في رحيل أسامة منزلجي: الحياة رواية

قدّم هنري ميلر وهيرمان هسه وغيرهما إلى العربية

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

في رحيل أسامة منزلجي: الحياة رواية

فارق المترجم السوري الكبير أسامة منزلجي (1948 -2025) عالمنا قبل أيام، تاركا وراءه إرثا كبيرا من الترجمات التي باتت جزءا لا يتجزأ من تلقي الثقافة والأدب في العالم العربي منذ الثمانينات وإلى وقت رحيله.

في قلب مدينة اللاذقية، في بناء يجاور طرف "حي الصليبة"، يقع بيت أسامة منزلجي. بيت ذو طرازٍ تقليدي يعكس روح العمارة الساحلية، بشرفاته الضيقة وسقفه العالي الذي يتيح للهواء تشكيل سحب داخل الغرفة. تصل إليه عبر درجات متآكلة هشمتها السنوات، حتى تجد نفسك أمام الطابق الأول، حيث يسكن المترجم. بيته الذي اختزل عالمه في غرفة وحيدة، تفيض بالكتب.

ما إن تدخل البيت حتى يمتلئ أنفك برائحة أعرق ما في المدن الساحلية: رائحة احتراق رأس التنباك البلدي، ودفء ورائحة مدفأة الحطب المحترق من زيتون مجفف. إنها رائحة بيوت المدينة القديمة، المتداخلة مع جدران البيت، حيث تنعكس ذاكرة المكان في تفاصيل الجدران المتشققة والأرضيات المرصعة بالرخام.

عمارة حكائية تتجلى في شرفاته الضيقة، في المنزل الذي يحمل طبقات زمنية تمتد من اللاذقية القديمة إلى بعض الأدوات الحديثة الظاهرة على نحو نافر، كالبطارية الكبيرة لشحن الموبايل في بلاد خلت سنواتها الأخيرة من الكهرباء. والممر الحجري للدرجات التي تصعدها باختناق، وصولا إلى رحابة صاحب البيت وإرثه الفكري.

لن تعرف منزلجي من ترجماته فحسب، بل من العمارة بحد ذاتها، من تفاصيلها التي تعكس نعومتها وقسوتها في آن، كأن البيت يترجم روحه بقدر ما تترجم يداه النصوص. أسامة، ذلك البيت الذي أصبح هوية بصرية لكل مثقف أو قارئ مرّ من هناك، ليقول بلا تردد: "هنا بيت أسامة منزلجي".

ترك منزلجي اللاذقية مرات قليلة، وفي دراسته خالف رغبة والديه، ليتخصص بالأدب الإنكليزي في دمشق، المدينة الأوسع التي مثلت له الانفتاح ومنحته فرصة التنفس خارج أسوار اللاذقية. سيقول لك سريعا، كأنه يردد قناعة ترسخت فيه: "دمشق أكبر من اللاذقية، وفرصها أحسن". نال الفرصة هناك، لكنه نال أيضا نصيبه من الغرباء الذين لم يحبهم.

كانت اللغة وسيلته الأقرب، الأكثر أمانا، لشاب عاش في دمشق في بداية أهوال البعث، وفي مرحلة كان فيها اجتثاث الحياة جزءا من النظام

يصف الغرباء بوصفهم "أشرارا محتملين"، كأنهم شخصيات في رواية لم يكتب نهايتها بعد. كان الهامش الذي يمنحه للآخرين واسعا، لكنه مشوب بالحذر، كأن دمشق كانت مختبرا لعالمه الداخلي، حيث اختبر انتقال جسده من إرث عائلة تقليدية إلى رؤية أكثر انفتاحا لما يمكن أن يراه. لكن حين أغواه الآخر الأبعد، لم يكن له بد من أن يعرفه من خلال اللغة، أكثر مما يعرفه في الحياة. كانت اللغة وسيلته الأقرب، الأكثر أمانا، لشاب عاش في دمشق في بداية أهوال البعث، وفي مرحلة كان فيها اجتثاث الحياة جزءا من النظام.

لن يخبرك أسامة منزلجي كثيرا عن تجربة دمشق، سوى أنها كانت فرصة للترجمة، أما البشر، حسب وصفه، فقد خذلوه. كان عليه أن يتكيف، أن ينقل فضوله نحو الآخر من خلال عبور حاجز اللغة، لا عبر الاحتكاك المباشر، ليكتشف عالما آخر يهرب إليه من سوريا المستبدة والمتعبة.

غلاف "أتغيَّر"، ليف أولمن، ترجمة أسامة منزلجي

قلق تحتويه اللغة

لأسامة منزلجي قصة خاصة مع الانجذاب إلى الإنكليزية، لم يكن الأمر متعلقا بداية بالكلمات أو المعاني، بل بشكل أحرفها. كانت الخطوط الهندسية والدقيقة في اللغة الإنكليزية تغويه، كأنه يمارس مخيلة بصرية مختلفة عند رؤيتها، مستمتعا بتناغم الأشكال قبل أن يستوعب الدلالات.

بدأ برسم الأحرف عبر أصابعه، كأنها تمارين تشكيلية لا مجرد رموز كتابية، ثم انجذب إلى فك رموزها، حيث تحولت اللغة الأجنبية لديه إلى لغز عليه أن يفك شفرته، لا مجرد أداة تواصل. تطور هذا إلى هوس في التفكيك البصري للرموز، حيث لم تعد الأحرف مجرد أدوات لغوية، بل مساحة تشكيلية تعيد صياغة مخيلته البصرية.

كانت اللغة ملاذه الآمن، الاحتماء بالمعرفة والإتقان، وتحويل يديه إلى جسر عبور نحو لغة أخرى، ثم إعادتها إلى بيئة محلية. لم يكن معنيا بأن يكون مثقفا نضاليا، لكنه امتلك موقفين واضحين: الأول، العزلة التي كان يراها جزءا من تكوينه الشخصي في علاقته بالآخر، والثاني، أن يكون راهبا للترجمة، كفعل تكويني ذاتي امتلأ منه وفيه. ومع مرور الزمن، أصبحت اللغة بالنسبة إليه عزلا وحجرا ذاتيا للنفس، ملاذا يحتمي به من الآخرين. في ثمانينات القرن الماضي، لم تكن تجربة منزلجي مجرد خيار شخصي، بقدر ما كانت انعكاسا لآلية مقاومة، لمواجهة تاريخ سياسي يمتد خارج ذاته، لكنه يجد طريقه إلى كل من مروا بتجربة سوريا في ذلك الزمن.

امتلك موقفين واضحين: الأول، العزلة التي رآها جزءا من تكوينه الشخصي في علاقته بالآخر، والثاني، أن يكون راهبا للترجمة

فلم تكن الترجمة مجرد عمل أو مهنة بالنسبة إلى منزلجي، بل كانت إعادة ترجمة للذات، إذ لم يختبر الآخر في حياته اليومية، بل عبر مسافة تأويلية تفصله عن العالم، تربطه بالنصوص أكثر مما تربطه بالبشر. جسّدت الترجمة رهانه على البقاء، عالمه الداخلي، ذلك العالم الذي لم يكتفِ بأن يسكنه، بل اختاره وأعاد تشكيله، ليصبح أحد الأبعاد التي يعبر بها نحو الحياة، لا كمشارك مباشر فيها.

صدمة هنري ميلر

بدأ أسامة منزلجي تجربته في الترجمة عبر صدمة ذاتية، حيث لجأ إلى من قد يناقض شخصيته تماما، فاختار هنري ميلر، الروائي الأميركي المتمرد، الذي جعل من حياته رحلة بين التجربة والسرد. لم يكن مجرد اختيار أدبي، بل مواجهة غير مباشرة مع الذات، مع الحدود المفروضة ثقافيا وشخصيا.

AFP
هنري ميلر

كان لميلر، عبر ترجمة منزلجي، أثر هائل في الثقافة العربية، إذ كسر نمطا سائدا عن الأدب الروسي والمطولات العربية المترجمة، ليقدم رواية تجريبية بلا خطية سردية، حيث التدفق الحر للأفكار يتجاوز البنى التقليدية. كان ميلر يكتب كما يعيش، بأسلوب جامح، مباشر، وغير خاضع للرقابة، وجاءت لغة منزلجي في الترجمة أمينة دون اضطراب، محافظة على روح التمرد والمواجهة الصريحة.

لم يحجب منزلجي أو يعدّل أي مستوى من مستويات الاستخدام اللغوي الجريء لميلر، بل حافظ على الشتم، والتعبير الجنسي، والتأملات الفلسفية الصادمة، والتمرد السياسي الموشوم بلغة قاسية فجة، فجاءت ترجمته انعكاسا لروح ميلر، بلا تهذيب أو مواربة. جاءت تجربته مع ميلر مكتملة، حيث ترجم معظم أعماله، كأنها لم تكن مجرد ترجمة، بل إعادة إنتاج فكري وتماهٍ داخلي مع رؤى ميلر.

"الكتب في حياتي"، هنري ميلر، ترجمة أسامة منزلجي

كان للهروب اللغوي معنى آخر. يؤكد منزلجي أنه كان صادقا مع ميلر ذاته حين ترجمه، فالعلاقة مع الروائي أكثر تعقيدا مما يبدو. مصطلح "الأمانة" في الترجمة شكّل هاجسا دائما لديه، وكأن الترجمة واجب أخلاقي لا مجرد عمل تقني. لكن هذا الواجب لم يكن مجرد أثر من آثار المهنة، أو امتدادا لمصداقيتها بحد ذاتها، بل حمل بعدا وجوديا وفكريا. فمنزلجي يعتبر أن التجربة العربية في الترجمة قد تخلو من الأمانة، ومن النقل الحر والحقيقي للنصوص، لذا أصر على أن ميلر يجب أن يصل كما هو، بلا تشويه أو تخفيف. سيقول دوما: "لا أريد للروائي أن يُجرح بسبب أي نقص في الترجمة". بالنسبة إليه، أمانة الترجمة مسؤولية أخلاقية تجاه الكاتب، أكثر مما هي التزام مهني. فنقل النص دون تغيير ليست مسألة دقة فحسب، بل وفاء للفكر، وعدم خيانة لما كتبه الكاتب، حتى في أكثر المواضع حساسية.

جذبت ترجمات منزلجي لهنري ميلر كثيرا من الكتاب والقراء العرب، ليس فقط بأسلوبها المتحرر والتجريبي، بل أيضا بما مثّلته من تمرد على الكبت الاجتماعي والسياسي

جذبت ترجمات منزلجي لهنري ميلر كثيرا من الكتاب والقراء العرب، ليس فقط بأسلوبها المتحرر والتجريبي، بل أيضا بما مثلته من تمرد على الكبت الاجتماعي والسياسي. كانت قراءتها في سوريا فعلا من أفعال المقاومة الثقافية الكامنة، حيث وجد القراء في كلماته مساحة للتحرر الإسقاطي من القيود المفروضة عليهم. 

رغم أن النظام السوري البائد كان يحارب ميلر ويمنع كتبه داخل سوريا، إلا أنه لم يقترب من المترجم نفسه، وكأن المعركة هي مع النص ذاته، لا مع مترجمه وهذا كان شيئا حسنا.

wikipedia
هرمان هسه

هرمان هسه وتجربة التأمل

لم يكتفِ أسامة بالانجذاب إلى الصخب، ففي تجربته الثرية كان له مرور عميق أيضا على الكاتب الألماني هرمان هسه. بقي داخل إطار النفس البشرية وتعبيراتها، لكنه، حسب حديث طويل أجريته سابقا معه، كان معجبا بهسه نفسه، وليس فقط بأعماله. ما جذبه إليه هو الاتساق الذهني، ذلك التوازن الفريد بين النص التأملي الشرقي والتجربة المادية للإنسان، حيث يلتقي الفكر الواقع دون أن يطغى أحدهما على الآخر. كان يرى فيه كاتبا يمتلك قدرة استثنائية على تفكيك النفس البشرية، كأنه يمارس التحليل النفسي عبر الأدب، ويقترب في تأملاته من دور الراهب الروحي. فالمزاوجة بين العمق الفلسفي، والاستبطان النفسي، والتأمل الروحي جعلت تجربة هرمان هسه واحدة من أكثر التجارب الأدبية تأثيرا في وعي المترجم، بل ربما كانت نافذة أخرى لفهمه الخاص للنصوص التي ترجمها لاحقا.

كازنتزاكيس وجينيه

أكثر ما كان يُسأل عنه أسامة منزلجي هو كتاب "المسيح يُصلب من جديد" لنيكوس كازنتزاكيس. ورغم محبته الكبيرة لهذه الرواية، واعتبارها الأشهر بين ترجماته، حسب سائليه ومحاوريه، إلا أنه يراها أيضا تجربة مختلفة داخل سياق عمله. هناك بعد روحي في الرواية لطالما جذبه للحديث عنها، حيث يسحره البطل الذي يقلد المسيح، ثم يتحمل آلامه، وصراعه الذي لا ينشأ من رغباته الفردية، بل من الدور الاجتماعي المفروض عليه، والضغط الهائل الذي تمارسه السلطة ورجال الدين والمجتمع بأكمله.

"ذئب البراري" و"غرترود" لهرمان هسه، ترجمة أسامة منزلجي

يعود أسامة مرة أخرى الى المفاجأة، مستندا إلى رواية قديمة من عام 1948 لجان جينيه بعنوان "شعائر الجنازة"، إحدى أكثر رواياته ذاتية. في هذه الرواية، تتداخل الحرب العالمية الثانية مع الجسد والرغبة والموت، حيث تتجلى تجربة المقاومة الفرنسية ضد الألمان عبر الأجساد الميتة، والمحاربة، والمتعبة، حاملة في موتها وحروبها ذاكرة الصراع ورغباته المكبوتة.

ما جذبه إلى هسه هو الاتساق الذهني، ذلك التوازن الفريد بين النص التأملي الشرقي والتجربة المادية للإنسان، حيث يلتقي الفكر الواقع دون أن يطغى أحدهما على الآخر

كانت الرواية محط اهتمام الفلاسفة والمثقفين الفرنسيين والأوروبيين، وكتب عنها سارتر وآخرون، نظرا الى تعقيدها وإشكاليتها العميقة. لكنها لم تكن مجرد نص تاريخي، بل فضاء لتأمل الحرية الفردية، والجمال في أقسى أشكاله.

احتفظ أسامة فيها بنبض جرأته ودقة كلماته المترجمة، حيث لم يفرّغ النص من شحنته الشعورية، بل صاغه بروح تحافظ على أصالة التجربة واللغة. كان يرى أن مهمته في الترجمة ليست فقط نقل النص، بل الحفاظ على أصالة الشعور لدى الروائي، دون مواربة أو تخفيف.

في لقاءاته مع زواره، تحدث منزلجي بإسهاب عن الحرية الفردية التي دافع عنها جينيه، ومذهبه الخاص في الترجمة، حيث كان يؤمن بأن الترجمة الحقيقية لا تكمن في نقل الكلمات فقط، بل في إعادة خلق التجربة كما شعر بها الكاتب، بكل عنفها وجمالها.

"الخوف من الموت"، اريكا يونغ، ترجمة أسامة منزلجي

الأصدقاء وهامش الترجمة

يمكن تتبع مراحل تطور الترجمة لدى أسامة منزلجي. فهو ينتمي، في بعض الجوانب، إلى المترجمين أصحاب المشاريع الفكرية، على غرار سامي الدروبي، الجيل الذي وضع أعماله المترجمة ضمن إطار سياقي وذهني متكامل. مع ذلك، فإن تنوع أعمال منزلجي يميزه عن هذا النمط التقليدي، إذ لم تكن ترجماته محكومة بمشروع واحد صارم، بل جاءت امتدادا لشغفه الشخصي وتحولاته المعرفية. كان جمود جسده وقلة حركته يجعلانه ينتظر الكتب التي يوصيه بها أصدقاؤه في الخارج. ولا يخفي منزلجي حزنه لإغلاق المكتبات الأجنبية في سوريا، فقد كانت أكبر أزماته التي يتحدث عنها هي أسعار الكتب، التي باتت مستحيلة المنال على أطياف واسعة من السوريين بعد هبوط سعر الليرة السورية.

بعد الثورة السورية ارتبط شرطه في الترجمة، بما يأتيه من كتب عبر الأصدقاء من الخارج، إذ حوصرت البلاد برمتها، لكنه ظل محافظا على أصالته الإنسانية منذ الثمانينات حتى وفاته. لم يكن يمر يوم واحد دون البحث عن كتاب، أو القراءة عن لوحة، أو الاستماع إلى مقطوعة موسيقية. لم يكن ينزلق نحو الآخر بسهولة، لكنه في رهبنته كان يحمل همّا واحدا: أن يقرأ الجمهور أكثر، وأن تكون الحريات في الأدب مصونة.

ورغم أنه لم يخرج لأشهر طويلة من منزله خلال أربعين عاما من مشروع الترجمة، إلا أنه كان يرى للأدب شكلا واحدا يستند إلى تأصيل إنساني، حيث تقع الترجمة، في رؤيته، ما بين كونها مهنة، وكونها تأصيلا لمعنى إنساني يركز عليه في كل مقابلة: حرية الإنسان وذاته الحرة في الكتابة والتجربة.

لم تكن الترجمة عنده مجرد فعل تقني، بل مساحة لتأمل النصوص كأدوات للحوار والبحث عن المعنى

هناك أثر غير محمي أو معترف فيه في الثقافة العربية للمترجمين ، حيث لا يكون المترجم مجرد ناقل أو حرفي، بل يصنع عبر ترجمته هوية، هذه الهوية لا تظل حكرا على النص، بل تمتد أحيانا لتُفسَّر بوصفها هوية المترجم نفسه. فالنصوص المترجمة لا تعكس فقط الأدب الأصلي، بل تشكل نوعا من التثاقف، حيث تصبح الترجمة أداة لإعادة تأويل الذات الإنسانية والأدب عموما.

في مشروع منزلجي، يمكن التقاط التأصيل الإنساني للأدب، الذي طبع معظم أعماله المترجمة. لم تكن الترجمة عنده مجرد فعل تقني، بل مساحة لتأمل النصوص كأدوات للحوار والبحث عن المعنى. كانت العزلة في حياته مشبعة بنوع من الترهبن، حيث تحولت الترجمة إلى ممارسة تتجاوز المهنة، لتصبح نمطا وجوديا قائما على المعرفة والتأصيل الشخصي لما يمكن تسميته بـ"رهبنة المعرفة".

المترجم الراحل أسامة منزلجي

يمكن تأسيس سرد شفاهي طويل عن منزلجي من خلال أصدقائه المقربين، الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد. كان الشاعر منذر مصري لا يفارقه، فيما يوازي وصول الروائي زياد العبد الله إلى اللاذقية عنده الوصول إلى أسامة نفسه. إضافة إلى ذلك، كان هناك الكثير من مثقفي المدينة الذين زاروه مرارا، أو تواصلوا معه، حيث تكوّنت حلقات من النقاشات والسير الطويلة حول رؤيته، وسخريته اللاذعة من النظام الذي رأى سوريا تُسلب أمامه في السبعينات.

لم تكن قيمته الثقافية والإنسانية مجرد انعزال، بل كانت تجاسرا فكريا دائما في الدفاع عن المعرفة والجرأة، رغم أنه لم يقف يوما في أي مواجهة مباشرة مع الحياة وواقعها، لكنه اختبرها بذهنه، وأدركها عبر تضايفه مع لغة أخرى، ثم تبيئتها كتجربة إنسانية ضمن الحدود العربية.

استوعب منزلجي التحولات الثقافية وفقا للتقنية والفكرة، مؤسسا لوجود خاص له في عالم الثقافة. فلم تكن الترجمة مهنته فحسب، بل طريقته للوجود، وصوته خلف الروايات التي ترجمها. وإن سألته عن عدم ترجمته الدراسات، سيقول لك ببساطة: "الحياة رواية"، بالنسبة إليه، الشخصيات تقول كل شيء عن الثقافة والفن والحياة.

font change