فهد الشقيران لـ"المجلة": المثقفون يعيشون في كوكب آخر

المجال الفلسفي موضوع دنيوي يتناول الأفكار الحية

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia
الكاتب والباحث السعودي فهد الشقيران

فهد الشقيران لـ"المجلة": المثقفون يعيشون في كوكب آخر

من دراسة الشريعة الإسلامية انطلق الكاتب والباحث السعودي فهد الشقيران لمراجعة وتأريخ نظريات فلسفية وطرح الأفكار الجديدة. دراسته هذه ساعدته في نقد الخطابات الدينية المتطرفة، المكتنفة على العنف. ساهم في تأسيس حلقة الرياض الفلسفية في العام 2008، ليسلم الراية بعد سنوات طويلة لرفاق دربه، ويصب تركيزه على الموضوعات السياسية، التي باتت تشكل محور اهتمامه وشغفه. هذا حوار "المجلة" معه.

  • لنبدأ بالسؤال الفلسفي الذي يعد المنارة لإحداث تحولات في الواقع، الواقع العربي ابتدأ في هذا العام بتغيرات كبيرة ومفاجئة على الصعيد السياسي، ما الأسئلة التي يمكن أن نبدأ بها لفهم المرحلة المقبلة؟

على المجتمعات أن تستضيء بالسؤال الفلسفي فهو مفتاح العلوم وأساسها، وهذا موجود في عدد من الدول التي تعلم الفلسفة. قرأت العديد من مناهج الفلسفة بالعالم العربي وأكثر ما لفتني تدريس الفلسفة في تونس وقد كتبت عن ذلك مقالة مطولة، أما في خصوص التحولات الحالية فإنني متيقن من أن الديمقراطية لم تعد الصيغة الوحيدة المحققة أكبر احتمال بالعدالة، بل شهد المفهوم تحديات كبرى، معظمها نشأ من التصعيد التحليلي لتاريخ العدالة، وإمكانات تشكيلها من دون الرضوخ لصيغة الديمقراطية، بوصفها الأداة الناظمة لكل إيقاعات العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة. وأخطر ما يمكن طرحه تحويل الطرح الديمقراطي على أنه ضمن المعيار الأخلاقي، وبالتالي لا قيمة لأي نظام سياسي من دون طهر الديمقراطية، وهذا تنقضه وتنبذه التجربة التاريخية للمفهوم.

أخطر ما يمكن طرحه تحويل الطرح الديمقراطي على أنه ضمن المعيار الأخلاقي، وبالتالي لا قيمة لأي نظام سياسي من دون طهر الديمقراطية، وهذا تنقضه وتنبذه التجربة التاريخية للمفهوم

جون راولز الحافر بمفهوم العدالة مشروع عمر، تحدث في أطروحته "العدالة كإنصاف" عن علاقة هذا المفهوم بتاريخ الإرث الديمقراطي، فهو يوضح أن الفكر الديمقراطي أظهر ومنذ قرنين تقريبا، أنه لا يوجد أي إجماع حول الكيفية التي ينبغي أن تنتظم حسبها المؤسسات الأساسية داخل نظام ديمقراطي، إذا كانت مطالبة بتحديد وتأمين الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، وبالاستجابة لمقتضيات المساواة الديمقراطية. هناك اختلاف عميق حول الكيفية التي يمكننا أن نحقق من خلالها قيم الحرية والمساواة في إطار البنية الأساسية للمجتمع على أحسن وجه. وعليه، فإن تقديس الديموقراطية أمر خاطئ، إجرائيا وسياسيا واجتماعيا.

غلاف كتاب "نقد خطاب السعادة"

الفضاء الفلسفي

  •  إذن، هل بات الفضاء العربي جاهزا لاستقبال الفضاء الفلسفي والخوض في أسئلته؟

المجال الفلسفي هو موضوع دنيوي يتناول الأفكار الحية. لو تأملنا النظريات الفلسفية في القرن العشرين على سبيل المثل لوجدناها مربوطة بالحدث السياسي، وهذا ما أركز عليه حاليا. التنظير الجامد لا يمكنه مضارعة ومجايلة الحيوية اليومية. لنقرأ إدغار موران وهو يكتب في الفلسفة عن الوقائع والأزمات، إنه يوضح الأمور بمساراتها الزمنية. الفلسفة مجال خالد، إنها بنت زمنها لا يمكن أن تنفك عن واقعها، علينا أن نجدد مفاهيم التداول الفلسفي التقليدي الذي نزح نحوه العديد من العرب. ومن خلال تجربتي في المجالين، فإن الدرس السياسي في مراكز الأبحاث والعمل الصحافي والعمل في قناة "العربية" لأكثر من ستة عشر عاما كتابة وظهورا، جعلتني أستنتج أن الفصل بين المجالات الواقعية والفلسفات السياسية أو علوم الاجتماع ليس له أي مبرر. إن من المتعة أن تقرأ الواقع بعين مختلفة نسبة لما تقرأه في النظريات والعلوم، وبناء عليها تبني سببيات مؤصلة غالبا لا تخطئ، وهذا ما عرفته وأقترحه عبر هذا الحوار. يعيش المثقفون في كوكب آخر، بعزلة شاعرية حزينة، عليهم الخروج إلى العالم ومخاطبة الناس، ورؤية الأمور خارج حدود المكتبات، إن العالم أكثر رحابة واتساعا من ذلك كله، عليهم أن يتيقظوا قبل أن يوقظهم الآخرون.

على المثقفين الخروج إلى العالم ومخاطبة الناس، ورؤية الأمور خارج حدود المكتبات، إن العالم أكثر رحابة واتساعا من ذلك كله

  •  ساهمت في تأسيس حلقة الرياض للفلسفة، في ذلك الوقت كان العمل في اتجاه محاولة التطبيع مع الفلسفة، الآن وبعد أن دخلت الفلسفة رسميا في المناهج الدراسية السعودية، ما المركزية التي يجب أن تتخذها الفلسفة في المملكة في الوقت الحالي؟

في الواقع، إن إسهامي أقل من أن يذكر. كانت النواة والجذوة تحسب للصديقين عبدالله المطيري وشايع الوقيان، فهما حجر الزاوية في هذا الصرح الأساسي، ولكننا كنا نتشارك موضوعات الفلسفة وتشعباتها ومستجداتها، وما كانت الفلسفة آنذاك مرحبا بها. لكن الإصرار والتأكد من إيجابية المستقبل ساعدانا في وضع عدد من الأسس، وهما الآن يقودان دفة الفلسفة الرصينة في الجمعية الفلسفية السعودية، وأصبحت الفلسفة اليوم بفضل الرؤية العظيمة للأمير محمد بن سلمان ضمن المناهج الدراسية، بل ونصت الرؤية على ضرورة تعليم المعارف الحديثة والنظريات الجديدة.

غلاف كتاب "حال تدريس الفلسفة في العالم العربي"

وبحكم عملي في "مركز المسبار للدراسات والبحوث" منذ تأسيسه كنت أعمل متعاونا من الرياض، ثم انتقلت إلى المركز الرئيس في دبي، فما عادت الجهود الفلسفية مع الأصدقاء مشتركة على نحو كبير، إذ أخذتني تصاريف الحياة نحو مجال آخر أكثر شغفا بالنسبة لي وهو المجال السياسي، ودراسة الإسلام السياسي وتقييمه ونقده، وحتى الآن ثمة أكثر من ثلاثمائة كتاب نشرها المركز منذ تأسيسه، وبعد أن ألفت ثلاثة كتب في الفلسفة قلت للصديق عبدالله المطيري مازحا سلمتكم الراية. فالموضوعات السياسية أصبحت أكثر حيوية بالنسبة إلي وما عادت الفلسفة موضوعي الأول حاليا، رغم مشاركات معينة بين فترة وأخرى حول الموضوع. ثم إن الندوات والمؤتمرات الفلسفية مليئة بالضجيج ومن النادر أن أشارك بها، لكن الطمأنينة أن هذا المجال الفلسفي أخذ مساحته وتسلمت أموره مجموعة من النخب البارعة. إنني تارك المجال الثقافي جملة وتفصيلا، ولكنني رأيت بعد تجربة أصلية أن الانشغال بالموضوعات الراهنة، أكثر شغفا بالنسبة لي، بل وأهم وأعمق وأدق.

الشريعة والفلسفة

  •  دراستك كانت للشريعة، ولكنك نحوت للبحث في الفلسفة ونظرياتها، ما التقاطعات التي دفعتك في هذا الاتجاه؟

الدراسة في كلية الشريعة منحتني سلاحا لم أكتشفه إلا لاحقا. في حينه لم أكن أعلم، قابلت ودرست على يد العديد من العلماء، وكان هذا مصدر ثراء كبير. ثمة ترابط كبير ما بين التقاء وسجال وخصام بين الفلسفة وعلوم العقيدة والمنطق تحديدا. كان في كلية الشريعة الشيخ محمد بن عثيمين، ودرست في العقيدة على يد الشيخ عبدالله بن جبرين طويلا في بريدة حيث كان يعقد درسه حول العقيدة ونونية ابن القيم.

رأيت بعد تجربة أصلية أن الانشغال بالموضوعات الراهنة، أكثر شغفا بالنسبة لي، بل وأهم وأعمق وأدق

في كلية الشريعة كنا ندرس الردود على "المنطق الصوري" لأرسطو، وأهم من ناقشه هو ابن تيمية في كتابه "الرد على المنطقيين"، ومن بعدها بالصدفة وجدت كتاب أرسطو الأساسي في مكتبة عامة وقرأته، وحينها انفرطت السبحة ودخلت في قراءة الفلسفة بنهم، في السنة الثانية من دراستي بكلية الشريعة، ومن بعدها بدأت الأسئلة الصلبة التي جعلتني أتجاوز ما كان عليه السائد. إنه لمجال رحب، أن تجد هذه الفتوحات العالية انطلاقا من تناقضات شديدة التعقيد، وهذا ما قد كان.

الكاتب والباحث السعودي فهد الشقيران

  •  في ضوء هذه الدراسة للشريعة، وأبحاثك ومراجعاتك النقدية لنظريات فلسفية، ما المدخل الفلسفي لتمدين الخطاب المتدين؟

الأمر ليس سهلا، لكنني متفائل، حين ترين تدريس الفلسفة في الثانويات في الإمارات، أو التفكير الناقد وهو منهج فلسفي بالسعودية، أو التاريخ المديد لتدريس الفلسفة في تونس والمغرب والجزائر ولبنان، لا بد من تغليب التفاؤل على اليأس، ولكن في تاريخنا الإسلامي القديم، ثمة درس فلسفي عظيم منذ عهد المأمون وزمن الترجمة، إلى اليوم، وخلاصته أن المثقفين أو العلماء لا يستطيعون إيصال الفلسفة إلى العامة من دون عمل مؤسسي، وهذا الذي يتم عمله اليوم وهذا مبشر بالخير. رعاية وزارة الثقافة وبقية الوزارات لهذا المجال يعني أن القطار على السكة، ولكن بشرط تحسين صورة الفلسفة، التي دمرتها التيارات الأصولية بخطابها الكارثي عبر عقود من ربطها بالزندقة والإلحاد. بينما الفلسفة ببساطة هي إتاحة السؤال والنقاش والحوار في أي موضوع كان. كما أن من واجب المثقفين، عدم تصعيب الفلسفة والتجهم، وكأنهم اخترعوا هذا المجال. القليل من التواضع والانخراط مع المجتمع وأسئلته خير من الانعزال والنزق.

الكراهية والتسامح

  •  هناك رأي لك أن خطابات الكراهية والعنف تحتاج إلى مشروع دولة، ما محاور هذا المشروع؟

خطاب الكراهية موجود في كل المجتمعات، يزيد هنا، وينقص هناك، ولكن القانون هو الأساس، لا يمكن إلا به أن نعبر من هذا النفق، كما أن مناهج التعليم وتأسيس سبل التعايش وتفكيك الخطاب المتطرف أمور أساسية. لقد نخر الإرهاب الشرس في المجتمعات الإسلامية منذ عقود، وبنى الصور المغلوطة عن المجتمعات والأديان.

التيارات الأصولية دمرت بخطابها الكارثي صورة الفلسفة عبر عقود من ربطها بالزندقة والإلحاد

إن احترام الأديان وتوسيع أفكار التسامح ضروري، وهنا أحيل إلى كتاب مهم للصديق الأستاذ تركي الدخيل عن "التسامح" وهو مرجع كبير ويمكن الاستفادة منه مؤسسيا ومجتمعيا، وأعتقد أن باب الدخول نحو التعايش هو التسامح، ولو تأملنا بالمفهوم الديني في الإسلام لوجدنا أننا خلقنا لنتعارف لا لنتصارع.

غلاف كتاب "الفلسفة الحرام"

  •  في كتابك الذي صدر أخيرا، "الفلسفة الحرام"، متناولا الذات الإنسانية، كيف هي هذه الذات في وقتنا الحالي وهل ما زالت الفلسفة قادرة على إعلاء شأنها، أم أن الفلسفة بحد ذاتها باتت ترضخ للسياسة، للتكنولوجيا، وحتى للمؤثرات الطبيعية بحيث لم تعد تلك الذات هي محور تفلسفها؟

الفلسفة تابعة لزمنها، والكتاب هو تمرين على ضرورة عدم إعطاء "التجارب التوفيقية" التي يقودها البعض مثل طه عبد الرحمن وغيره، من أجل تحويلها إلى "مجالات فقهية"، بل أن تكون ضمن الفضاء العمومي من دون تحويلها إلى أيديولوجيا، وما كانت الفلسفة بعيدة عن التقنية والتكنولوجيا بل في صميمها. لو تأملنا في الفلسفة في الثلث الأخير من القرن العشرين إلى اليوم، لعثرنا على أبحاث تتعلق بهذه الصرعات التكنولوجية مثل الروبوت وصناعات الطب الحديث، تتجاوز الذي كتب عن التقنية في النصف الأول من القرن العشرين لدى هايدغر وغيره.

المواظبة على الروتين العادي أهم من تعاريف السعادة كلها. ولذلك علينا أن نواجه هؤلاء الأفاكين الذين يسوقون للسعادة لسبب مادي بحت

  •  في كتابك "نقد خطاب السعادة" تحدثت عن السعادة بمفهومها الفلسفي وليس التسويقي. خضت في السعادة كمفهوم ذاتي عند إشارتك إلى أن الدرب إليها كالدرب الى الحقيقة، منذ أفلاطون وأرسطو وحتى الفلسفة الأوروبية وضعت السعادة كغاية للحياة، فإلى أي مدى نحتاج للحديث عن القيم، كالسعادة والضمير والحق بنسبية وتفصيل أكثر من الحديث عنها كمفاهيم عامة؟
  • فكرة هذا الكتاب قديمة، لكنها تبلورت بشكل كاف مع أزمة كوفيد19. لقد ظهرت مجموعة كبيرة من المنظرين الذين لديهم تاريخ مع دورات التدريب التجارية. يكتبون عبر المنصات تفسيرات غريبة حول السعادة، بسبب تذمر الناس من الحظر، طرحوا تعريفات مثالية غريبة حول المفهوم، فقررت أن أهاجم هذه المعاني. لا يوجد شيء اسمه مفهوم "السعادة". إن الحياة لا تبنى على هذا المعنى، بل قائمة على التأقلم مع الواقع. إن بديل السعادة هو "الحيوية الدنيوية"، بمعنى أن تكون اعتياديا، بل إن المواظبة على الروتين العادي أهم من تعاريف السعادة كلها. ولذلك علينا أن نواجه هؤلاء الأفاكين الذين يسوقون للسعادة لسبب مادي بحت من دون أي درس أو تحليل. لنقرأ سير الفلاسفة الكبار وسنعثر على يومياتهم العادية التي كانت سبب نتاجهم وعيشهم وراحتهم. هذه السعادة التي يبحث عنها الناس وهم محض، إن التأقلم والحياة الاعتيادية والروتين المتزن المضبوط هو جوهر الحياة.
font change

مقالات ذات صلة