الكاتب العراقي الراحل عدنان المبارك و"الطريق إلى اللامكان"

من أقصى الواقعي إلى أقصى الخيالي

AlMajalla
AlMajalla

الكاتب العراقي الراحل عدنان المبارك و"الطريق إلى اللامكان"

لا تحتاج الغابة السردية للكاتب العراقي عدنان المبارك (1935-2016) إلى دليل جاهز للاكتشاف والتوغل في كثافاتها المشتبكة، فمساربها متعددة، ولعل أمثل دخول إليها هو القصة القصيرة، وليكن على سبيل المثل لا الحصر كتابه القصصي "الطريق إلى اللامكان" وهو يتلاحم مع آثار قصصية لاحقة في ما يشبه صحراء زاقورات دائرية أهمها: مملكة السرير- سر الرمل- البصاص- ما أنا إلا مهرج يا أحباب- خارج الأزمنة الثلاثة.

في كتابه هذا يصدعنا جرس الباب بدوي الصرخة: أهي القيامة؟ أهي الأبدية؟ سؤال غائر الفزع ومفتوح على قلق المتاهات، تمهر به إحدى القصص المعنونة بـ"تحولات موفق" نهايتها الموهومة، وهو سؤال يظل رنينه متناسلا كوقع قطعة نقدية من المعدن أو كصرير باب من الفولاذ أو كحشرجة لفرملة شاحنة على أهبة الاصطدام بكتلة صلبة، ويتفاقم الصدى في أفق قراءة أو نفق نصوص الكتاب بالأحرى إلى أن ينكشف مع آخر عبارة قصصية بصيغة سؤال، تختتم بها المجموعة تجربتها الموشومة: أين الطريق إلى اللامكان؟

الأسطورة والتاريخ والفلسفة والفيزياء

تنزلق بنا قصص "الطريق إلى اللامكان"، شأن قصص المبارك الأخرى، في رشاقة من يمشي بمهارة على أطراف أنامله إلى حقول مجاورة، فتتدرج من أقصى الواقعي إلى أقصى الخيالي، ودون أن تعي بأنك نسيت القصةـ ينزاح بك إلى سُدُمِ التاريخ والأسطورة والأنثروبولوجيا والفيزياء وهندسة الفضاء، وفي لحظة سحرية يعود بك إلى حيث تمفصل خيط المحكي أي مشروع القصة التي لم تفصح عن هويتها بعد، فيتركك رهين تناقضاتها الماكرة، حيث أن استيفاء شروط وضوحها لا يمكن أن يتم إلا عبر قوة تعددها وتشظيها لعدم قابليتها الرضوخ ببلادة لأحادية المعنى، ثم يتواطأ معك عند منتصف طريقها مورطا إياك في لعبة أسئلة وفرضيات تقحمك رغما عنك في تدبير احتمالات مشروع نهايتها المفتوحة.

في قصص المجموعة امتداد ظلال وارفة لنصوص كبرى، يستضيفها كعلامات بقدر من التناغم الذي يجعلها تنخرط في أفق مغاير

في قصص المجموعة امتداد ظلال وارفة لنصوص كبرى، يستضيفها كعلامات بقدر من التناغم الذي يجعلها تنخرط في أفق مغاير داخل منجزه النصي، مستمزجا أثرها لصالح مساءلة غير معنية بقصدية تاريخانية ما، وإنما لتخصيب الدلالات وإثراء الحاجة إلى تسليط أكثر من ضوء كاشف على الأنساق المجاورة لخطابه وهو يمارس فعلا مزدوجا بالغ الخصوصية، فهو يكتب من داخل قراءته، ويقرأ من داخل كتابته، وهذا التسكع والتنزه في خرائط المتون والذاكرات والتجارب والنصوص الكونية لا يتم من منطلق النسخ، بل من مبدأ التصادي الموسوعي الذي يفضي به إلى استغوار فكرته هو حول ذاته وحول العالم.

غلاف "الكاتب وكوابيسه"

وفي مجاورة القصة للفكر، أو مجاورة الفكر للقصة عند عدنان المبارك، لا يتعلق الأمر بملاحقة يقوم بها النص الأدبي للفكر أو العكس. ليس مصاحبة أيضا في أعدل وألطف الأحوال، بل إن الوصف الدقيق لهذه العلاقة المحكومة بالمفارقة والائتلاف في آن، هي أن الأمر يتحقق تماما كما شاطئ فيه يلتقي البحر باليابسة وفي حدّه يفترقان، وهذا الملتقى والمفترق هو ما تجسده خصوصية الكتابة القصصية عند عدنان المبارك بامتياز. فجرعة المعرفة في كتاب "الطريق إلى اللامكان" لا تتقدم كبهرجة أو فولكلور ولا تجثم على أنفاس النص وامتداده ومرحه بل هي تدخل في سيرورة فعل تحقق نصيته المغايرة.

كذلك الكتابة في هذه القصص تنحو منحى استمزاج كرنفال أجناسي يلغي القصة ظاهريا، لكنه يعيد ابتكارها داخليا أو ضمنيا. وهي ذات نزوع متعدد تؤالف في تماوجها المركب بين اليوميات والتأملات والرسائل والتعليقات والشذرات والمذكرات والمقالة والمحاضرة والتاريخ والخيال العلمي والافتراضي والصورة السينمائية، فضلا عن التناصات الحاذقة والحواشي والهوامش والتصدير والتضمين وقصيدة النثر.

Wikicommons
فيسواف ميشلفسكي

حفريات القصص العشر

ترصد قصة "بعد هبوط ذوي الرؤوس السود"، الانشطارات الهذيانية لكائن عاش عبر ثلاث نسخ للحلم في ثلاث ليالي الهبوط إلى أرض سومر، وهو ما يشبه سفر تكوين يتهكم فيه من التاريخ وقدرية الحياة البشرية، وكله طموح ورغبة في أن ينسلخ عن حقيقة كينونته المبتذلة في انتظار أن تغزوه كائنات شبيهة بتلك التي ألفها في سيناريو الهبوط الغريب، أي ذوي الرؤوس السود ليطردوا عنه هذا المعطى الانساني.

وفي قصة "تحولات موفق" محاولة مجنونة لتعقب حالات شخص بعد أن فقد ذاكرته فأخذ يتعرض لفقدان حواسه أيضا، وهو ما يشبه ظاهرة إكلينيكية لا تخلو غرائبيتها من متعة الوقوف على تحولات الشخصية، ما يشبه فانتازيا أقرب إلى كافكا وأبعد منه في آن، وهي امتداد للقصة الأولى من حيث موقع الغياب ومنطقة الخارج التي يرصد منها الكاتب أحوال الذات والواقع كاشفا عن أوهامها وحماقاتها ومفارقاتها وينتهي إيقاع الكتابة والقصة في الفراغ المهول حيث السؤال المفزع يدوي: أهي القيامة؟ أهي الأبدية؟

اللافت في النص انهمامه بالموت كهوية وكمضمون معرفي ووجودي ثم كوهم بحسب مقولة الكاتب البولندي فيسواف ميشلفسكي: "نولد من الأوهام، والموت هو محض انتقال من وهم إلى آخر".

تنحو الكتابة في هذه القصص منحى استمزاج كرنفال أجناسي يلغي القصة ظاهريا، لكنه يعيد ابتكارها داخليا أو ضمنيا

وفي قصة "كسوف آخر للشمس"، حالة رمادية لشخص يستفيق في سرير غير سريره داخل شقة مجهولة وممعنا في تذكر ما حصل له، يتضح أن غرابة ما تعرض له هي محض عادة من عاداته المزمنة، ويرجع أسباب تحول نمط حياته إلى تيه كهذا ولا معقول وغياب وعي دائم، إلى ظهيرة في يوم كسوف تلقى فيها ضربة على رأسه وهي المسؤولة عن كل رجّاته. وهنا نتلمس نفس منطقة الغياب والنسيان التي يحاول منها الكاتب رصد الأعطاب الميتافيزيقية لحياة الشخصية التي ارتج لديها الإحساس بالزمن والمكان.

وفي قصة "عندما أجلس في مقعدي الوثير"، حكاية لموظف صغير يعاني من خطأ الخلط بين اسمه الجريح ولقبه الذي لا يطاق. حلمه أن يمتلك سلطة لعبة الزمن التي مكرت به وزجت به دونما سابق تخطيط في مؤسسة الزواج البليدة وإكراهات العيش فيها بأكثر من قناع وحريتها المشروطة في مهب علائقية اليومي، إلى أن يلوذ إلى دفتره الرمادي حيث يغرز نصال تفكيره الجذري في لحم كل شيء تعوّد عليه وهو غير راض عنه، وهي نفسها منطقة الرماد/ الغياب التي يرصد منها الكاتب بشاعة اللامعقول في سلوكه الإنساني وسلوك المحيطين به. ثم يجري مكالمات وهمية صادمة ويفكر أخيرا في كتابة رسالة إلى أشخاص وهميين وحقيقيين وفيها ينذرهم باستفحال اللامعقول هذا الذي يعدد بسخرية سوداء أشكاله ومضامينه في أحداث ومواقف طافت به أكثر من مكان وبلد في كوكب الأرض، ثم بعد أن يرسل الرسالة يترقب ردود الأفعال بدءا من رئيس عمله وزميله في العمل عباس الميزان حتى أبو سوسن، ليكتشف أخيرا أنه أضاف بسلوكه هذا لا معقولا آخر إلى قائمة اللا معقول السابقة.

غلاف "ملاحظات عن الظلام"

وفي قصة "دفاتر فريد الخمسة" وهي عبارة عن رسالة إلى الدكتور جي. بي. هامدان تتمحور حول موضوع سبق أن تناوله عدنان المبارك في مقال، هو إمكان وجود حياة أخرى واستحالة وجود ظاهرة الإنسان وحده في الكون.

هذيان الألم

وفي قصة "على ضفة نهر صغير"، حكاية لشخص تعرض لحادثة سير، وفي لحظة هذيان الألم والكسر يقوم باسترجاعات مشوشة وهو يحاول أن يهاتف الإسعاف على طريقة الفلاش باك لكيفية وقوع سيارته من الجسر إلى أسفل الوادي، ولا يني السارد يتدخل في تمفصلات الحكاية لإضاءة ما تعتم من خلفية حياة الشخصية وهويتها، وفكرة القصة الجوهرية محبوكة التفاصيل حول الشخص وهو يواجه الألم الذي يؤدي به إلى احتمال الموت. وفي تلك المسافة المشرعة على هاوية النهاية، يلتقط السارد الخيالات والظلال والانفعالات التي تطفو على سطح وعي هذا الشخص ولا وعيه في آن، إلى أن ساقت المصادفة الرحيمة هاوي صيد لينقذ حياته، وهذا ما سيكتشفه أخيرا مع طبيبه في المستشفى.

وفي قصة "مكائن الله المجنونة"، تعاود فكرة اختراق الزمكان حضورها في محاورة طويلة مع نزيل دار للمجانين تمت مصادفة بطلب من صديق السارد المتأهب لسفر إلى الصين، فقلده وزر زيارة أخيه في غيابه الذي يمر بحالة نفسية حادة وهو يدعي أنه مات وولد ثانية بل يحكي تفاصيل الحياة الأولى. والطريف في هذا النص أن يكون أورويل المجنون هو أخو الفيلسوف الروماني إميل سيوران وهو الصديق الذي سافر إلى الصين وتنتهي القصة على إيقاع شذراته التي يحفظها أورويل بالنقطة والفاصلة.

مجمل قصص هذه المجموعة باختلاف طرائق كتابتها وانشطارات موضوعاتها، تجمع ما بينها صورة الإقامة في الهلامي، وهي صورة الشقاء الفادح للوعي

وفي قصة "اهتزازات الهواء هذه"، تنحو الكتابة منحى آخر برهان لغتها على الرقص بالاستناد إلى حرف الهاء، ما يشبه اختزالا إيقاعيا لتعدد اللغة في أحادية الهائيات، مجترحا نصا ضالعا في السخرية والهذيان.

وفي قصة "الغرق"، تشرق فكرة معانقة المحو والغياب من جديد، مع شخصية هير لودفينغ المستاء من جرثومتي الوعي والسأم، مما يجعله يشيّع الحياة بابتسامة على سطح سفينة حين وضع ساقه وراء الحاجز مخاطبا السارد: "هذه الزاوية من الأرض تبتسم لي أكثر من سواها".

غلاف "يا طلقة الرحمة"

وفي قصة "الطريق الى اللامكان"، النص الأخير، صورة مضاعفة وقصوى لتجربة الكتاب، مضغوطة ومركزة، في محاولة ذات السارد التوليف بين عالمين نقيضين، وذلك استنادا إلى ممارسة تسعة تمارين: التشكيك بمنطق الزمن/ معرفة ما بعد الموت حيث الحياة والعالم مجرد ذكرى/ رفض القبول بأن الولادة نعمة كبرى بل هزيمة/ تجاهل الموروثات والحاجيات البيولوجية/ الإقامة طويلا في الظلام/ التفرغ للتفكير في محرمات الكتب المقدسة من منطلق أن كل فكرة ليست بريئة/ طرد اللغة من الحياة اليومية بالكامل وتعويضها بالموسيقى/ الإضراب عن النوم/ نبذ المعقول الذي صار بالغ الابتذال بسبب استهلاكه الجنوني.

وينتهي محكي القصة بمكالمة هاتفية بين السارد وماركسيزيافريم وعلى هامشها يخلص إلى حقيقة الحاجز الوهمي بين المعقول واللامعقول وهو يضع قدما يسرى في عالم الأزمنة الثلاثة واليمنى في الآخر غير المسمى، مرددا بلا نهاية سؤال ماركاسيزيارفريم: أين الطريق الى اللامكان؟

مجمل قصص هذه المجموعة باختلاف طرائق كتابتها وانشطارات موضوعاتها، تجمع ما بينها صورة الإقامة في الهلامي، وهي صورة الشقاء الفادح للوعي الخرائطي الطاعن في حدة اليقظة، يضع بطله المأسوي قدما غائرة في الحضور الحارق وأخرى غائرة في الغياب المؤرق.

font change

مقالات ذات صلة