جمهورية "الكدمول"…. صورة لـ "الدعم السريع" خلال الحرب

دولة بلا هياكل رسمية

AFP
AFP
عناصر من "قوات الدعم السريع" في السودان

جمهورية "الكدمول"…. صورة لـ "الدعم السريع" خلال الحرب

مشروع "مسح الأسلحة الصغيرة" (Small Arms Survey) هو مشروع بحثي مستقل تابع لمعهد الدراسات الدولية والتنموية في جنيف، سويسرا ويتخصص في تقديم معلومات شاملة حول جميع جوانب العنف المسلح، ويُعتبر مصدرا للمعلومات والتحليل للحكومات وصناع السياسات والباحثين والنشطاء حول النزاعات المسلحة وانتشار الأسلحة حول العالم.

في 30 يناير/كانون الثاني 2025، أصدر المشروع ورقة بحثية من إعداد الباحثين جوشوا كريز ورجاء مكاوي، بعنوان "جمهورية الكدمول: صورة لقوات الدعم السريع خلال الحرب". تقدم الورقة بعد 19 شهرا من اندلاع الحرب وبالاستناد إلى بحث ميداني مكثف ومقابلات على الأرض مع المواطنين ومع أفراد من "قوات الدعم السريع"، نظرة تحليلية ثاقبة لاستراتيجيات بقاء الميليشيا وأدواتها في التجنيد وأهدافها من الحرب بالإضافة إلى تناول مشاكل تفكك هيكل القيادة والسيطرة الخاص بالميليشيا عبر تحليل الاقتصاد السياسي للميليشيا في خضم حرب السودان المشتعلة منذ أبريل/نيسان 2023.

"الكدمول" المذكور في عنوان التقرير هو قطعة القماش التي يستخدمها أفراد ميليشيا "قوات الدعم السريع" لتغطية الرأس والوجه. وقد ارتبطت صورته بالزي العسكري لأفراد الميليشيا، حتى أصبح رمزا مميزا لهم. في الأصل، يُعد الكدمول جزءا من الزي التقليدي للرجال في بعض مناطق غرب السودان وتشاد ومالي والنيجر، حيث يُستخدم لحماية الوجه والعينين من أشعة الشمس القوية والرياح المحملة بالغبار والرمال. إلى جانب ذلك، يستخدم كقناع لإخفاء الهوية بتغطية ملامح الوجه، وهو ما جعله شائع الاستخدام بين الجماعات المسلحة في هذه المناطق، باعتباره أداة فعالة لتمويه المقاتلين وحيلولة التعرف عليهم.

ناقشت الورقة البحثية السياق التاريخي لتنامي نفوذ ميليشيا "قوات الدعم السريع" وتطورها من ميليشيات الجنجويد إلى مؤسسة موحدة تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) عبر خلفية تاريخية مفصلة تتداخل في صناعتها خمسة أركان أساسية:

التوظيف السياسي للتهميش: حيث تم استغلال الصراع في دارفور، الذي كانت جذوره مرتبطة بالتهميش السياسي بالإضافة إلى آثار التدهور البيئي الذي فاقم النزاعات بين الرعاة والمزارعين، بواسطة حكومة البشير. وقام نظام البشير باستغلال ميليشيات الجنجويد التي تنتمي إلى العناصر العربية في دارفور كألية منخفضة التكلفة للتصدي للتمرد، وهو ما أدى لعرقنة النزاعات منخفضة الشدة وتحويل صراعات الجماعات الزراعية والرعوية على الأرض والحقوق السياسية إلى نزاع وحروب إثنية. وبدلا من دفع الأموال بشكل مباشر إلى هذه القبائل، شجعت حكومة البشير قادة الجنجويد على نهب وسلب قرى خصومها مما فاقم من دوافع هذه الميليشيات ووحشيتها في القتال ضد المجتمعات غير العربية في الإقليم.

برز نجم حميدتي، كأحد قيادات الجنجويد، عبر تكتيكات القتال الوحشية التي كانت تحظى بدعم حكومي حينها. وبينما كان الجنجويد يقاتلون نظريا في جانب الحكومة، إلا أنهم استغلوا هذا النزاع والدعم الحكومي لتعزيز سيطرتهم على مناطق مختلفة من إقليم دارفور وإجبار سكانها الأصليين من القبائل غير العربية على النزوح والعيش في معسكرات النازحين.

اقتباس

يُعد الكدمول جزءا من الزي التقليدي للرجال في بعض مناطق غرب السودان وتشاد ومالي والنيجر، حيث يُستخدم لحماية الوجه والعينين من أشعة الشمس القوية والرياح المحملة بالغبار والرمال. إلى جانب ذلك، يستخدم كقناع لإخفاء الهوية بتغطية ملامح الوجه

أزمة الإنتاج: أدى فقدان احتياطيات النفط الجنوب سودانية في عام 2011 (والتي شكلت 75 في المئة من إيرادات البلاد حينها) إلى توجيه الاقتصاد السوداني نحو تعدين الذهب، والذي سيطرت ميليشيات الجنجويد على مناطق إنتاجه في إقليم دارفور. استطاع حميدتي انتزاع السيطرة الكاملة على نشاط تعدين الذهب حول منطقة جبل عامر (وهي الأغنى بالذهب في دارفور) من غريمه الأساسي والزعيم السابق للجنجويد موسى هلال. وأصبح الذهب لاحقا مصدرا رئيسا للإيرادات لميليشيا "قوات الدعم السريع" عبر التعدين المباشر أو عبر الإتاوات والرسوم التي يفرضها على شركات التعدين أو المعدنيين التقليديين الآخرين. بل إن ممارسة الإتاوات وفرض الرسوم في العقد الأساسية لسلاسل الإنتاج والنقل والتوزيع كان أكثر أهمية وربحا لحميدتي من الإنتاج المباشر، وكان أغلب هذه الموارد يتم توجيهها لصالح شركة الجنيد المملوكة لأسرة حميدتي (آل دقلو) وليس "قوات الدعم السريع" في ذاتها، والتي تحولت بشكل متزايد إلى مجرد إحدى المؤسسات المملوكة بشكل فعلي للأسرة. كما قام حميدتي باستعمال نفوذه وسيطرته على الحدود للتحكم ليس فقط في مناجم الذهب، بل أيضا في تسهيل وتيسير سبل تهريبه وحركته بشكل ساهم في توسيع اتصالاته الإقليمية ونفوذه السياسي. كما استغل حميدتي أيضا هذه السيطرة على حدود السودان الغربية، لابتزاز الدول الأوروبية والتقرب إليها مستغلا حالة الهلع الأوروبي من تدفق المهاجرين غير النظاميين إليها بشكل كبير.

منهج البشير في الحكم بالميليشيات: اعتمدت الحكومة السودانية تحت حكم عمر البشير على ميليشيات مثل "قوات الدعم السريع" لشن الحروب ضد حركات الكفاح المسلح المتمردة في هامش البلاد بتكلفة منخفضة. ومع ذلك، انقلبت هذه الاستراتيجية ضدها، حيث ازدادت صعوبة السيطرة على هذه الميليشيات بشكل متزايد، وتفاقم الأمر بعد إنشاء "قوات الدعم السريع" كقوة شبه عسكرية رسمية تحت قيادة حميدتي، والتي تحولت إلى كيان موازٍ للجيش مع تزايد السخط على هذه الاستراتيجية داخل أروقة الجيش والقوات النظامية. وحاول البشير عبر تكوين "الدعم السريع" ككيان يضم كافة تشكيلات الجنجويد والميليشيات السابقة التعامل مع مشكلة تنامي وتعدد الميليشيات وصعوبة السيطرة عليها من جانب، ومن جانب آخر إنشاء قوة موازية تحميه من أي بوادر أو مظاهر تمرد للجيش النظامي ووضعها منذ تكوينها في 2013 تحت إمرة جهاز الأمن والمخابرات ثم لاحقا في 2017 وضعها تحت إشرافه المباشر. وتعامل البشير مع "الدعم السريع" كحرسه وحمايته الخاصة ضد أي احتمالات للانقلاب عليه وخلعه.

التحالف الجيوسياسي الخارجي: قامت ميليشيا "قوات الدعم السريع" بتوفير مقاتلين مرتزقة شاركوا في النزاعات الإقليمية لصالح قوى إقليمية، وهو ما وفر لها دعما ماليا وعسكريا، مكنها من التحول إلى ما هو أشبه بشركة أمنية عابرة للحدود مع أعمال جانبية مربحة في قطاعات اقتصادية مثل التجارة والخدمات. وساهم هذا التشابه أيضا في بناء علاقة عضوية مستمرة حتى الآن بين ميليشيا "قوات الدعم السريع" وقوات شركة "فاغنر" الروسية، والتي ارتبطت مع "الدعم السريع" في عدد من المشاريع والتدخلات المشتركة من ليبيا وأفريقيا الوسطى وحتى مالي والنيجر.

وبحلول عام 2017، أصبحت "قوات الدعم السريع" كيانا اقتصاديا ضخما يعتمد على تصدير ثلاث سلع أساسية ويتربح منها: الذهب والمرتزقة والثروة الحيوانية، هو ما سمح لها بمزيد من الاستقلال عن الجيش النظامي. وتذكر الورقة أن الميليشيا كانت تتقاضى مقابل نشر الجندي الواحد في أماكن القتال لمدة ستة أشهر حوالي 22 ألف دولار، ويتقاضى الجندي نصفها (10 آلاف دولار) عند عودته بعد انتهاء الأشهر الستة. وهو ما جعل الانخراط في صفوف الميليشيا هو أحد الأنشطة الاقتصادية الجاذبة لكسب العيش في المجتمعات التي كسرت الحرب والتغيرات البيئية سبل العيش الطبيعية فيها (الرعي والزراعة).

يُعدّ الكدمول جزءًا من الزي التقليدي للرجال في بعض مناطق غرب السودان وتشاد ومالي والنيجر، حيث يُستخدم لحماية الوجه والعينين من أشعة الشمس القوية والرياح المحملة بالغبار والرمال. إلى جانب ذلك، يستخدم كقناع لإخفاء الهوية بتغطية ملامح الوجه

الصعود السياسي لحميدتي: بعد سقوط البشير في عام 2019، وضع حميدتي نفسه كشخصية سياسية رئيسة، متحالفا مع القوات المسلحة السودانية وحاول لاحقا بناء قاعدة سياسية وطنية. ولكن السمعة التي ارتبطت بتاريخه أدت إلى عدم تمكنه من كسب قبول سياسي وسط السودانيين. ولكن حميدتي استغل هذا النفوذ السياسي في البداية لإلغاء قانون كان قد صدر في 2019، يضع "قوات الدعم السريع" تحت قيادة رئيس الأركان المشتركة للقوات المسلحة السودانية، وجعلها بدلا من ذلك مسؤولة فقط أمام الرئاسة، وهو المنصب الذي أصبح فارغا بعد سقوط البشير.

لاحقا وفي رحلة البحث عن القبول السياسي، والذي لم ينجح فيه عبر محاولات استغلال الإدارات الأهلية والتقليدية، ومحاولات بناء قاعدة انتخابية، تحالف حميدتي مع الجيش السوداني في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، الذي أطاح بالحكومة المدنية، ثم عاد وتحالف مع جزء من سياسيي "تحالف قوى الحرية والتغيير" (تقدم حاليا) عندما تبين له أن الرفض الشعبي والسياسي الدولي للانقلاب سيؤدي إلى إنهائه بلا شك. وكانت المطالبات بسرعة إدماج الميليشيا في صفوف جيش وطني موحد في البلاد، خلال مفاوضات عكس مسار الانقلاب عبر ما عرف بالاتفاق الإطاري والتي كانت ستنهي الوجود المؤسسي المستقل لـ"قوات الدعم السريع"، هي الشرارة التي أشعلت الاستقطاب الحاد والذي انتهى بالحرب.

تعمقت الورقة في دراسة الاقتصاد السياسي لـ"قوات الدعم السريع"، خصوصا بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، وأسمته نموذج الاقتصاد الافتراسي والذي يعتمد على العنف بشكل أساسي. ووصفت نمط الحرب الذي تمارسه الميليشيا بأنه نظام يقوم على تدمير مؤسسات الدولة واستغلال موارد السودان. واعتمد في تحليله لهذا النمط على الجوانب الرئيسة الآتية:

Reuters
محمد حمدان دقلو مع أنصاره من "قوات الدعم السريع"، 28 يوليو 2023

التجنيد والتعبئة: تغيرت استراتيجيات تجنيد "قوات الدعم السريع" بمرور الوقت. عند إنشاء الدعم السريع في 2013 كان عدد أفرادها 6000 مقاتل وكانت قيادتها بالكامل من عائلة حميدتي. وعند اندلاع الحرب في 2023، أعلنت الميليشيا أن عدد مقاتليها يبلغ 300 ألف مقاتل، فيما كانت أقل تقديرات المصادر الأخرى أن حجمها يبلغ 70 ألف مقاتل. والراجح أن العدد الحقيقي هو في مكان بين هذين الرقمين ولكن هذا الرقم يبقى سائلا ويتغير بشكل مطرد. فبحسب شهادة أحد سكان مدينة نيالا "حتى حميدتي نفسه لم يكن يعرف دائما عدد المسلحين الذين يقاتلون مع قواته لأنه في كل صباح كان بعضهم يغادر والبعض الآخر ينضم، بما في ذلك سكان المدن التي استولت عليها قوات الدعم السريع".

وقد بذلت الميليشيا جهودا أولية بعد اندلاع الحرب- بل وحتى من قبل ذلك- لتجنيد العرب غير الدارفوريين ومجتمعات الفلاتة والعناصر غير العربية الأخرى باستخدام إغراءات الرواتب الجيدة، ولكن مع تقدم الحرب، عادت الميليشيا إلى أسلوبها الأصلي في التجنيد بالاعتماد بشكل متزايد على التعبئة العرقية، خاصة بين مجتمعات العرب الدارفوريين، للحفاظ على قواتها. واستعملت الخطاب الإثني ونشر الخوف من أن الهوية العربية مهددة في دارفور وأن هذه الحرب هي حرب بقاء لمجتمعاتهم لتجذب إلى صفوفها الكثير من القوات وحتى بعض القادة العسكريين الذين ناصبوها العداء في وقت سابق مثل علي رزق الله (السافانا) والذي أصبح يشغل منصب قائد "قوات الدعم السريع" في دارفور. ولكن أغلب هذه القوات التي انضمت مؤخرا إلى الميليشيا كانت تميل إلى القتال بشكل التعبئة الموسمية والمؤقتة لتنفيذ أغراض محددة (مثل النهب أو الانتقام أو غير ذلك) فيما يعرف باسم (الفزع) بدلا من الاندماج في هياكل "الدعم السريع".

وأدى ذلك إلى تفتت داخلي، حيث سعت المجموعات القبلية المختلفة داخل القوات إلى تحقيق أجنداتها السياسية المحلية، كما أن المناصب القيادية والتمييز الذي كان يختص به حميدتي عائلته وعشيرته المباشرة المعروفة باسم أولاد منصور، أثار حفيظة المكونات الأخرى وأدى إلى مزيد من التفتت الداخلي في هياكل "الدعم السريع". كما أدى اعتماد "قوات الدعم السريع" على التعبئة العرقية إلى صراعات داخلية بين مكوناتها، خاصة في دارفور.

وتصف الورقة بالتفصيل مع أمثلة من الأرض، كيف أن توزيع الأسلحة والموارد لمختلف الجماعات العرقية المكونة لـ"الدعم السريع" قد فاقم الصراعات المحلية بينهم، مما جعل من الصعب على حميدتي الحفاظ على السيطرة على قواته.

نمط الاقتصاد الافتراسي: أعتمد النموذج الاقتصادي لـ"قوات الدعم السريع" على النهب والضرائب والتحكم في الموارد الرئيسة مثل الذهب والماشية والتجارة عبر الحدود. وسلطت الورقة الضوء على كيفية قيام الميليشيا بدفع رواتب مغرية لقادة ومقاتلي الميليشيا عبر استغلال نفوذها الاقتصادي المتزايد وسطوتها على جهاز الدولة لاحتكار تجارة الذهب والماشية بالإضافة إلى الموارد التي وفرتها أنشطة الارتزاق الخارجي، ولكنها بعد اندلاع الحرب لجأت إلى ترخيص النهب وسرقة السلع والسماح لهولاء القادة والمقاتلين بفرض الإتاوات والضرائب التي يتم جمعها عند نقاط التفتيش، مما يخلق نظاما افتراسيا ذاتي الاستدامة يقوض أي إمكانية لبناء الدولة. كما أن استمرار سيطرة الميليشيا على مناطق غنية لتعدين الذهب مثل حفرة النحاس ومنطقة كافي كنجي المتاخمة لجنوب السودان– ومناجم سونغو، جنوب دارفور المتاخمة لأفريقيا الوسطى لا يزال يسمح بتدفقات مالية كبيرة يستحيل تقدير حجمها خلال فترة الصراع المستمر. وبينما لا يزال أفراد "قوات الدعم السريع" يتلقون الأجور، في الغالب نقدا، ويرجع ذلك جزئيا إلى النهب الواسع للبنوك والبيوت والمخازن والأسواق التجارية في الخرطوم وفي كل مدينة تقوم "الدعم السريع" بالسيطرة عليها منذ بداية الحرب، (وهو ما دفع الحكومة السودانية لقرار تغيير العملة) فإن المجندين الجدد يحصلون على مبالغ مقطوعة صغيرة، مع الوعد بحصص ومكافآت مستقبلية من النهب ويتم تشجيعهم عليه وتبريره لهم باعتباره انتقاما من التهميش التاريخي الذي عانت منه مجتمعاتهم. حيث يتم تصوير الأمر على أنهم مُهمشون من قِبَل دولة 1956، التي لا تزال تُحكم سيطرتها عليهم.

ووفقا لهذه السردية، ينبغي إعادة الممتلكات المنهوبة من الخرطوم إلى دارفور، باعتبارها ثروات سلبها المركز من الأطراف. لكن هذا الطرح لا يعكس الواقع، إذ تعرضت مدن مثل نيالا وزالنجي والجنينة وغيرها للنهب أيضا. وفي الحقيقة، يُعيد الاقتصاد السياسي الذي أسسته "قوات الدعم السريع" إنتاج هيكل الحكم الذي رسخه البشير. فبينما نهب نظام البشير موارد الأطراف لصالح المركز، تعاملت "قوات الدعم السريع" مع البلاد بأكملها كمصدر مفتوح لاستخراج الثروات.. وهو ما يجعل النهب ليس مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل هو جزء هيكلي من كيفية دفع تمويل "قوات الدعم السريع"، وهو ما ناسب أعدادا كبيرة من اللصوص وقاطعي الطرق والهاربين من السجون الذين انضموا إلى صفوف "الدعم السريع" بأعداد كبيرة. هذا النهج يهدد أيضا قدرة "قوات الدعم السريع" على الالتزام بأي هدنة أو اتفاق لوقف إطلاق النار، إذ تعتمد الميليشيا على التوسع المستمر ونهب مناطق جديدة للحفاظ على بقائها. فاستمرار تحالفها والتزام المقاتلين بالوجود فيها مرهون بتوسع مستمر، وهو أمر ضروري لتمويل هذه القوات عبر نهب موارد جديدة وجباية الضرائب من نقاط التفتيش. غير أن هذا التوسع يضع "قوات الدعم السريع" في أزمة مستمرة، حيث تجد نفسها دائما بحاجة إلى أراضٍ جديدة للسيطرة عليها، وإلا ستواجه خطر تفكك تحالفها وانهيار قواتها. وبذلك، يصبح التوصل إلى وقف إطلاق نار مستقر أمرا شبه مستحيل.

بحلول العام 2017، أصبحت "قوات الدعم السريع" كيان اقتصادي ضخم يعتمد على تصدير ثلاثة سلع أساسية ويتربح منها: الذهب والمرتزقة والثروة الحيوانية، هو ما سمح لها بمزيد من الاستقلال عن الجيش النظامي

فشل الحوكمة العامة: تعتمد "قوات الدعم السريع" على استراتيجية تمايز الحكم بين المناطق التي تسيطر عليها، وهو ما ظهر جليا في طبيعة احتلالها وتفاعلها مع السكان في العاصمة الخرطوم خلال فترة سيطرتها عليها. وشهدت مدينة أم درمان أعنف المعارك في العاصمة الخرطوم بين الجيش و"الدعم السريع"، ما جعل بنيتها الإدارية أقل وضوحا، نظرا لاحتوائها على أهم المنشآت العسكرية للقوات المسلحة السودانية. ولكن "قوات الدعم السريع" سيطرت على وسط وشمال أم درمان، وبسطت سيطرتها على إدارة أكبر أسواق المدينة مثل ليبيا وقندهار (التي تمتد منهما الطرق باتجاه دارفور) وتم فرض نظام مراقبة مشددا يشمل تفتيش الهواتف ومصادرة الممتلكات والمنقولات. في الخرطوم، وعززت الميليشيا هيمنتها عبر الاستيلاء على معسكرات القوات المسلحة ومخازن الوقود، ما ساهم في إعادة تشكيل الاقتصاد المحلي. وأتاحت الأسواق الجديدة، والتي تمت تسميتها "أسواق دقلو"، بروز منظومة اقتصادية قائمة على النهب وإعادة بيع الممتلكات المنهوبة، هيمنت عليها شبكات تجارية مرتبطة بـ"قوات الدعم السريع". وتستند هذه الأسواق إلى بنية تحتية تعمل وفق منطق الاقتصاد الافتراسي، حيث يتم بيع البضائع بأسعار زهيدة بعد التحصل عليها بالسلب المنظم للبيوت الخاوية والمستودعات والأسواق وممتلكات النازحين والمستشفيات والمدارس وبقية المرافق العامة. ويتولى إدارة هذا النظام تسلسل هرمي جديد من التجار الجدد، المؤيدين لجنود "قوات الدعم السريع" وحلفائهم والمرتبطين بهم.

AFP
نازحون سودانيون

وبشكل رئيس ارتبطت سيطرة "الدعم السريع" على المناطق التي تحتلها بالسيطرة على نظامها الاقتصادي بشتى الطرق. وفي ظل تعذر مغادرة الخرطوم، أصبحت سوق مايو جزءا أساسيا من شبكة الإمداد التابعة لـ"قوات الدعم السريع"، حيث تحولت سوق مايو الجديدة إلى نقطة توزيع رئيسة تربط المراكز الاقتصادية الأخرى، فضلا عن كونها مركزا قياديا مهماً للميليشيا. ويعكس صعود "مايو" كمحور للحكم تحولات مراكز النفوذ وفقا لمتطلبات الصراع وآليات النهب .أما سوق الكلاكلة اللفة، التي تقع جنوب الخرطوم وتضم الميناء البري الجديد للمدينة، فتخضع إدارتها لاستخبارات "قوات الدعم السريع"، التي تراقب حركة الدخول والخروج من العاصمة. وفي أم درمان، تقل الأسواق، وتظل سوق ليبيا الأهم نظرا لموقعها الاستراتيجي على الطريق الغربي الرابط بين الخرطوم ودارفور، وهو ممر حيوي لنقل الأسلحة والمقاتلين. وتخضع جميع الأنشطة الاقتصادية في هذه المناطق لنظام تصاريح وجبايات معقد، مما يعزز قبضة "قوات الدعم السريع" على الموارد.                                                                     

أما شرق النيل، حيث تتمركز قاعدة "قوات الدعم السريع"، فيتبع نموذج حكم مختلفا تماما عن بقية المناطق الخاضعة لسيطرتها. ويتمتع شرق النيل بموقع استراتيجي شمال شرقي الخرطوم، مما يسهل الوصول إلى سهول البطانة الشاسعة، ويمكن من تحريك القوات والإمدادات بسهولة. ولم يشهد هذا الحي أي معارك منذ اندلاع الحرب، إذ كان تاريخيا معقلا اجتماعيا لـ"قوات الدعم السريع"، ويضم عناصرها الذين كانوا جزءا من الحياة الحضرية للخرطوم قبل النزاع. ويوفر شرق النيل نمط حكم أكثر تنظيما مقارنة ببقية مناطق الخرطوم الخاضعة للميليشيا. فقد أنشأت "قوات الدعم السريع" هياكل شبه حكومية، حيث استولت على مؤسسات الدولة مثل مراكز الشرطة والنيابة والمحاكم، وعينت عناصرها لإدارة الشؤون اليومية، بما في ذلك الفصل في قضايا السرقة والانضباط بين مقاتليها. كما شجعت على اقتصاد أكثر انفتاحا، حيث يُسمح لجميع السكان بالتجارة دون قيود، مع إعفائهم من ضرائب الدخل، ومنح تصاريح مجانية عند نقاط التفتيش. وفي هذا السياق، أصبح بيع السلع المسروقة أو المهربة في الأسواق المحلية، سواء من قبل التجار أو النساء أو الأطفال غير الملتحقين بالمدارس، جزءا لا يتجزأ من اقتصاد النهب الذي تديره "قوات الدعم السريع". وبالرغم من الرخص النسبي الذي ميز السلع المعروضة في أسواق دقلو في بداية الحرب، فإن انقطاع سلاسل التوريد وتناقص حصيلة النهب والسلب أدى إلى حالة من الندرة تدريجيا، ظهرت في الارتفاع المطرد لأسعار السلع المعروضة، وهو ما أدى إلى تزايد اعتماد الميليشيا على نقاط التفتيش كآلية للتحصيل النقدي في نمط الاقتصاد الافتراسي بدلا من أنشطة التجارة المباشرة.

التجنيد وتسلسل العمل الهرمي: هيكلة "قوات الدعم السريع": تدير "قوات الدعم السريع" اقتصادا توزيعيا جديدا في الخرطوم قائما على شبكة من المقاولين الفرعيين. ومع بداية الحرب، استندت حملات التجنيد التي نظمتها "قوات الدعم السريع"، والمعروفة باسم "الفزعة"، إلى وعد بالمكافآت من خلال النهب. وسرعان ما غادرت الموجة الأولى من مقاتلي "الدعم السريع" الخرطوم محملين بالغنائم المنهوبة من المنازل. مما أدى إلى تناقص عدد المقاتلين في المدينة، الأمر الذي فرض نظام توظيف ثنائي المستويات يشمل التجنيد الإجباري والانخراط الطوعي. ووثق الكثير من التقارير أن "قوات الدعم السريع" استخدمت أساليب قسرية لإجبار الرجال والفتيان على الانضمام إلى صفوفها، شملت التخويف والتجويع. ومع تضاؤل أعداد المقاتلين، أصبح القتال أولوية قصوى، حيث تم إجبار جميع المجندين، بغض النظر عن خلفياتهم أو تدريبهم أو أعمارهم، على المشاركة في المعارك. وأفاد بعض الشهود بأن أطفالا لا تتجاوز أعمارهم ثماني أو تسع سنوات، جرى تجنيدهم في البداية كجواسيس، لكنهم أُوكلت إليهم لاحقا مهام مثل قيادة المركبات أثناء الهجمات، بل وتم تقييد بعضهم بعجلات القيادة لمنعهم من الفرار.

الهيكل الهرمي للعمل في "قوات الدعم السريع"

تتوزع الوظائف في "قوات الدعم السريع" على خمسة مستويات رئيسة:

الجنود- يمثلون العمود الفقري للمنظومة القتالية.

المخبرون- مكلفون بجمع المعلومات الاستخبارية لصالح "القوات".

السائقون- ينقلون الأفراد والنهب عبر نقاط التفتيش.

اللصوص- ينفذون عمليات النهب.

العمال المؤقتون- يساعدون في تحديد المنازل والأهداف القيمة.

أ.ب
الدخان يتصاعد فوق الخرطوم في 8 يونيو 2023، مع استمرار القتال بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع"

ويحتل المجندون من قبائل الرزيقات والمحاميد قمة هذا التسلسل الهرمي، حيث يشغلون مناصب قادة ميدانيين ويشرفون على الأسواق وسلاسل الإمداد. وشجعت "قوات الدعم السريع" التجنيد على أسس اجتماعية وإثنية، سواء كإجراء استباقي للحماية من انتقام القوات المسلحة السودانية أو كوسيلة للإثراء. ولا تزال مسألة ما إذا كان جميع الجنود والمجندين يتلقون رواتب منتظمة غير واضحة. لكن الحوافز المالية تُظهر تفضيلا واضحا للمهام القتالية، حيث يحصل المقاتلون على ما بين 600 ألف إلى 800 ألف جنيه سوداني (1000–1300 دولار أميركي)، إضافة إلى نسبة من الغنائم. ويعمل هذا النظام على تعزيز الفوارق داخل هرم العمالة، مما يجعل الارتزاق العسكري هو الخيار الأكثر جاذبية.

دمج السوق مع الحرب: خلق نظام العمل والتجنيد داخل "قوات الدعم السريع" تكاملا بين الاقتصاد والحرب، حيث أصبح الجنود والتجار وجهين لعملة واحدة. فمن خلال مواقعهم داخل منظومة النهب والإنتاج، ويقوم الجنود- التجار بتنسيق عمليات البيع والشراء مقابل عمولات ضخمة، مما يسهم في توسع اقتصاد "قوات الدعم السريع". أدى هذا التسلسل الهرمي إلى خلق تحالفات جديدة، حيث أصبح المخبرون، على سبيل المثال، يمتلكون امتيازات إضافية مثل تشغيل الأكشاك أو العربات المتنقلة، مما جعلهم اقتصاديا مرتبطين بنجاح وقدرة "الدعم السريع" على الحفاظ على إدارة المنطقة. ومن ناحية أخرى، يتعاون العمال اليوميون مع القادة الميدانيين في تحديد المنازل الأكثر قيمة، ليحصلوا على نسبة من العائدات، بينما يقوم اللصوص بتنفيذ عمليات النهب.

بحسب أحد الشهود المقيمين داخل مناطق سيطرة "الدعم السريع"، تحسنت الأوضاع المالية للمجندين وعائلاتهم بشكل ملحوظ بعد بضعة أشهر من اندلاع الحرب. ويرجع ذلك جزئيا إلى سهولة التجنيد، حيث أتاحت "قوات الدعم السريع" الفرصة لمجموعات مهمشة كانت مستبعدة من التجنيد العسكري التقليدي، على عكس القوات المسلحة السودانية التي تعتمد على قواعد تنظيمية صارمة تحدد شروط العضوية. ويستطيع أي شخص، بغض النظر عن عمره أو خلفيته، التقدم للانضمام عبر نقاط التفتيش، حيث يتم فحصه أمنيا قبل السماح له بالالتحاق. وبعد اجتياز هذا الفحص، يكون على المجند أن يثبت نفسه في نظام تنافسي قائم على الحاجة والطلب. من خلال التحرر من القيود البيروقراطية والنظامية، ونجحت "قوات الدعم السريع" في التجنيد بشكل أكثر كفاءة مستغلة محفزات الجوع والخوف من العنف كآلية للتوظيف.

اعتمد النموذج الاقتصادي لـ "قوات الدعم السريع" على النهب والضرائب والتحكم في الموارد الرئيسية مثل الذهب والماشية والتجارة عبر الحدود


تقدم خاتمة التقرير مفهوم "جمهورية الكدمول" الذي يشير إلى دولة بلا هياكل رسمية، بل تدير نفسها من خلال استغلال وتدمير المؤسسات الرسمية وتعتمد على الاقتصاد الافتراسي المبني على النهب، حيث يتم تحقيق السيطرة على الأراضي والموارد عن طريق تقويض الأنظمة الرسمية التقليدية. حتى في الخرطوم، حيث بذلت "قوات الدعم السريع" جهودا كبيرة لإنشاء آليات حكومية لضمان السيطرة على الأراضي، فإن هذه الآليات هي جزء من منطق استغلالي مفترس يعتمد على ابتزاز السكان المحليين.

ويشير التقرير إلى أن التفكك المتزايد في هيكلية "الدعم السريع" سيجعل دوافع القادة الميدانيين غير مرتبطة بأهداف القيادة العليا. هذا التفكك يعقد قدرة عائلة دقلو على فرض وقف إطلاق النار، مما يجعل احتمالات التوصل إلى اتفاق سلام دائم صعبة. لذلك، يجب أن تكون مفاوضات وقف إطلاق النار شاملة وتشمل جميع الأطراف الفاعلة على الأرض، سواء كانت مدنية أو عسكرية، والتي تتحمل المسؤولية عن الحرب.

يقدم التقرير صورة قاتمة عن مستقبل السودان في ظل استمرار الحرب، ويؤكد أن "قوات الدعم السريع" تمثل تحديا رئيسا لأي جهود لتحقيق الاستقرار. فبينما كانت في البداية أداة للحكومة السودانية لقمع التمرد، تحولت إلى قوة مستقلة ذات أجندة خاصة، مما يُعقد أي حلول سياسية مستقبلية. وهو ما يبرز الحاجة إلى استراتيجيات دولية ومحلية أكثر قدرة على فهم كيفية التعامل مع هذه القوة المسلحة، سواء عبر العقوبات الاقتصادية، أو تفكيك شبكات تمويلها، أو إيجاد حلول تضمن دمج عناصرها في هياكل أكثر استقرارا، بعيدا عن النهب واقتصاد الحرب.

font change