الشرع وتركيا… رسائل بين السطور

الشرع وتركيا… رسائل بين السطور

منذ لحظة سقوط النظام السوري، وهروب بشار الأسد إلى موسكو، برز سؤال بين أوساط المتابعين والمهتمين بالشأن السوري، هل ستحل تركيا مكان إيران في سوريا؟ وهل سيتم استبدال النفوذ الإيراني والتبعية لطهران، بنفوذ تركي وتبعية لأنقرة؟

هذه الأسئلة والمخاوف المشروعة، حاول الرئيس السوري أحمد الشرع بدبلوماسية شديدة نفيها، فأرسل الرسائل في مختلف الاتجاهات، أن سوريا لن تكون تابعة لأحد، ولن تدخل في حروب مع أحد، وكانت زيارته الأولى للمملكة العربية السعودية تلتها زيارة لتركيا، فمصلحة سوريا تقتضي علاقات جيدة مع محيطها، وخصوصا مع تركيا التي دعمت الثورة السورية لسنين طويلة، ولكن محيط سوريا وحاضنتها هي الحاضنة العربية.

بحكم الجغرافيا، كان لتركيا الدور الأبرز في سوريا خلال سنوات الثورة، ولتركيا مجموعات سياسية وعسكرية وحتى مدنية، تدين بالولاء لأنقرة، ولكن "هيئة تحرير الشام" التي كان يتزعمها الشرع ليست إحدى هذه المجموعات، وإن كانت العلاقة بين الهيئة وأنقرة علاقة ودية، فإنها ليست علاقة تبعية، كما هي حال الكثير من فصائل "الجيش الوطني السوري" العاملة في الشمال السوري.

اليوم تبرز الكثير من الإشارات المتضاربة عن العلاقة بين الطرفين، دمشق وأنقرة، ففي الوقت الذي يسعى فيه الشرع لفرض سيطرته على كامل الأراضي السورية من خلال التفاوض والحوار، وقد أعلن أكثر من مرة، تفضيله للحل السلمي مع "قوات سوريا الديمقراطية" الموجودة في شمال شرقي سوريا، تجنح أنقرة أكثر نحو الحل العسكري، فهي تريد اجتثاث "حزب العمال الكردستاني" و"قوات سوريا الديمقراطية" بمعركة عسكرية تضمن حدودها وأمنها، فهل ينجح الشرع بتأجيل هذه المعركة وتفاديها، وصولا إلى تفاهم (سوري- سوري، وأميركي- تركي) يفتح آفاقه خطاب الزعيم الكردي عبدالله أوجلان؟ يبدو حتى الآن أن الشرع نجح في إقناع الأتراك خلال زيارته الأخيرة بأسباب تفضيله الحل السياسي.

تستعجل تركيا أيضا الحصول على الحصة الأكبر من مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، وقد يكون الاستعجال التركي، وكثرة الزيارات هي إشارات على عدم وجود "ثقة" مطلقة بين الطرفين، والمطالبة بترسيم الحدود البحرية بعد أيام قليلة من سقوط الأسد أيضا، والرد السوري عليها أتى في السياق ذاته.

العلاقة بين تركيا والنظام السوري الجديد، ليست كما يحلو للبعض تصويرها

بعد ساعات من وصول الشرع إلى دمشق، صدر قرار من أنقرة بزيادة رواتب العاملين في مؤسسات المعارضة السورية الموالية لتركيا، وتحديدا الحكومة المؤقتة، لم يلتقط البعض هذه الإشارة، اليوم بعد نحو عشرة أيام على "مؤتمر النصر"، والذي أعلن فيه حل جميع الأجسام السياسة، يبدو أن الائتلاف والأجسام الملحقة به، ما زالت ترفض قرار حلها، وهذه الأجسام تركية الهوى والولاء. وإن لم تطمئن أنقرة للحكم في دمشق، قد تتحول هذه الأجسام إلى مشكلة ستواجه الإدارة الجديدة، لحظة البدء بتوجيه الدعوات إلى مؤتمر الحوار الوطني.

وما ينطبق على الأجسام السياسية، ينطبق على الجسم العسكري، وتحديدا الجيش الوطني، والذي يميل معظم قياداته إلى السياسة التركية، فصحيح أن فصائل الجيش الوطني كانت حاضرة في "مؤتمر النصر" في دمشق، حيث عين أحمد الشرع رئيسا للبلاد، إلا أن كيفية انضوائهم إلى الجيش السوري الجديد، لا تزال غامضة، وقد تُقرأ بعض تعيينات قيادات بالجيش الوطني السوري- عليها الكثير من إشارات الاستفهام- بمناصب عليا اليوم، كنوع من الرسائل التطمينية للأتراك، لا نريد علاقات سيئة معكم، ولا نريد إقصاء من قمتم بتعيينهم، ولكن لا للولاء المطلق.

ما سربه الجانب التركي إلى الإعلام قبيل زيارة الشرع إلى أنقرة، ولقائه الرئيس أردوغان من أن الجانبين بصدد توقيع اتفاق دفاعي مشترك، ويتضمن إنشاء 4 قواعد جوية تركية في وسط سوريا وتدريب الجيش السوري الجديد، لم يحصل حتى اللحظة

ما سربه الجانب التركي إلى الإعلام قبيل زيارة الشرع إلى أنقرة، ولقائه الرئيس رجب طيب أردوغان من أن الجانبين بصدد توقيع اتفاق دفاعي مشترك، يتضمن إنشاء 4 قواعد جوية تركية في وسط سوريا وتدريب الجيش السوري الجديد، لم يحصل حتى اللحظة، وبقي الأمر محصورا في تسريبات إعلامية، هذه التسريبات لا يمكن اعتبارها مجرد تكهنات، بل هي رسائل ووسائل ضغط. موضوع الجمارك على السلع التركية، لدعم الصناعة المحلية، وقدرة المواطن الشرائية شبه المعدومة اليوم، كانا من المؤشرات الأخرى على العلاقة بين الطرفين.

يعتبر البعض أن تركيا كان لها الدور الأكبر في دعم عملية "ردع العدوان"، ولكن أيضا من المهم أن نذكر أن أردوغان كان متحمسا للتطبيع مع الأسد، وتؤكد المصادر أن التفاصيل تشي بأمر مختلف، ولهذا حديث آخر.

ليس المقصود القول إن العلاقة بين تركيا ودمشق سيئة، ولكن أنقرة تطالب دمشق بالكثير في وقت قصير، وهذا لا يدل على ثقة مطلقة بمن هم في دمشق اليوم، والردود السورية أيضا لا تدل على علاقة تابع ومتبوع. فالشرع بدوره لا يسعى إلى علاقة باردة مع أنقرة، ولكنه يدرك أن سوريا بحاجة إلى دعم الجميع، دون استفزاز أحد، مع ميل واضح لأن يكون العرب، وتحديدا المملكة العربية السعودية، الحاضن الأول لسوريا الجديدة، بعيدا عن الأجندات السياسية والخلافات الإقليمية.

تسعى تركيا لملء فراغ الانسحاب الإيراني والروسي من سوريا، وتحاول الإيحاء بأنها "الأب الشرعي" للمولود الجديد في دمشق، فيما يسعى الشرع إلى إبعاد سوريا قدر المستطاع عن سياسة المحاور، وتأكيد انتماء سوريا إلى المحيط العربي، العروبة بمفهومها الحداثي لا القومي، كما إلى محيطها الإسلامي المعتدل، هذه المعادلة تحتاج إلى الكثير من الحذر، ولكن تحتاج أيضا من جميع المعنيين بأمن سوريا وسيادتها أن يتلقفوا الرسائل والإشارات.

font change