سوريا... تخفيف العقوبات وحده لن يُنعش الاقتصاد

دعم عربي تقوده دول الخليج وحاجة لمساهمة المنظمات الدولية والجهات المانحة والقطاع الخاص

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
محطة قطار الحجاز التاريخية في دمشق، 26 يناير 2025

سوريا... تخفيف العقوبات وحده لن يُنعش الاقتصاد

إن تعليق بعض العقوبات المفروضة على سوريا هو خطوة نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي، لكنه ليس كافيا على الإطلاق لدفع عجلة التعافي في البلاد. فلا بد من تقديم دعم دولي منسق لعملية إعادة الإعمار. ولدول الخليج مصلحة في القيام بدور رئيس في تشكيل مستقبل سوريا الاقتصادي لضمان الاستقرار والأمن في بلاد الشام.

أعلن الاتحاد الأوروبي في 27 يناير/كانون الثاني تعليق بعض العقوبات المفروضة على سوريا، لا سيما في قطاعات الطاقة والنقل والتصدير والمصارف. ويهدف القرار إلى تحقيق الاستقرار في اقتصاد البلاد وتسهيل تقديم المساعدات الإنسانية. غير أن تخفيف العقوبات مشروط بالتزام السلطات السورية عملية الانتقال الديمقراطي وتفكيك برنامج الأسلحة الكيميائية لنظام الأسد.

أدى ما يزيد على عشر سنوات من الحرب الأهلية والعقوبات الدولية، إلى شل الاقتصاد السوري. إذ انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 64 في المئة منذ عام 2011، وانهار الاستثمار الأجنبي المباشر وفقا للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا).

على الرغم من أن المبادرة الأوروبية توفر متنفسا للحكومة السورية لتهدئة الأزمة الاقتصادية والإنسانية، فإن التدابير الموقتة ليست كافية لبدء عملية التعافي

وخلال فترة النزاع، لجأ نظام الأسد بشكل متزايد إلى نشاطات غير مشروعة، مثل الاتجار بالمخدرات - ولا سيما الكبتاغون – لتوفير العملة الأجنبية التي يحتاج إليها بشدة. ويتعين الآن على الحكومة السورية الجديدة إيجاد طرق قانونية لتأمين الأموال. لكن بما أن الصادرات الشرعية تحقق جزءا يسيرا فقط من الإيرادات غير المشروعة في زمن الحرب، يبقى السؤال المطروح: من أين ستأتي الأموال؟

تخفيف العقوبات ليس كافيا

على الرغم من أن المبادرة الأوروبية توفر متنفسا للحكومة السورية لتهدئة الأزمة الاقتصادية والإنسانية، فإن التدابير المؤقتة ليست كافية لبدء عملية التعافي. أولا، العقوبات الأميركية الأوسع نطاقا والأقسى من تلك التي فرضها الاتحاد الأوروبي، لا تزال تشكل عقبة رئيسة. ومع أن واشنطن خففت مؤقتا بعض القيود لتسهيل تقديم المساعدات الإنسانية، فإن "قانون قيصر" لا يزال يستهدف الأطراف الثالثة التي تتعامل مع سوريا، بالإضافة إلى المسؤولين السوريين والجهات الحكومية السورية. وإذا لم يبذل جهد دولي منسق لرفع العقوبات، فستواجه سوريا صعوبة في تأمين الاستثمار الأجنبي والتدفقات المالية.

أ.ف.ب.
بلدة جبلة السورية، 28 يناير 2025

ثانيا، تحتاج إعادة بناء البنية التحتية واستعادة الخدمات العامة وتنشيط الصناعات إلى موارد مالية أكثر بكثير مما يمكن أن يوفره تخفيف العقوبات وحده. وتشير التقديرات إلى أن تكلفة إعادة بناء سوريا تتراوح بين 250 مليار و400 مليار دولار. وفي حين يصعب تقدير قيمة الدعم الذي يمكن أن يجلبه الرفع الكامل للعقوبات، فإن الفوائد الاقتصادية المتأتية لن تكون كافية لسد الفجوة التمويلية الكبيرة. وثمة حاجة إلى مساهمات وازنة من المنظمات الدولية والجهات المانحة الثنائية، ولا بد من مشاركة القطاع الخاص.

استثمارات القطاع الخاص تستغرق وقتا حتى تتحقق

سيكون الاقتصاد السوري منفتحا وسيتيح فرصا للاستثمار الدولي – تلك على الأقل رسالة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في المنتدى الاقتصادي العالمي 2025. غير أن الوزير لم يقدم تفاصيل أو خريطة طريق في شأن كيفية تحقيق ذلك.

وهناك كثير من العقبات الكبرى التي تعيق مشاركة القطاع الخاص في إعادة الإعمار. فقد انهارت مؤسسات الدولة، ودُمرت بنيتها التحتية. أما القطاعات الإستراتيجية، مثل النفط، فإنها تخضع للاحتكار، ولا تزال البيئة التشريعية غير مواتية للوافدين الجدد إلى السوق - وذلك من الآثار المتبقية لاقتصاد كان يسيطر عليه النظام بإحكام.

تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بموقف مؤات لقيادة الجهود الدولية لإعادة بناء سوريا. ولديها أيضا مصلحة إستراتيجية في القيام بذلك

كما أن سوريا تفتقر إلى بيانات اقتصادية موثوق بها. فلم تزر أي بعثة لصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي سوريا منذ 15 عاما، مما يعني أن المستثمرين لا يستطيعون الوصول إلى المؤشرات الرئيسة لتقييم الأخطار، مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي وأسعار الفائدة وأسعار الصرف.

ولكي تتحقق استثمارات القطاع الخاص، على الحكومات أن تبدي التزاما قويا لإعادة إعمار سوريا وتواصل العمل لتخفيف العقوبات بهدف تسهيل التجارة والاستثمار الدوليين. وعليها أيضا تقديم مساعدات مالية لإعادة بناء الخدمات العامة والبنية التحتية الأساسية. وتشمل الخطوات المهمة الأخرى دعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص لإعادة بناء القطاعات الاقتصادية الرئيسة مثل الطاقة والنقل ودعم الإصلاحات السياسية وإصلاحات الحوكمة. ومن دون مشاركة سياسية حقيقية وضمانات من الدول الفاعلة، ستواصل الشركات اعتبار البلاد عالية الأخطار.

الاستثمار الخليجي استراتيجي لتحقيق الاستقرار

تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بموقف مؤات لقيادة الجهود الدولية لإعادة بناء سوريا. ولديها أيضا مصلحة إستراتيجية في القيام بذلك. فتولي المسؤولية عن إعادة إعمار سوريا من شأنه أن يعزز المصالح الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي، كما أنه يوفر فرصة لإعادة تأكيد نفوذ الخليج في بلاد الشام.

واس
الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، خلال زياته للسعودية في جوله بداخل مقر الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، 3 فبراير 2025

إن الحفاظ على الاستقرار وتعزيزه في سوريا أمر بالغ الأهمية لا لسوريا فحسب وإنما لأمن المنطقة بأكملها واقتصادها، بما في ذلك الخليج العربي. فسوريا الآمنة والقادرة على النجاح اقتصاديا يمكن أن تساعد في احتواء تدفق اللاجئين من لبنان والأردن، مما يساهم في استقرار هذين البلدين. كما يمكن أن يحد من الإرهاب العابر للحدود، بإضعاف جاذبية الجماعات المتطرفة مثل "داعش" والحؤول دون عودتها إلى الظهور، وأن يوقف شبكات تهريب المخدرات التي تستهدف أسواق الخليج إلى حد كبير.

إضافة إلى ذلك، تراجع نفوذ طهران في العام المنصرم نتيجة للضربات التي شنتها إسرائيل على محور المقاومة وإطاحة بشار الأسد المدعوم من إيران، بعدما هيمنت على سوريا طويلا. وقد هيأ هذا التحول فرصة لكي تُدخل دول الخليج سوريا في مجال نفوذها. وثمة فرصة أيضا لموازنة النفوذ التركي في سوريا، الذي توسع نتيجة دعم أنقرة لـ"هيئة تحرير الشام"، قادة سوريا الجدد.

تتجه سوريا نحو إعادة الإعمار، لكن الطريق إلى الاستقرار الاقتصادي لا يزال غير واضح المعالم. ومع أن تعليق الاتحاد الأوروبي الجزئي للعقوبات مهم، فإنه غير كاف لمعالجة التحديات الهيكلية العميقة التي تواجه البلاد

بدأ قادة دول مجلس التعاون الخليجي التواصل الدبلوماسي مع دمشق بعيد سقوط نظام الأسد - وذلك مؤشر مبكر الى استعدادها للقيام بدور فاعل. فزارت سوريا وفود من المملكة العربية السعودية والبحرين وقطر لإجراء مناقشات في شأن التعاون والتنمية الاقتصادية وإعادة الإعمار والأمن. وأعلن الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم محمد البديوي لاحقا أن دول مجلس التعاون ستقدم الإغاثة والدعم الإنمائي لتسهيل التعافي الاقتصادي.

وكالة الأنباء السورية سانا
الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع لدى استقباله وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في دمشق 24 يناير 2025

كما أعرب الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، عن أمله في الحصول على دعم خليجي، لا سيما من المملكة العربية السعودية. وفي مقابلة مع قناة "العربية"، قال الشرع إن المملكة العربية السعودية "سيكون لها بالتأكيد دور كبير في مستقبل سوريا". وكانت أول زيارة رسمية له إلى الخارج إلى المملكة العربية السعودية، وذلك يؤكد حماسته لتوثيق العلاقات مع الرياض. والمملكة العربية السعودية تبادله الاهتمام. ففي 12 يناير/كانون الثاني، استضافت المملكة أول اجتماع للمساعدات الدولية، وتجرى مناقشات لعقد مؤتمر رفيع المستوى للمانحين لحشد مزيد من الدعم المالي، بدعوة من المملكة العربية السعودية.

الخطوات التالية نحو الاستقرارا والإعمار

تتجه سوريا نحو إعادة الإعمار، لكن الطريق إلى الاستقرار الاقتصادي لا يزال غير واضح المعالم. ومع أن تعليق الاتحاد الأوروبي الجزئي للعقوبات مهم، فإنه غير كاف لمعالجة التحديات الهيكلية العميقة التي تواجه البلاد. كما أن استثمار القطاع الخاص أمر بالغ الأهمية لتحقيق الازدهار على المدى الطويل، لكنه لن يتحقق إلا إذا قادت الحكومات جهود إعادة الإعمار.

وفي هذا الصدد، ثمة فرصة أمام دول الخليج لتوسيع نفوذها في بلاد الشام، بالإضافة إلى تعزيز الأمن الإقليمي من طريق كبح الإرهاب، وإدارة تدفق اللاجئين، وتفكيك شبكات التجارة غير المشروعة. لكن على الرغم من التصريحات الإيجابية للمسؤولين، فإن مقدار المشاركة الخليجية في التعافي الاقتصادي لسوريا يتوقف على مسار الانتقال السياسي وإنشاء مؤسسات قوية لدعم النمو الاقتصادي.

font change

مقالات ذات صلة