العملات المشفرة بين مطرقة ترمب وسندان التنظيم (2 من 2)

هل تصبح ملاذا للتحوط من الأزمات، أم أنها فقاعة العصر محكوم عليها بالانفجار ومجرد طريقة جديدة للمقامرة؟

ناش ويراسكيرا
ناش ويراسكيرا

العملات المشفرة بين مطرقة ترمب وسندان التنظيم (2 من 2)

نجحت العملات المشفرة في أن تصبح مكونا مهما في تركيبة الحركة الاقتصادية، بين مرونة التعامل مع تقلباتها، واستحالتها ملاذا خلال الأزمات لارتباطها بعوامل تختلف عن تلك التي تستند إليها أسواق المال بشكل عام. فمن الدوافع الرئيسة للأصول المشفرة، ثقة المستثمرين في تبني هذه العملات ذات الطبيعة اللامركزية، والتكنولوجيا، في مقدمها الـ"بلوكشاين"، وسيولة منصات التداول، على الرغم من أنه يؤخذ على هذه العملات ارتباطها الشديد بالمضاربة وحساسيتها الكبيرة تجاه الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

اقتصاديا، تتحرك سوق العملات المشفرة إيجابا مع خفض أسعار الفائدة والتضخم، الذي ينعش التمويل والاقتراض من جهة، وتدفق عدد أكبر من مستثمري العملات المشفرة الذين يميلون إلى الأصول ذات الأخطار العالية والعوائد الأعلى، من جهة أخرى. أما تنظيميا، ففي وقت نتلمس ضعفا في القواعد التشريعية التي تحكم العملات المشفرة، مما يعزز فعليا حريتها وجاذبيتها للمستثمرين، تخضع الأصول التقليدية للوائح الحكومية، حيث تعتبر أكثر شفافية من حيث متطلبات وإجراءات مكافحة غسيل الأموال.

وعلى نحو أوسع، قد توفر العملات المشفرة في الدول ذات العملات الرسمية غير المستقرة، بديلا للحفاظ على القوة الشرائية أو الثروة. فخلافا للعملات الرسمية التي يمكن للبنوك المركزية إصدارها بكميات غير محدودة في فترات التضخم، تتسم عملة الـ"بيتكوين" على سبيل المثل، بمحدودية العرض مما يجعلها أداة للتحوط ضد التضخم.

تتحرك سوق العملات المشفرة إيجابا مع خفض الفائدة والتضخم ما ينعش التمويل والاقتراض

تتسم عملة الـ"بيتكوين" على سبيل المثل، بمحدودية العرض مما يجعلها أداة للتحوط ضد التضخم. وقد نشهد ازدهارا كبيرا للعملات المشفرة لا سيما الـ"بيتكوين" مع ارتفاع التعريفات الجمركية التي وعد ترمب بفرضها على شركاء الولايات المتحدة التجاريين والتي يتوقع أن تؤدي إلى تأجيج التضخم من جديد.

وأضحت السلفادور أول دولة تشرع استخدام الـ"بيتكوين" كعملة رسمية في البلاد في يونيو/ حزيران 2021، تلتها جمهورية أفريقيا الوسطى في أبريل/ نيسان 2022 على الرغم من تحذيرات صندوق النقد الدولي من الأخطار التي تشكلها العملة المشفرة على الاستقرار المالي وسلامة الوضع المالي وحماية المستهلك في البلاد، وعلى إصدار السندات المدعومة من "بيتكوين".

ديانا استيفانيا روبيو

في العودة إلى أزمة 2022، ربما تنسب هذه الأزمة إلى الأخطار المرتفعة التي تتسم بها السوق كحرية التداول من جهة، وخسارة ثقة المستثمرين وما ألم بـ"إف. تي. إكس." وتداعياتها من جهة أخرى، إلا أن أسبابا ثانية حفزت الأزمة، في مقدمها موجة ارتفاع الفوائد المصرفية، التي جر الاحتياطي الفيديرالي الأميركي البنوك المركزية في العالم والمصارف وأسواق الرهن العقاري إليها.

وتسبب ذلك بشد الخناق على أسواق العملات المشفرة ولجم إقبال المستثمرين، خصوصا الشباب، عن استخدام القروض المصرفية الباهظة التكلفة للاستثمار في هذه السوق. وأفضت النتيجة إلى التضخم الذي عصف باقتصادات العالم كأحد أبرز تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، وتحول وجهة المستثمرين إلى الأدوات الاستثمارية الآمنة مثل المعادن الثمينة، في مقدمها الذهب والسندات السيادية للدول.

تقدر خسائر القرصنة الكمومية على الـ"بيتكوين" بأكثر من 3 تريليونات دولار، والحوسبة الكمومية تهدد بتقويض أمان شبكة العملات المشفرة بالكامل

علاوة على ذلك، الضوابط المالية الصارمة التي وضعتها الصين لعرقلة عمل منصات تعدين العملات المشفرة، وإعلانها عدم قانونية معاملات العملات المشفرة وعدم السماح للبورصات الخارجية بالتعامل مع أشخاص في الصين.

ما هي أخطار سرقة العملات المشفرة عبر "الحوسبة الكمومية"؟

في تحد إضافي وخطير تم تداوله قبل سنوات، وأثارته صحيفة "وول ستريت جورنال" مجددا في الفترة الأخيرة، تبرز أخطار الحوسبة الكمومية (Quantum computing) على استدامة العملات المشفرة بشكل عام، من ضمنها الـ"بيتكوين". "الحوسبة الكمومية" هي نوع جديد ومتطور من الكومبيوترات ذات السرعات الخارقة القادرة على حل مشكلات معقدة جدا، مثل فك الشيفرات في دقائق معدودة مقارنة بالكومبيوترات التقليدية. ودفع ذلك خبراء التشفير في العالم إلى سباق لبناء بروتوكول تشفير مقاوم للحوسبة الكمومية. إذ يتوقع هؤلاء الخبراء أن يتمكن القراصنة من استخدام الحوسبة الكمومية لسرقة العملات المشفرة مباشرة من المحافظ الرقمية، مما يقوض أمان شبكة العملات المشفرة بالكامل.

ديانا استيفانيا روبيو

وقدر معهد "هادسون" في دراسة عام 2022 أن القرصنة الكمومية على الـ"بيتكوين" قد تتسبب بخسائر تتجاوز 3 تريليونات دولار، أي ما يوازي القيمة السوقية للعملات المشفرة مجتمعة تقريبا، وربما تؤدي إلى ركود اقتصادي عالمي.

وعلى الرغم من أن الحوسبة الكمومية لا تزال في مهدها، فإن الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى مثل "مايكروسوفت" و"غوغل" تعمل بجد لوضعها على الطاولة خلال عقد من الزمن. ويمكن تلمس هذا الواقع شيئا فشيئا مع إعلان "غوغل" أخيرا إحراز تقدم هائل في شريحة "ويلو" الكمومية التي يتوقع أن تختصر مئات الملايين من السنين من عمل الكومبيوترات التقليدية.

 التزام تعدين عملات الـ"بيتكوين" في الولايات المتحدة، وإنشاء احتياطي وطني لها، هو أمر قد تتبناه دول أخرى أيضا مثل البرازيل وبولندا وروسيا مع الطفرة الكبيرة التي تشهدها سوق العملات المشفرة

والطبيعة اللامركزية للـ"بيتكوين" وغياب الحماية التنظيمية، يجعلها أكثر عرضة لفك التشفير الخاص بها، وخصوصا أن سعرها صار مغريا للقراصنة مع تخطيه عتبة المئة ألف دولار.

ترمب بين الاندفاع السياسي والمكاسب الاقتصادية

في أحد خطب الرئيس ترمب خلال حملته الانتخابية، وعد بأنه سيجعل الولايات المتحدة "عاصمة العملات المشفرة وقوة الـ'بيتكوين' العظمى في العالم" في حال عودته إلى البيت الأبيض. واستجابت سوق هذه العملات لوعود ترمب بارتفاعها القياسي عقب فوزه، في ما وصف بنشوة الانتصار.

ومن المبادرات المحتملة لتحقيق هذه المآرب، التزام تعدين عملات الـ"بيتكوين" في الولايات المتحدة، وإنشاء احتياطي وطني لها، وهو أمر قد تتبناه دول أخرى أيضا مثل البرازيل وبولندا وروسيا مع الطفرة الكبيرة التي تشهدها سوق العملات المشفرة والتي تترافق مع مؤشرات مستقبلية إيجابية.

ناش ويراسكيرا

علما أن الولايات المتحدة تحتفظ بنحو 200 ألف عملة "بيتكوين" تمت مصادرتها من أنشطة إجرامية وتبلغ قيمتها 21 مليار دولار. أما الوسائل لزيادة الاحتياطي، فتتراوح بين شراء كمية من الـ"بيتكوين" من أموال الحكومة أو إصدار سندات ديون أو بيع بعض احتياطيات الذهب، والوسيلتان الأخيرتان تنطويان على أخطار جمة إن استمرت تقلبات الـ"بيتكوين" على الشكل الذي نعهده، لكن سندات ديون الـ"بيتكوين" قد تتحول خبرا سارا إن شهدت أسواق العملات المشفرة انهيارات مماثلة لتلك التي حدثت عام 2022، لتطفئ معها هذه الديون.

العملات المشفرة فقاعة العصر ومحكوم عليها بالانفجار، ومجرد طريقة جديدة للمقامرة

فابيو بانيتا، عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي

كما تعهد ترمب بإنشاء مجلس استشاري رئاسي للعملات المشفرة وإعفاء غاري غينسلر من منصبه، كرئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات، بسبب نهجه "العدواني" تجاه تنظيم سوق تداول العملات المشفرة، وهو المعروف بحرصه وقلقه الدائمين من الأخطار المحتملة لتلك العملات وجرائم الاحتيال المالي واستغلال مستخدميها، وشبه العملات المشفرة بـ"الغرب المتوحش".

أبعد من ذلك، وعد ترمب بأن توضع قواعد تنظيمية من قبل مناصري العملات المشفرة، بما يضمن حرية التداول بعيدا عن سلطة الحكومة وسيطرتها. علما أن غينسلر أعلن تنحيه عن منصبه بالتزامن مع بدء مهمات ترمب الرئاسية، وذلك قبل أن يعين ترمب بول أتكنز خلفا له.

بعيدا عن الخوض في صدقية موقف ترمب من هذه السوق وقناعته الحقيقية بطروحاته، وبغض النظر عن مواقفه المتناقضة من العملات المشفرة منذ عام 2019 حين صرح بازدرائه للـ"بيتكوين" وغيرها من العملات بسبب قيمتها المتقلبة للغاية ودورها في تسهيل المضاربة والممارسات غير القانونية كتجارة المخدرات، لا شك أن ميله لدعم العملات المشفرة سياسي في الدرجة الأولى، بدأ من اختياره جي. دي. فانس، الجمهوري المؤيد بشدة للعملات المشفرة، نائبا له، وصولا إلى حصوله على 4 ملايين دولار تبرعات رقمية لحملته الانتخابية، وإرضاء جمهور يمثل أكثر من 50 مليون ناخب لتصب أصواتهم لصالحه.

أين أصبح تنظيم العملات المشفرة في أوروبا؟

يعد الاتحاد الأوروبي، أول من أصدر قواعد تنظيمية شاملة للعملات المشفرة في العالم في مايو/أيار 2023، معروفة باسم "ميكا" (Markets in Crypto-Assets-MiCA). وجاءت هذه القواعد بعد عام على موقف صدر عن عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، فابيو بانيتا، وصف فيه العملات المشفرة بـ"فقاعة العصر ومحكوم عليها بالانفجار"، وبأنها مجرد "طريقة جديدة للمقامرة"، ووسيلة للانخراط في الأنشطة الإجرامية والإرهابية، أو للتهرب من الضرائب على نطاق واسع.

Shutterstock

هذه هي الأمور تحديدا التي يجب أن يلتفت إليها أي تشريع قائم أو جديد. فقلق غينسلر لا يأتي من فراغ، خصوصا بعد سلسلة انهيارات المصارف المرتبطة بأنشطة الأصول المشفرة، مثل "سيليكون فالي بنك" و"سيلفر غيت بنك"، و"سيغنتشر بنك" عام 2023، التي عززت الشعور بالحاجة الملحة لتنظيم هذه الصناعة. إلا أن القواعد التنظيمية المرتبطة بالعملات المشفرة لا تزال غامضة ومتغيرة بسرعة. وقد تكون هذه التعقيدات وراء تعامل الصين ودول أخرى أبرزها الجزائر وكولومبيا ومصر وإندونيسيا وإيران والعراق والهند وقطر والكويت والأردن وروسيا وتركيا وغيرها من الدول، بصرامة فيما يتعلق بهذه الصناعة، وفرضها حظرا على التبادلات والتداول وتعدين العملات المشفرة.

أضحت العملات المشفرة بعد تشريع صناديق الاستثمار فيها جزءا من النظام المالي العالمي

بغض النظر عمن سيحمل لواء تنظيم هذه السوق، لا بد أن تراعي الأطر التنظيمية بشكل رئيس ما يوفر الحماية للمستثمرين وزيادة الثقة لديهم في وجه التلاعب بالسوق وعمليات الاحتيال، وإيجاد آليات لحصول هؤلاء المستثمرين على البيانات الضرورية من خلال معايير الإفصاح، والتأكد من دقتها، وكذلك لردع الأنشطة غير المشروعة مثل غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعزيز الرقابة على هذه الصناعة لمنع التلاعب والتأثير على نزاهة التداول، وتوسيع آفاقها على نحو يضمن ألا تحتكر في يد مجموعة محدودة من المستثمرين.

تنظيم ذو حدين... ومصالح أولاد ترمب

قد يستند هذا التحول إلى شهية متزايدة لدى المستثمرين، من مؤسسات وأفراد، للخوض في العملات المشفرة، كخيار استثماري رئيس أو إضافي، تتفوق فيه عوامل التحوط من أخطار متعددة ومتنوعة، اقتصادية، جغرافية، سياسية، وحتى بيئية، غالبا ما يكون تأثيرها أسرع وأقسى على أسواق المال التقليدية.

.أ.ف.ب
ماكينة صرافة للعملة البتكوين، في باسادينا، كاليفورنيا 9 ديسبر 2024

ولكن قد تكون مخاوف غينسلر مبررة. فأزمة "إف. تي. إكس." وانهيارات أسواق العملات المشفرة التي تلتها، لم تنجم عن رقابة وتنظيم صارمين، بل العكس تماما. فقد شابت القواعد المرتبطة بالمخاطرة والشفافية والدعم المالي وحماية العميل وغيرها، فجوات كبيرة سمحت لبعض الفئات التي بنت "إمبراطوريات تشفيرية" أو ممن ركب الموجة، باستغلالها، مما أفضى إلى هذه الانهيارات التي أفقدت العديد من المستثمرين مدخراتهم.

لا شك أن العملات المشفرة، لا سيما بعد تشريع صناديق الاستثمار فيها، أضحت جزءا من النظام المالي، لكن الدعوة إلى قدر أقل من التنظيم الذي كان شبه غائب أصلا، تثير الكثير من التساؤلات حول مصالح الجهات التي تقف وراء هذا التوجه، منها مصالح شخصية لترمب تتعلق بمشروع أبنائه "وورلد ليبرتي فايننشال" التي تتعاطى الاستثمار في العملات المشفرة، كما تشكك في استدامة الانتعاش الذي لا تزال تشهده سوق العملات المشفرة منذ فوز ترمب، بل قد تعزز مستقبلا فرضية انهيارات على شاكلة "دومينو" 2022، التي قد لا تقتصر على العملات المشفرة.

ليس مستغربا أن يكون 80 في المئة من معروض عملة "ترمب" المشفرة على سبيل المثل بيد إحدى الشركات الرقمية التابعة له

وقد أضاف إطلاق ترمب عملتين مشفرتين جديدتين باسمه وباسم زوجته ميلانيا مزيدا من الشكوك حول أخلاقية مشروعه الجديد ومحاولاته لتحقيق مكاسب من الارتباط العميق لسياسة إدارته بهذه الصناعة، وهو ما يصب دون شك في خانة تضارب المصالح "الوقح" الذي لا يتوانى ترمب عن ممارسته.

أ.ف.ب.
تنامي استخدام عملة البتكوين في تركيا، إسطنبول 22 نوفمبر 2024

وإذ يهدف شراء العملتين الجديدتين إلى إظهار الدعم لترمب، بعيدا عن كونهما فرصا استثمارية، ليس مستغربا أن يكون 80 في المئة من معروض عملة "ترمب" المشفرة على سبيل المثل بيد إحدى الشركات الرقمية التابعة له.

وأشار نورمان آيسن، وهو محام سابق في البيت الأبيض، إلى زلة قانونية قد يكون ترمب غفل عنها أو تجاهلها، إذ اعتبر أن قدرة الحكومات الأجنبية على شراء عملة "ترمب" سيزيد من قيمتها ويعزز ثروة ترمب، وهو ما يراه آيسن انتهاكا لبند المكافآت الأجنبية في الدستور. 

في المحصلة، تبقى العملة المشفرة تقنية جديدة نسبيا لم تنضج بعد، ولم تتضح آثارها الكاملة على الاقتصاد العالمي. ويذهب بعض التحليلات إلى القول إن الصدمات الأخيرة التي تعرضت لها العملات المشفرة تشير إلى وجود أخطار خاصة يتحملها المستثمرون أنفسهم لذا يمكن احتواؤها، ولكن إذا تدخلت البنوك المركزية لحماية الاستقرار المالي، فإن المشكلة تتحول إلى مشكلة عامة لها انعكاسات اقتصادية أوسع وأشمل وأخطر.

font change

مقالات ذات صلة