"وعرفتُ بمعنى أصبتُ عرفه أي رائحته"
راغب الإصفهاني، معجم مفردات القرآن
لطالما وُضعت حاسة الشم في المرتبة الدنيا للائحة الحواس. إذا كان فاقد السمع أو البصر يثير انتباهنا، فإننا لا نكاد نولي اهتماما لفاقد الشم. حتى حاستا الذوق واللمس، رغم أنهما أقل شأنا في سلم تراتب الحواس، إلا أنهما يظلان أكثر حظوة من حاسة الشم.
أوْلى الفلاسفة عنايتهم أساسا لحاستي البصر والسمع اعتبارا بأنهما تمثلان النموذجين الرئيسين للمعرفة، فإليهما يُرجع عادة لتمثيل عمليات الذهن. وهكذا، فإن الفلسفات التقليدية تسمي العقل "النور الطبيعي"، في مقابل "النور الخارق للطبيعة" الذي يأتي من الوحي. ووفق ما تراه تلك الفلسفات، يمكن "البصيرة" أن تكون مصدرا للمعرفة الحقيقية التي ينبغي لها أن تعتمد "رؤية" عقلية موجهة نحو التأمل في الأفكار. على النقيض من ذلك، فإن الجهل هو مملكة "العمى" والظلامية. وفي هذا السياق، يمكن أن نعتبر الاستعارة الشهيرة للكهف التي استخدمها أفلاطون في الكتاب السابع من "الجمهورية" أمثل نموذج على ذلك، حيث إن الانتقال من بادئ الرأي وتناقضاته إلى المعرفة الحقيقية يوصف بالكامل بأسلوب يوظف حاسة البصر.
الغائب الأكبر
على المنوال نفسه، غالبا ما كان يُشار إلى القدرة على المعرفة وإدراك العلاقات في العصور الكلاسيكية بمصطلح الفهم entendement الذي يعني أيضا السمع وإدراك ما ينقل. فمن أجل الفهم الصحيح، يتعلق الأمر بتجاوز الإدراك السمعي عند سبينوزا، و"الاستماع" إلى المعلم الداخلي.
هكذا يظل الأنف هو الغائب الأكبر في تاريخ الفلسفة. وفي هذا المعنى يمكن أن نعد كتاب ثيوفراستوس، "رسالة في الروائح" من قبيل الاستثناء. فالأنف لم يكن ليظهر، في أفضل الأحوال، إلا كموضوع أدبي، ويبقى في الغالب موضوعا للتسلية والتلاعب بالألفاظ، وفضولا جماليا قد يجد بعض الحماسة عند بعض الفنانين وصانعي العطور. فلم تجرؤ الفلسفة التقليدية قط على اعتبار الشم طريقا إلى الحقيقة، ويظهر أنها ظلت تعمل بنصيحة القديس برنار الذي ذهب حتى الى القول: "odoratus impedit cogitationem"، واعتبار "حاسة الشم عائقا ضد التفكير".