فارق المترجم السوري الكبير أسامة منزلجي (1948 -2025) عالمنا قبل أيام، تاركا وراءه إرثا كبيرا من الترجمات التي باتت جزءا لا يتجزأ من تلقي الثقافة والأدب في العالم العربي منذ الثمانينات وإلى وقت رحيله.
في قلب مدينة اللاذقية، في بناء يجاور طرف "حي الصليبة"، يقع بيت أسامة منزلجي. بيت ذو طرازٍ تقليدي يعكس روح العمارة الساحلية، بشرفاته الضيقة وسقفه العالي الذي يتيح للهواء تشكيل سحب داخل الغرفة. تصل إليه عبر درجات متآكلة هشمتها السنوات، حتى تجد نفسك أمام الطابق الأول، حيث يسكن المترجم. بيته الذي اختزل عالمه في غرفة وحيدة، تفيض بالكتب.
ما إن تدخل البيت حتى يمتلئ أنفك برائحة أعرق ما في المدن الساحلية: رائحة احتراق رأس التنباك البلدي، ودفء ورائحة مدفأة الحطب المحترق من زيتون مجفف. إنها رائحة بيوت المدينة القديمة، المتداخلة مع جدران البيت، حيث تنعكس ذاكرة المكان في تفاصيل الجدران المتشققة والأرضيات المرصعة بالرخام.
عمارة حكائية تتجلى في شرفاته الضيقة، في المنزل الذي يحمل طبقات زمنية تمتد من اللاذقية القديمة إلى بعض الأدوات الحديثة الظاهرة على نحو نافر، كالبطارية الكبيرة لشحن الموبايل في بلاد خلت سنواتها الأخيرة من الكهرباء. والممر الحجري للدرجات التي تصعدها باختناق، وصولا إلى رحابة صاحب البيت وإرثه الفكري.
لن تعرف منزلجي من ترجماته فحسب، بل من العمارة بحد ذاتها، من تفاصيلها التي تعكس نعومتها وقسوتها في آن، كأن البيت يترجم روحه بقدر ما تترجم يداه النصوص. أسامة، ذلك البيت الذي أصبح هوية بصرية لكل مثقف أو قارئ مرّ من هناك، ليقول بلا تردد: "هنا بيت أسامة منزلجي".
ترك منزلجي اللاذقية مرات قليلة، وفي دراسته خالف رغبة والديه، ليتخصص بالأدب الإنكليزي في دمشق، المدينة الأوسع التي مثلت له الانفتاح ومنحته فرصة التنفس خارج أسوار اللاذقية. سيقول لك سريعا، كأنه يردد قناعة ترسخت فيه: "دمشق أكبر من اللاذقية، وفرصها أحسن". نال الفرصة هناك، لكنه نال أيضا نصيبه من الغرباء الذين لم يحبهم.