في مناجم الذهب، بل أيضا في تسهيل وتيسير سبل تهريبه وحركته بشكل ساهم في توسيع اتصالاته الإقليمية ونفوذه السياسي. كما استغل حميدتي أيضا هذه السيطرة على حدود السودان الغربية، لابتزاز الدول الأوروبية والتقرب إليها مستغلا حالة الهلع الأوروبي من تدفق المهاجرين غير النظاميين إليها بشكل كبير.
منهج البشير في الحكم بالميليشيات: اعتمدت الحكومة السودانية تحت حكم عمر البشير على ميليشيات مثل "قوات الدعم السريع" لشن الحروب ضد حركات الكفاح المسلح المتمردة في هامش البلاد بتكلفة منخفضة. ومع ذلك، انقلبت هذه الاستراتيجية ضدها، حيث ازدادت صعوبة السيطرة على هذه الميليشيات بشكل متزايد، وتفاقم الأمر بعد إنشاء "قوات الدعم السريع" كقوة شبه عسكرية رسمية تحت قيادة حميدتي، والتي تحولت إلى كيان موازٍ للجيش مع تزايد السخط على هذه الاستراتيجية داخل أروقة الجيش والقوات النظامية. وحاول البشير عبر تكوين "الدعم السريع" ككيان يضم كافة تشكيلات الجنجويد والميليشيات السابقة التعامل مع مشكلة تنامي وتعدد الميليشيات وصعوبة السيطرة عليها من جانب، ومن جانب آخر إنشاء قوة موازية تحميه من أي بوادر أو مظاهر تمرد للجيش النظامي ووضعها منذ تكوينها في 2013 تحت إمرة جهاز الأمن والمخابرات ثم لاحقا في 2017 وضعها تحت إشرافه المباشر. وتعامل البشير مع "الدعم السريع" كحرسه وحمايته الخاصة ضد أي احتمالات للانقلاب عليه وخلعه.
التحالف الجيوسياسي الخارجي: قامت ميليشيا "قوات الدعم السريع" بتوفير مقاتلين مرتزقة شاركوا في النزاعات الإقليمية لصالح قوى إقليمية، وهو ما وفر لها دعما ماليا وعسكريا، مكنها من التحول إلى ما هو أشبه بشركة أمنية عابرة للحدود مع أعمال جانبية مربحة في قطاعات اقتصادية مثل التجارة والخدمات. وساهم هذا التشابه أيضا في بناء علاقة عضوية مستمرة حتى الآن بين ميليشيا "قوات الدعم السريع" وقوات شركة "فاغنر" الروسية، والتي ارتبطت مع "الدعم السريع" في عدد من المشاريع والتدخلات المشتركة من ليبيا وأفريقيا الوسطى وحتى مالي والنيجر.
وبحلول عام 2017، أصبحت "قوات الدعم السريع" كيانا اقتصاديا ضخما يعتمد على تصدير ثلاث سلع أساسية ويتربح منها: الذهب والمرتزقة والثروة الحيوانية، هو ما سمح لها بمزيد من الاستقلال عن الجيش النظامي. وتذكر الورقة أن الميليشيا كانت تتقاضى مقابل نشر الجندي الواحد في أماكن القتال لمدة ستة أشهر حوالي 22 ألف دولار، ويتقاضى الجندي نصفها (10 آلاف دولار) عند عودته بعد انتهاء الأشهر الستة. وهو ما جعل الانخراط في صفوف الميليشيا هو أحد الأنشطة الاقتصادية الجاذبة لكسب العيش في المجتمعات التي كسرت الحرب والتغيرات البيئية سبل العيش الطبيعية فيها (الرعي والزراعة).