سوريا ولبنان... الحدود والأدوار

الخطورة أن يكون ما يحصل هذه الأيام بدايات لمعارك أكبر

سوريا ولبنان... الحدود والأدوار

التغيير الكبير في لبنان، ما كان ليتم لولا الانقلاب في سوريا، فثبتت مرة ثانية عبارة باتت مستهلكة إلى حد كبير، عن "وحدة المصير" بين البلدين المتجاورين. واستطرادا، ثبتت فرضية ثانية، ان الحدود السورية – اللبنانية، لها علاقة بالحدود والأدوار.

بعد مرور نحو شهرين، تأكد أن أحد الأسباب الرئيسة لسقوط نظام الأسد، كان الهزيمة الكبيرة التي لحقت بـ"حزب الله" في لبنان والضربات الإسرائيلية التي تلقتها ميليشيات إيران في سوريا. بمعنى آخر، كان يمكن للأسد أن يسقط في 2012 لولا تدخل إيران وميليشياتها، وفي 2015 لولا تدخل الجيش الروسي ومجموعة "فاغنر". في 2024، سقط الأسد وتلاشى نظامه وجيشه وأجهزته عندما نُزع الغطاءان الروسي والإيراني عن الأسد.

وعليه، كان طبيعيا أن يكون الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، بين أوائل زوار "قصر الشعب"، ليس للقاء الأسد الأب، أو الأسد الابن، كما جرت عادة السائرين على طريق دمشق-بيروت، بل للقاء قائد سوري جديد يجلس في كرسي الرئاسة، هو أحمد الشرع، لديه مفهوم مختلف لـ"وحدة المصير"، وهو أن تكون دمشق على "مسافة واحدة" من جميع اللبنانيين.

عبارة أن تكون سوريا على "مسافة واحدة" كما تبلّغها ميقاتي من الشرع، لا تحمل المعنى ذاته الذي كان يسمعه هو وغيره سابقا من القادة اللبنانيين لدى حكم الأسدين، عندما كان النظام السوري يشتغل على تعميق الخلافات اللبنانية وإشعال الحرائق لجعل تسوية جروحها أو إطفائها لا يتم إلا بـ"المرهم السوري". بل هي بالفعل تحمل معناها، أي تخلي دمشق عن عادتها بـتقديم "كلمة السر" لاختيار رئيس لبنان ورئيس حكومته ووزرائه ونوابه ورؤساء بلدياته، كما جرت العادة في العقود السابقة.

ولعل الترجمة اللبنانية لحجم التغيير في "قصر الشعب" السوري والنكسات في "الهلال الإيراني"، كانت في سرعة التفاهم اللبناني على الجنرال جوزيف عون رئيسا، ونواف سلام رئيسا للوزراء، وتشكيل حكومة أبرز ما فيها هو غياب نفوذ "حزب الله" بعد الضربات الهائلة التي تعرض لها. انتخاب عون وتكليف سلام وتعيين الوزراء تم دون استعراضات وتهديدات في شوارع بيروت أو لقاءات في قصور دمشق أو "نصائح" من مسؤولي طهران.

"العلاقات الدبلوماسية"بين دمشق وبيروت دفع اللبنانيون ثمنا كبيرا لإقناع الأسد الابن بتجرعها، قبل عقدين من الزمن

الترجمة السياسية لحجم التغيير، كانت في اتصال عون بالشرع، متمهلا غير مستعجل، مهنئا إياه بالرئاسة، وحديثهما ليس عن إحياء "المجلس السوري-اللبناني"، وهو من إرث العلاقات القديمة، بل ضرورة تعزيز التعاون الثنائي و"العلاقات الدبلوماسية"، تلك العلاقات التي دفع لبنانيون ثمنا كبيرا لإقناع الأسد الابن بتجرعها، قبل عقدين من الزمن، غداة نسف سيارة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري الذي تصادف ذكرى اغتياله العشرين، بعد أيام.

أما الترجمة الميدانية، فكانت في التنسيق بين الجيشين لضبط الحدود المشتركة وقيام القوات السورية بحملة لسد طرق التهريب، باعتبار أن هذه أولوية للإدارة الجديدة في دمشق لأسباب محلية تخص بسط سيادة الدولة على جميع الأراضي السورية، وأسباب جيوسياسية إقليمية، أي ترجمة انتقال دمشق من ضفة إلى آخرى، من "الهلال الإيراني" ودورها في تسهيل تهريب السلاح من طهران عبر سوريا إلى "حزب الله" من جهة، والمخدرات اللبنانية والسورية إلى الأسواق العربية عبر الأردن من جهة ثانية، إلى "حلف عربي" تلجم به الإدارة السورية الجديدة، تهديدات الإرهاب وقوافل "الكبتاغون" الآتية من الجار الغربي إلى الدول العربية.

أصبحت الحدود السورية-اللبنانية مكانا لأسئلة كبيرة تخص الإقليم من جنوب لبنان إلى شرق سوريا و"الممر الإيراني"، وإلى جنوبها على حدود الأردن

كشفت الأيام الماضية أن هذا الانتقال من محور إلى آخر، لن يكون سهلا، فالمعارك في الجانب السوري على الحدود اللبنانية ليست نزهة، بل تضمنت هجمات وضربات من الطرف اللبناني على المقاتلين السوريين. ولا شك أن هذا لا يتعلق فقط بأن الضربات تستهدف بنية التهريب القديمة والعميقة على الحدود، بل لأنه يمس التموضع الجيوسياسي لسوريا، الذي جعل الحدود مع لبنان تتعلق بأسئلة كبرى تخص مستقبل "حزب الله" وتسليحه والدور الإيراني والوضع في جنوب لبنان وتطبيق اتفاق وقف النار بين بيروت وتل أبيب والقرار 1701 وامتداداته.

بالفعل، أصبحت الحدود السورية-اللبنانية مكانا لأسئلة كبيرة لاتخص البلدين وحسب، بل الأدوار في الإقليم من جنوب لبنان إلى شرق سوريا و"الممر الإيراني"، وإلى جنوبها على حدود الأردن.

الخطورة أن يكون ما يحصل هذه الأيام بدايات لمعارك أكبر و"حرب إشغال" إيرانية للإدارتين الجديدتين في بيروت ودمشق... ضمن "وحدة المصير" المشترك، وتحميلهما أكثر مما تحتملان بعد الخراب الكبير فيهما.

font change