اللورد بيتر ماندلسون... السياسي الجرئ الذي يعيد تشكيل الدبلوماسية

جرأة نادرة في طرح المواقف السياسية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
بيتر ماندلسون في مؤتمر حزب العمال السنوي مؤتمر حزب العمال السنوي في ليفربول

اللورد بيتر ماندلسون... السياسي الجرئ الذي يعيد تشكيل الدبلوماسية

عندما عيّن رئيس الوزراء البريطاني، السير كير ستارمر، اللورد بيتر ماندلسون مؤخرا سفيرا للمملكة المتحدة لدى الولايات المتحدة، بدا الأمر غير متوقع على عدة مستويات. فقد كان ترشيح ماندلسون، لهذا المنصب الذي يُعتبر الأهم في السلك الدبلوماسي البريطاني، من بين سلسلة من التعيينات التي أجراها ستارمر لشخصيات بارزة من فترة حكم توني بلير وغوردون براون في حكومة حزب العمال. كما شملت هذه التعيينات أيضا تسمية جوناثان باول، رئيس موظفي بلير السابق، مستشارا للأمن القومي، وتكليف وزير الدفاع العمالي السابق جورج روبرتسون بالإشراف على مراجعة "جذرية وفرعية" لمتطلبات الدفاع المستقبلية للمملكة المتحدة.

ولكن الأمر الأكثر إثارة للجدل كان تعيين ماندلسون سفيرا للمملكة المتحدة في واشنطن، ولا سيما أن ماندلسون سبق له أن استخدم لغة مهينة في وصف الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إذ نعته بأنه "متهور" و"متنمر."

ففي مقابلة أجراها صحافي إيطالي معه في عام 2019، وصف السفير البريطاني المعين ترمب بأنه "متهور وخطر على العالم." وجاء ذلك في أعقاب مقابلة أجرتها معه صحيفة لندن إيفيننغ ستاندارد عام 2018 وصف فيها ترمب بأنه "متنمر." كما وصف ذات مرة الزعيم الأميركي الذي نُصب مؤخرا بأنه "أقرب إلى القومية البيضاء والعنصرية،" وهي تصريحات لا تتناسب مع اللغة الدبلوماسية المعتادة عند التعيينات في المناصب الدبلوماسية.

وعلاوة على ذلك، أثار ماندلسون استياء السلك الدبلوماسي البريطاني بأكمله من خلال التقليل من شأن منصب السفير في سفارة رئيسة مثل تلك التي في واشنطن، إذ زعم أن الوظيفة لا تتطلب أكثر من مجرد أداء دور مدير فندق.

وعندما سُئل عما إذا كان سيعيّن سفيرا للمملكة المتحدة في واشنطن خلال الفترة التي سبقت عيد الميلاد العام الماضي، أجاب: "لا، لا يعنيني الأمر. فأنا لا أرغب في أن أصبح مدير فندق في هذه المرحلة من حياتي." وبعد بضعة أيام، أكد ستارمر أن الوزير السابق والموالِ المخلص لبلير، والذي أُجبر مرتين على الاستقالة من حكومة بلير بعد تورطه في فضائح سياسية، سيصبح بالفعل السفير التالي في واشنطن، ليحل محل السفيرة الحالية المحترمة للغاية، السيدة كارين بيرس.

أثار ماندلسون استياء السلك الدبلوماسي البريطاني بأكمله من خلال التقليل من شأن منصب السفير في سفارة رئيسة مثل تلك التي في واشنطن، إذ زعم أن الوظيفة لا تتطلب أكثر من مجرد أداء دور مدير فندق

مما لا شك فيه أن تعيين ماندلسون قد أثار حفيظة بعض الأميركيين على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، إذ رد أحد كبار مستشاري حملة ترمب الانتخابية بإدانة ماندلسون ووصفه بأنه "أحمق تماما." وقال كريس لاسيفيتا في منشور كتبه على وسائل التواصل الاجتماعي، إن ماندلسون "يجب أن يبقى في بلاده." وانتقد لاسيفيتا، الذي كان مديرا مشاركا في حملة ترامب الانتخابية الرئاسية، قرار الحكومة البريطانية، مشيرا إلى أنها تستبدل "سفيرة محترفة تحظى بتقدير عالمي بشخص في منتهى الحماقة."

كما أثيرت مخاوف في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة بشأن مدى ملاءمة ماندلسون لهذا المنصب، نظرا لعلاقاته الوثيقة مع الصين، وهو الأمر الذي أدى إلى تمرير ملف حول روابطه بالصين إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي .

لقد سُلّم ملف ماندلسون، الذي أعده التحالف البرلماني الدولي في المملكة المتحدة بشأن الصين، إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي بعد أن اطلع عليه أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي. وعلى الرغم من أن ماندلسون نفى أي صلات من هذا القبيل، يُقال إن الملف يوضح بالتفصيل دور ماندلسون كمستشار لـ (شركة الصين الدولية لرأس المال CICC)، ومقرها الصين، وهي الصلة التي لم يعلن عنها في سجل مجلس اللوردات، وفقا لما كشفته صحيفة ذا نايتلي الأسترالية.

ويُقال أيضا إن الملف يحتوي على العديد من الأمثلة التي أشادت فيها شخصيات من الحزب الشيوعي الصيني بماندلسون أو شكرته على عمله مع الشركات الحكومية، كما أن مواقع الإنترنت الصينية تضم قائمة بأمثلة على زياراته المتكررة للصين مع شركة الاستشارات جلوبال كاونسل ولقاءاته مع شخصيات رفيعة المستوى.

أ.ف.ب
بيتر ماندلسون في إحدى فعاليات حزب العمال

 

أثيرت مخاوف في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة بشأن مدى ملاءمة ماندلسون لهذا المنصب، نظرا لعلاقاته الوثيقة مع الصين

ومع ذلك، وعلى الرغم من استقالتيه السابقتين، فإنه يُسجَّل لماندلسون امتلاكه خبرة سياسية واسعة، إذ شغل منصب وزير التجارة، ووزير شؤون أيرلندا الشمالية في عهد بلير، ووزير الأعمال في عهد غوردون براون، كما أنه كان مفوضا للتجارة في الاتحاد الأوروبي لمدة أربع سنوات. وقد وافقت إدارة ترمب رسميا على تعيينه، وحصل على الموافقة الرسمية على استقبال دبلوماسي جديد. وما يزال يتعين على ماندلسون تسليم ترمب "خطاب اعتماد،" ولكن يُنظر إلى ذلك على أنه إجراء شكلي، إذ أكد مسؤولون في وزارة الخارجية أنه ما لم تحدث أي عراقيل غير متوقعة، فسيثبت ماندلسون رسميا في منصبه الشهر المقبل.

وزادت احتمالات تولي ماندلسون منصبه الجديد في واشنطن بعد أن قدم اعتذارا متذللا على قناة فوكس نيوز عن انتقاداته السابقة لـترمب: "لقد أدليت بهذه التصريحات قبل ست سنوات في عام 2019، تحت تأثير صحفي إيطالي ... جاء ذلك في فترة كانت فيها بريطانيا تشهد فيه اضطرابات سياسية شديدة ومشاعر متأججة حيال العديد من القضايا. وأرى أن تصريحاتي بشأن الرئيس ترمب كانت غير حكيمة وخاطئة. وأعتقد أن الزمن والمواقف تجاه الرئيس قد تغيرت منذ ذلك الحين." وقال ماندلسون الذي أقر بالتفويض "الاستثنائي" الثاني الذي حظي به ترمب، إن ترمب نال "احتراما جديدا" منه.

وزادت احتمالات تولي ماندلسون منصبه الجديد في واشنطن بعد أن قدم اعتذارا متذللا على قناة فوكس نيوز عن انتقاداته السابقة لـترمب

نشأ ماندلسون البالغ من العمر 71 عاما في ضاحية هامبستيد بلندن، وأبدى اهتماما مبكرا بالسياسة كناشط في رابطة الشباب الشيوعيين. ولكن بعد حصوله على مقعد دراسي في جامعة أكسفورد، انتقل إلى صفوف حزب العمال. وأصبح في عام 1976، خلال سنته الأخيرة، رئيسا لـ مجلس الشباب البريطاني، وهو منظمة تدعمها الأمم المتحدة، ويُزعم – وفقا لليسار– أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) كانت تدعمها أيضا، ومن ثمّ انضم ماندلسون إلى حزب العمال كموظف مبتدئ بعد تخرجه، وتدرج في المناصب حتى أصبح أحد أكثر مستشاري توني بلير نفوذا. ويُنسب إليه، مع كل من بلير وبراون، الفضل في تشكيل آلة "حزب العمال الجديد." التي قادت الحزب إلى انتصاره الساحق في انتخابات 1997. لكن أسلوبه في الترويج لرسالة الحزب الجديد – من خلال التلاعب الإعلامي والتسريبات والتوجيهات المضللة – أكسبه العديد من الأعداء، ومنحه لقب "أمير الظلام،" وهو لقب ما زال يطارده حتى اليوم.

ولكن يبقى أن نرى ما إذا كانت خبرته في التحدث الإعلامي سوف تساعده في منصبه الجديد في واشنطن. وبعد أن قدم اعتذاره المتذلل لترمب على فوكس نيوز، سيتعين على ماندلسون إدارة علاقات حكومة العمال مع البيت الأبيض، وهي مهمة قد تكون صعبة بالنظر إلى الحادثة الكارثية خلال الحملة الانتخابية الرئاسية العام الماضي. فقد ذهب ما يقرب من 100 ناشط من حزب العمال إلى الولايات المتحدة بهدف دعم المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، وهو الأمر الذي دفع ترمب إلى اتهام حزب العمال بـ "التدخل السياسي الفاضح" وتقديم شكوى رسمية إلى لجنة الانتخابات الفيدرالية. ونجد أيضا بعض التغريدات التاريخية غير المفيدة التي نشرها مسؤولون كبار آخرون في حزب العمال. فقد وصف وزير الخارجية ديفيد لامي ترمب بأنه "مختل عقليا يكره النساء ويتعاطف مع النازيين الجدد،" ووصفه أيضا بأنه "طاغية يرتدي شعرا مستعارا."

وبصفة عامة، سيتولى ماندلسون، بصفته سفيرا، إدارة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، والمشاركة في المفاوضات السياسية والاقتصادية، وتعزيز التعاون الثنائي وحماية مصالح المملكة المتحدة. كما سيتعين عليه التعامل مع التهديد الذي تشكله الرسوم الجمركية العالمية التي فرضتها رئاسة ترمب على الواردات إلى الولايات المتحدة على وجه التحديد، والتي قد يكون لها تأثير كبير على الاقتصاد البريطاني، كما سيكون له دور محوري في صياغة السياسة الخارجية البريطانية التي تسعى إلى علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي مع الحفاظ على علاقات جيدة مع الرئيس ترمب.

ويُعد ماندلسون أول دبلوماسي غير محترف يُعين سفيرا لبلاده في واشنطن منذ أن عين رئيس الوزراء العمالي جيم كالاهان صهره، الصحفي بيتر جاي، سفيرا في عام 1977. كما أنه سيكون أول سفير بريطاني مثلي الجنس يُعين في واشنطن، حيث سيعيش معه في مقر إقامته الرسمي المترجم البرازيلي رينالدو أفِيلا دا سيلفا، البالغ من العمر 52 عاما، والذي تزوج منه عام 2023.

لقد أصبحت السفارة البريطانية الرمز النهائي للقوة الناعمة البريطانية منذ افتتاحها في عام 1930، وهي قصر رائع صممه السير إدوين لوتينز، وخضعت لعملية تجديد استغرقت خمس سنوات بتكلفة 119 مليون جنيه إسترليني واكتملت في عام 2023. ويقول المقربون من اللورد ماندلسون إن هذا هو المنصب الذي طالما حلم به. ولطالما حظيت الدعوات لحضور حفلات الاستقبال في السفارة بتقدير كبير في واشنطن العاصمة، المدينة التي تتسم بالحساسية الاجتماعية. وسوف يستقبل الضيوف اللورد ماندلسون بلقبه الرسمي "صاحب السعادة." ومن المؤكد أنه سوف يرى اللقب الجديد بمنزلة ترقية مستحقة.

font change