"الكريبتو" جنون بلا حدود ولا قيود... بين الازدهار والانهيار (1 من 2)

مرونة تنظيمية أكبر ترفع شهية المستثمرين وتثير مخاوف جمة من قفزات بلا سقف وسقوط بلا قعر

أدريان أستورغانو وناش/ براسكيرا
أدريان أستورغانو وناش/ براسكيرا

"الكريبتو" جنون بلا حدود ولا قيود... بين الازدهار والانهيار (1 من 2)

عادت العملات المشفرة إلى الضوء بزخم كبير دفع الأسواق إلى مستويات تاريخية بعد فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الانتخابات ووعوده بتبني هذه الصناعة وتحرير أطرها التنظيمية، وتترقب الأسواق خطواته التالية بعدما تسلم مفاتيح البيت الأبيض، وسط عاصفة من التساؤلات عن مدى استدامة هذا الانتعاش والأخطار المحدقة بعملات لا سند ملموسا لها، وصفها رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات السابق غاري غينسلر بـ"الغرب المتوحش"، وهو هرب مع تسلم ترمب الذي يعد أميركا والعالم بأن تكون "الكريبتو" جنونا بلا حدود ولا قيود.

لعل أكثر ما أقنع الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتبني "اقتصاد" العملات المشفرة (كريبتو) في الولايات المتحدة الأميركية كإحدى استراتيجيات حملته الانتخابية، طبيعتها المتقلبة كمزاجه، وتطوراتها غير المتوقعة كردود أفعاله، ومرونتها في خوض الأخطار تماما كجرأته وإقدامه. فحتى كتابة هذه السطور، اكتسبت سوق العملات المشفرة أكثر من تريليون دولار منذ فوز ترمب في الانتخابات في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، الذي شكل نقطة تحول مهمة، مع اكتساب المستثمرين مزيدا من الثقة تبعا للدعم السياسي لهذه العملات، لتتخطى قيمتها الإجمالية 3,7 تريليونات دولار في التاسع من ديسمبر/كانون الأول قبل أن تعيد تموضعها، وسط تفاؤل عارم من المستثمرين في أن تكون المرحلة المقبلة عصرا ذهبيا لهذه السوق الافتراضية.

أما نجم المرحلة، فهي الـ"بيتكوين" دون منازع، التي تخطى سعرها المئة ألف دولار بعد إعلان ترمب تعيين بول أتكنز رئيسا جديدا لهيئة الأوراق المالية والبورصات، وهو القادم من "ملاعب" العملات المشفرة، خلفا لرئيسها السابق المتشدد حيال التداول بهذه العملات غاري غينسلر، لتسجل الـ"بيتكوين" ارتفاعا بأكثر من 50 في المئة منذ إعلان فوز ترمب، وذلك لا شك حدث يؤرخ. بل يرى خبراء أن سعرها قد يصل إلى 200 ألف دولار، وأن ذلك وارد ومنطقي جدا في ظل إقدام المزيد من المستثمرين على دمج الـ"بيتكوين" في محافظهم الاستثمارية، والتوجه الإيجابي في وضع نظم وتشريعات "أكثر مرونة" تحكم هذه الصناعة، وهو ما ينتقده البعض ويولد تشاؤما لدى البعض الآخر حيال مستقبل أسواق العملات المشفرة.

شهدت الـ"بيتكوين" ارتفاعا بأكثر من 50 في المئة منذ فوز ترمب في نوفمبر الماضي

يلقي هذا المشهد، الوردي في ظاهره، والمقلق في بواطنه، أسئلة عدة، أولها إلى متى ستستمر هذه الطفرة الكبيرة، وهمية أكانت أم واقعية، وما هي أسسها، وكيف ينظر إلى هذه السوق التي تحصد مئات مليارات الدولارات في انهيارها وكذلك في صعودها، وهل سنشهد قواعد تنظيمية أقل صرامة وأكثر دعما لها، والأهم، ما هو موقعها الاقتصادي والأخطار أو الفرص المحتملة التي يمكن أن تنتج منها؟

"أسواق مشفرة" واعدة ومتجددة

أبصرت العملات المشفرة النور عام 2008، وزادت شعبيتها منذ ذلك الحين وصارت جزءا لا يمكن تجاهله أو الاستهانة به من النظام المالي العالمي، كأداة استثمار ودفع. وقد أثبتت قدرتها على تغيير بنية الأسواق المالية في مناسبات عدة، عززتها العوامل الجيوسياسية والاقتصادية العاصفة التي ألمت بالاقتصاد العالمي وزادت هشاشته. وقد لمسنا هذه الهشاشة في الأزمة الأخيرة التي أعقبت صدور تقرير الوظائف الأميركي في مطلع أغسطس/آب من السنة الفائتة وأثارت حالا من الذعر انعكست سقوطا حرا للأسواق المالية، وإن أظهرت العملات المشفرة التي لم يستثنها التراجع الكبير، تماسكا نوعيا تماشى مع أمزجة المستثمرين المترقبين لملاذات قد يعتبرونها أكثر أمانا من أدواتهم التقليدية. 

غيتي
ملصق لترمب على زجاج متجر للبتكوين في هونغ كونغ، الصين 5 ديسمبر 2024

تختلف العملات المشفرة عن العملات الرقمية الأخرى بكونها مشفرة وتعتمد على تقنية الـ"بلوكشاين"، أو سلسلة الكتل، لتتبع المعاملات. التقنية الأخيرة، هي باختصار، عبارة عن سجلات رقمية لامركزية موزعة ومقاومة للتلاعب بحيث لا يمكن تعديل أي معاملة بمجرد تسجيلها، وتسمح للمستخدمين بتسجيل المعاملات على أحد دفاتر السجلات المشتركة التي تتضمنها المجموعة. كما تسمح تقنية الـ"بلوكشاين" للمستخدمين بمشاركة البيانات بشكل علني، مما يتيح للمشاركين إمكان التحقق من صحة المعاملات.

وتعرف عملية التحقق من صحة المعاملات وإضافتها إلى الـ"بلوكشاين"، بالتعدين، وهي عملية ضرورية لعمل العملات المشفرة مثل الـ"بيتكوين"، كونها تضمن دقة السجلات المشتركة وتحافظ على أمان الشبكة.

هناك نحو 10,300 عملة مشفرة تتفاوت قيمتها ويستخدمها أكثر من 600 مليون متداول عالميا

ويستخدم مصطلح "التعدين" لوصف هذه العملية، إذ تشبه إلى حد ما استخراج المعادن الثمينة من الأرض. فكما ينفق القائمون على التعدين الموارد لاستخراج الذهب، يستخدم القائمون على "تعدين" العملات المشفرة القوة الحسابية والكهرباء للتحقق من صحة المعاملات.

استهلاك الـ"بيتكوين" للطاقة بحجم استهلاك دول

ونظرا لاستهلاكها الكبير للطاقة الكهربائية والمتزايد باضطراد، يعتبر تعدين العملات المشفرة عاملا إضافيا من عوامل تغير المناخ بسبب الانبعاثات الكربونية التي يولدها. ويقارن استهلاك الـ"بيتكوين" للطاقة بحجم استهلاك دول بأسرها، ففي حين تمثل نحو 4 في المئة من استهلاك الولايات المتحدة للطاقة، تمثل أيضا نحو 150 في المئة من استهلاك هولندا وأكثر من 250 في المئة من استهلاك الجمهورية التشيكية، استنادا إلى "ديجكونوميست".

ديانا استيفانيا روبيو

وفقا لموقع "ستاتيستا" نقلا عن "إنفستينغ دوت كوم"، أحصي في ديسمبر/كانون الأول 2024، وجود نحو 10,300 عملة مشفرة، ليست كلها ذات قيمة. وهناك آلاف العملات المشفرة غير النشطة. كما يذكر الموقع نفسه أن هناك أكثر من 600 مليون مستخدم للعملات المشفرة في العالم، وأكثر من 20 ألف شركة تقبل شكلا من أشكال العملات المشفرة كوسيلة للدفع.

تتربع "بيتكوين" على عرش العملات المشفرة باستئثارها بنحو 58 في المئة من القيمة السوقية للعملات كلها. ومن أبرز العملات التي تلي "بيتكوين"، "إيثيريوم" و"تيثر" و"بايننس كوين" و"سولانا" و"يو. إس. دي. كوين" و"إكس. آر. بي." و"دودج كوين" و"ترون" و"تون كوين" و"كاردانو". ومن هذه العملات ما يسمى بالعملة المستقرة (Stablecoin)، مثل "تيثر" و"يو. إس. دي. كوين"، وهي عملات مصممة للحفاظ على قيمة مستقرة نسبة لأصل معين أو سلة من الأصول.

تتربع "بيتكوين" على عرش العملات المشفرة باستئثارها بنحو 58 في المئة من القيمة السوقية

على عكس العملات المشفرة التقليدية مثل الـ"بيتكوين" أو الـ"إيثيريوم"، التي يمكن أن تشهد تقلبات كبيرة في الأسعار، تهدف العملات المستقرة إلى توفير مخزن ثابت للقيمة ووسيلة للتبادل، من خلال دعم الأصول بالاحتياطيات (العملات الورقية أو المدعومة بالعملات المشفرة أو الذهب) أو التحكم بالخوارزميات أو مزيج من الآليتين.

وتذكر صحيفة الـ"فايننشال تايمز" أن "نحو 200 مليار دولار من "العملات المشفرة المستقرة" المرتبطة بالدولار تلعب دورا مهما في توسيع نطاق العملة الأميركية كعملة احتياط عالمية"، و"يشكل مصدرو العملات المستقرة بالفعل أكبر 20 حاملا لأذونات الخزينة في العالم"، وفقا للصحيفة نفسها.

ديانا استيفانيا روبيو

أما الحصول على العملة المشفرة فيستدعي فتح حساب على منصة تداول رقمية، يتيح شراء عملة واحدة والتداول في مقابل عملة أخرى. ويمكن للمتداولين تحويل العملة المشفرة إلى نقد أو عملة ورقية، وهذا ما يفسر الانهيار القياسي الذي شهدته منصة "إف. تي. أكس." للعملات المشفرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 والتي أثارت جدلا كبيرا لا يزال أثره حتى اليوم، وإن اختلفت المعطيات التي أنعشت السوق بعد مخاض عسير. وللحديث عن "إف. تي. إكس." والاضطراب الكبير الذي أحدثته في سوق العملات المشفرة تتمة في هذا المقال.

لا يفوتنا أيضا واقع أن العملات المشفرة باتت تعتبر وسيلة تمويل لامركزية، لتنضوي تحت ما يعرف بنظام "دافي" (Decentralized Finance-DeFi) غير المرتبط بهيئات مالية وسيطة، وكذلك تحت لواء "الشمول المالي"، وقد لمسنا ذلك بالعمق من خلال استخدام تنظيمات خاضعة لعقوبات دولية، العملات المشفرة لتأمين حاجاتها التمويلية بعيدا من الرقابة والحظر.

صناديق العملات المشفرة أصولا بـ 116 مليار دولار في مقابل 132 تريليون دولار للأصول المالية

وتعتبر لامركزية العملات المشفرة في الأموال والتجارة أبرز أسباب شعبيتها المستمرة. وما يغري المتداولين بالعملات المشفرة، أن هذه العملات لا تستدعي قدرا كبيرا من السيطرة والتنظيم من قبل الهيئات الحكومية الناظمة مثل هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، والبنوك المركزية، والمؤسسات التنظيمية الأخرى، كون تلك العملات تعتمد تقنية الـ"بلوكشاين" غير القابلة للاختراق والتغيير، والأكثر شفافية وأمانا بالنسبة للمستثمرين الباحثين عن الثقة.

"تألق" العملات المشفرة لا يزال ركيكا؟

ثبتت العملات المشفرة أقدامها كفئة أصول جديدة جاذبة للمستثمرين، خصوصا مع الارتفاع السريع في قيمة بعض العملات المشفرة على الرغم من الكثير من التقلبات التي رافقتها.

وعلى الرغم من تمايزها في الشهور الماضية، لا تزال أداة حديثة، أمامها طريق طويل جدا لتقطعه لمجاراة الأدوات المالية التقليدية من حيث حجم الأصول المدارة في العالم، بحيث تدير صناديق العملات المشفرة أصولا تقدر بـ116 مليار دولار فقط وفقا لموقع "كريبتو بريفينغ"، في مقابل نحو 132 تريليون دولار للأصول المالية المدارة عالميا، كما جاء في تقرير لـ"ماكنزي أند كومباني".

ديانا استيفانيا روبيو

كذلك، قدرت رؤوس الأموال المخاطرة المستثمرة في شركات التشفير بـ 2,4 مليار دولار في الربع الأول من 2024، بحسب "بيتش بوك" (PitchBook)، ووصلت بحسب موقع "غالاكسي" إلى 8 مليارات دولار في نهاية الربع الثالث من 2024، ويتوقع لها أن تتخطى استثمارات 2023. إلا أن حجم رؤوس الأموال هذه لا يزال أقل بكثير مما كان عليه في الربع الأول من 2022، أي قبل بداية أزمة سوق العملات المشفرة، إذ لامس الـ10 مليارات دولار في تلك الفترة.

شكلت العملات المشفرة نوعا جديدا من الأصول نال اهتمام المستثمرين المبتدئين. إلا أنه في عام 2021، اجتذب هذا القطاع عددا متزايدا من المستثمرين الماليين التقليديين على الرغم من تحذيرات كثيرة حول خطورة هذه السوق غير الخاضعة لقوانين الدول وتنظيماتها

وبعد مقاومة على مدى نحو عقد من الزمن، وافقت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية مطلع 2024 على إطلاق صناديق استثمار "بيتكوين" للتداول الفوري تديرها شركات كبرى مثل "بلاك روك" التي اجتذبت أخيرا استثمارات تقدر بـ60 مليار دولار، و"فيديليتي"، تلتها صناديق "إيثر"، ثاني أكبر عملة مشفرة بعد "بيتكوين"، في يوليو/تموز، مما يشكل انعطافا في موقف الهيئة التي اعتبرت سابقا أن العملات المشفرة عرضة للتلاعب والاحتيال.

ولم يتوان رئيس الهيئة السابق غاري غينسلر، عن إبداء عدم رضاه عن إصدار هذه التراخيص قائلا: "على الرغم من أننا وافقنا على إدراج بعض أسهم الـ'بيتكوين' الفورية وتداولها في البورصة، فإننا لم نوافق على عملة الـ'بيتكوين' أو نؤيدها". ودعا المستثمرين لأن "يظلوا حذرين في شأن الأخطار التي لا تحصى، المرتبطة بالـ'بيتكوين' والمنتجات التي ترتبط قيمتها بالعملات المشفرة".

أوجاع "إف. تي. إكس." لم تنس ولم تشف بعد

قبل أربعة أو خمسة أعوام، شكلت العملات المشفرة نوعا جديدا من الأصول نال اهتمام المستثمرين المبتدئين. إلا أنه في عام 2021، اجتذب هذا القطاع عددا متزايدا من المستثمرين الماليين التقليديين على الرغم من تحذيرات كثيرة حول خطورة هذه السوق غير الخاضعة لقوانين الدول وتنظيماتها، ومنها ما صرح به منذ فترة طويلة نسيم طالب المحلل والكاتب اللبناني الأميركي المعروف، الذي تتناول كتاباته أخطار العشوائية والاحتمالية وعدم اليقين في الاستثمار، والذي وصفت صحيفة "صنداي تايمز" كتابه "The Black Swan" عام 2007 بأنه واحد من 12 كتابا الأكثر تأثيرا منذ الحرب العالمية الثانية. إذ قال طالب بأن العملة المشفرة لا قيمة لها، مشبها إياها ببناء عملاق بناه مجموعة من الأطفال غير المنسجمين، وواصفا حاملي العملات المشفرة بالسذج الذين ينقصهم الوعي المالي ليدركوا أنهم في الواقع مفلسون. فعلى عكس الودائع المصرفية التقليدية، يمكن تداول العملات المشفرة، وهي أصل رقمي، من دون المرور بآليات السلطات المالية الرسمية أو المصارف المركزية، فهي تاليا لا تخضع لقواعد وقوانين تضمن حماية المستثمرين فيها.

.أ.ف.ب
الشرطة تقبض سام بانكمان مؤسس شركة FTX، في ناسو بجزر البهاما، 13 ديسمبر 2022

كذلك توقع وارن بافيت في مقابلة عام 2018 أن تكون نهاية العملات المشفرة وخيمة، وهو القائل إنه يرفض شراء جميع عملات الـ"بيتكوين" في العالم ولو عرضت عليه في مقابل 25 دولارا فقط، إذ خلافا للاستثمارات التقليدية، ليس للعملات المشفرة أي قيمة كامنة لتغدو استثمارا منتجا ولا تتعدى كونها خاضعة للبيع والشراء. ومن المفيد أن لا ننسى فضيحة "إف. تي. إكس."، التي شكلت منعطفا كبيرا لجهة القواعد التنظيمية لهذه السوق والتوجه الذي قادته هيئة الأوراق المالية والبورصات، جنبا إلى جنب مع الكونغرس الأميركي، لتشديد التنظيمات. فخلافا لأخطار إفلاس المصارف التي تعمل الحكومة الأميركية على دعمها والحد من تدهورها من خلال تأمين الأموال اللازمة لها، لا تتمتع العملات المشفرة بدعم مماثل، مما يضاعف تأثير تقلباتها لا سيما انخفاض قيمتها، ويعزز فرضية إفلاس منصات تداولها مع كل اهتزاز في ثقة مستثمريها.

نسي المستثمرون المتعجلون ان سام بانكمان فريد لا يزال في السجن لـ25 سنة

وقع ذلك فعلا في أواخر عام 2022، تحديدا نوفمبر/تشرين الثاني حين انهارت بورصة "إف. تي. إكس." وفقدت العملات المشفرة نحو تريليون دولار من قيمتها لتنخفض إلى أقل من 800 مليار دولار في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2022. فقد تدافع المستثمرون لسحب ستة مليارات دولار من الودائع من بورصة "إف. تي. إكس." بعد معلومات عن تعرضها لأزمة سيولة واكتشاف وجود فجوة ضخمة بين الالتزامات والأصول. المفارقة أن "إف. تي. إكس." نفسها أنقذت بورصات تشفير أخرى في وقت سابق من ذاك العام لتجر معها شركات أخرى إلى الإفلاس بعد وقف جميع عمليات السحب كشركة "جنيسيس" و"سولت" و"ليكويد غلوبال" و"بلوك في" وغيرها الكثير.

وكانت سبقت ذلك حالة من الهلع والذعر أثارتها تصريحات منصة "كوين بايس" منتصف مايو/ أيار 2022 بأن أصول العملاء لديها من عملات افتراضية وغيرها ليست آمنة في حال تعرضها للإفلاس، وكذلك إعلان منصة "سيلسيوس" إيقافها عمليات السحب والتداول والتبادل  والتحويلات بين الحسابات، لا سيما أن الثقة كانت قد تزعزعت بعد انهيار عملة "تيرا لونا" المفاجئ، وهي التي كانت تعتبر عملة مستقرة، والخسائر الفادحة في صفوف المتداولين. وأدت سلسلة انهيارات العملات المشفرة، تدفعها عملة "تيرا لونا"، إلى موجة من حالات الإفلاس بين مقرضي العملات المشفرة مثل "سيلسيوس" و"بلوك في" و"فويجر".

ديانا استيفانيا روبيو

نظر المتداولون إلى هذا الانخفاض على أنه مثير للريبة، إذ فقدت هذه العملة نحو 36 في المئة من قيمتها في يوم واحد خلال مايو/ أيار، من 14 مليار دولار إلى 9 مليارات دولار، من دون سبب واضح، ولم تعرف الجهة التي سحبت تلك الأموال! وهو ما أرسل إشارات سلبية إلى المستثمرين كافة في العملات المشفرة، ومن بينهم صناديق تقاعد ومصارف كبيرة، وسرعان ما انطلقت موجة ذعر وبادر الجميع إلى محاولة سحب أموالهم في أسرع وقت ممكن، مما حفز حدوث الإنهيار، في ظاهرة سميت بـ"ليمان براذرز"، تيمنا بانهيار المصرف المذكور في عام 2008 وما أعقبه من سلسلة إفلاسات لمؤسسات أخرى.

سام بانكمان فريد في السجن لـ25 سنة

وفيما هبت "إف. تي. إكس." آنذاك لإنقاذ "بلوك في" وشراء أصول "فويجر" دعما لسوق العملات المشفرة، كانت الشركة نفسها في وضع مالي داخلي غير سوي يتعلق بشركة "ألاميدا للأبحاث" التابعة لها والمعنية بالصفقات، أوصلها إلى تكبد خسائر عانت منها في وقت لاحق، وأضحت سببا لإفلاس "إف. تي. إكس." في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ولاحقا لاعتقال مالكها ورئيسها السابق سام بانكمان فريد في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2022 الذي وجهت إليه ثماني تهم احتيال، مما أمعن في اتساع الأزمة التي ألمت بسوق التشفير.

البنوك المركزية بين التشفير والعملات الرقمية الرسمية

وقد أدين بانكمان فريد بتهم الاحتيال الموجهة إليه وحكم عليه في مارس/آذار 2024 بالسجن لمدة 25 عاما، وألزم دفع 11 مليار دولار لاتهامه بتنسيق مخططات احتيالية متعددة.

التشفير في العالم العربي... خطوات ثابتة 

إن استعادة تفاصيل واقعة منصة "إف. تي. إكس." مهمة جدا اليوم، ويجب أن تبقى ماثلة في الأذهان، أيا كان ما سيفعله دونالد ترمب غدا، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي صنفت أنها سابع أكبر سوق للعملات المشفرة على مستوى العالم في عام 2024، بحسب المؤشر العالمي لاعتماد العملات المشفرة لعام 2024 (Global Crypto Adoption Index 2024)، بحجم تداول قدر بنحو 338,7 مليار دولار في الفترة ما بين يوليو/تموز 2023 ويونيو/حزيران 2024، وهو ما يمثل 7,5 في المئة من حجم التعاملات الإجمالية في العالم.

وعلى الرغم من أن السوق في هذه المنطقة تعد أصغر مقارنة بمناطق أخرى، إلا أنها تضم ​​دولتين مصنفتين ضمن أفضل 30 دولة في المؤشر وهي تركيا (في المرتبة 11) والمغرب (في المرتبة 27)، بحجم تداول بلغ 137 مليار دولار و12,7 مليار دولار على التوالي. علما أن المغرب كان سبق له حظر تداول العملات المشفرة في البلاد منذ عام 2017، إلا أن استخدامها تواصل بشكل سري حيث نجح المتداولون بالالتفاف على القيود المفروضة. وبعد سبع سنوات من الحظر، يستعد المغرب لاعتماد مشروع قانون للعملات المشفرة، وفقا لمحافظ البنك المركزي المغربي عبد اللطيف الجواهري.

وسجلت غالبية نشاطات العملات المشفرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على المستوى المهني والشركات، حيث بلغت قيمة 93 في المئة من المعاملات 10 آلاف دولار وما فوق للمعاملة الواحدة. وقد أضحت دبي مركزا لشركات التشفير مع تحويل مركز دبي التجاري العالمي إلى منطقة خاصة بالعملات المشفرة حيث يتم تنظيم هذه العملات وغيرها من الأصول الافتراضية. سبق ذلك إعلان مركز دبي للسلع المتعددة إطلاق مركز التشفير (DMCC Crypto Centre) ليوفر بيئة شاملة للشركات العاملة في قطاعي التشفير والـ"بلوكشاين".

اعتماد مصرف البحرين المركزي لمنصة "بينانس"، وهو أول اعتماد رسمي من هيئة تنظيمية للمنصة في الشرق الأوسط

وكانت الانطلاقة التشريعية في إصدار هيئة تنظيم الخدمات المالية دليلا إرشاديا حول تنظيم سوق الأصول الافتراضية في سوق أبو ظبي العالمي، حيث سمح للشركات بإنشاء بورصات للأصول المشفرة، والعمل كوسطاء لهذه الأصول، والمشاركة في أنشطة الاستثمار فيها في سوق أبو ظبي العالمي. وأعلنت إمارة دبي في فبراير/ شباط 2022 تأسيس هيئة تنظيم الأصول الافتراضية (Dubai Virtual Assets Regulatory Authority – VARA) بموجب قانون "تنظيم الأصول الافتراضية في إمارة دبي".

مصارف مركزية عربية في أسواق التشفير

وأصدر البنك المركزي الإماراتي في منتصف 2024 قواعد تنظيمية جديدة تتعلق بالعملات المشفرة المستقرة سيباشر العمل بها في يونيو/حزيران 2025. وستسمح هذه القواعد للشركات والتجار في الإمارات بقبول العملات المشفرة لتداول السلع والخدمات فقط إذا كانت عملات مستقرة مدعومة بالدرهم.

رويترز

كما ستسمح التشريعات الجديدة باستخدام رموز الدفع الأجنبية (foreign payment tokens) فقط لشراء أصول افتراضية محددة في الإمارات، ليشجع ذلك التعاون والتفاعل الآمن بين شركات التكنولوجيا المالية (fintech) ومقدمي خدمات الأصول الافتراضية مثل بورصات العملات المشفرة، ومنشئي المحافظ (wallets)، ومسهلي عمليات الدفع. أما العملات المشفرة غير المستقرة، وفي مقدمها الـ"بيتكوين" و"إيثر"، فسيقتصر استخدامها في الإمارات على الاستثمار والتداول.

ويعتبر اعتماد مصرف البحرين المركزي لمنصة "بينانس"، وهو أول اعتماد رسمي من هيئة تنظيمية للمنصة في الشرق الأوسط، مؤشرا لافتا إلى المنحى التقدمي الذي تشهده سوق العملات المشفرة في المنطقة. أضف إلى ذلك إنشاء منصة "رين" (rain) للعملات المشفرة في البحرين مرخص لها من قبل مصرف البحرين المركزي، ومتوافقة مع الشريعة الإسلامية، وهي الأولى من نوعها في المنطقة. كذلك، تمكنت البحرين من النفاذ إلى الأسواق الأوروبية من خلال منصة "كوين مينا" (CoinMENA) المرخص لها من قبل مصرف البحرين المركزي والاتحاد الأوروبي والمتوافقة مع الشريعة الإسلامية أيضا. وتعد البحرين موطن لأكثر من 120 شركة للتكنولوجيا المالية، يغلب عليها قطاعا حلول الدفع والـ"بلوكشاين" والعملات المشفرة.

يتبع غدا جزء ثان: العملات المشفرة بين مطرقة ترمب وسندان التنظيم

font change

مقالات ذات صلة