ليوناردو غارزارو لـ"المجلة": دور الكاتب استكشاف المناطق الرمادية والدروب غير المطروقة

أدب أميركا وأوروبا غارق في الرتابة

الكاتب ليوناردو غارزارو

ليوناردو غارزارو لـ"المجلة": دور الكاتب استكشاف المناطق الرمادية والدروب غير المطروقة

ولد الكاتب والصحافي لببرازيلي ليوناردو غارزارو في ساو باولو عام 1983. صدرت روايته الأولى لليافعين "ابتسامة الأسد" عام 2020 ثم المتتالية القصصية "مانح الأسماء"عام 2022 التي صدرت طبعتها العربية العام الماضي كما ترجمت أعماله الى اللغات الإنكليزية والإسبانية والتركية. هنا حوار معه.

  • ما الذي ألهمك كتابة المتتالية القصصية "مانح الأسماء"؟ هل كانت هناك قصة أو حدث معين أثار الفكرة؟

لطالما فتنتني الأسماء. ففي البرازيل، تتشكل التقاليد المحيطة بمسألة التسمية من خلال تاريخ البلاد من الاستيطان والاستعمار. وفي الجنوب والجنوب الشرقي، غالبا ما تعكس الأسماء التأثيرات الكاثوليكية وإرث العائلة المالكة التي حكمت البرازيل حتى عام 1891. على النقيض من ذلك، تظهِر مناطق الشمال والشمال الشرقي نهجا أكثر إبداعا وحرية في التسمية. لطالما أثار هذا الاختلاف الثقافي اهتمامي.

ورغم أن دراستي وحياتي المهنية أخذتاني في البداية في اتجاهات مختلفة، إلا أنني كنت أواصل البحث الشخصي في مجال أسماء البشر وأسماء الأماكن. وفي أحد الأيام، بينما أبحث عن موضوع لرواية، وقع بين يدي "كتاب اللا طمأنينة" لفرناندو بيسوا. وأثارت المفردات المغايرة في الكتاب خيالي. فتذكرت عنوان كتاب "حارس القطعان" لألبرتو كاييرو، وعلى الفور تقريبا، خطرت في ذهني عبارة "مانح الأسماء". وتأثرت بهذه الكلمات وبفكرة الرجل الذي يمنح الناس الأسماء، فكتبت المتتالية حول هذه الفكرة.

الأسماء والهوية

  • لماذا تعتقد أن الأسماء لها مثل هاتين القوة والأهمية في حياتنا؟

هذا هو سؤال الكتاب المركزي: كيف تشكل الأسماء هويتنا؟ هل نصبح أشخاصا مختلفين إذا كانت لدينا أسماء مختلفة؟ يرتبط هذا الاستفسار ارتباطا وثيقا بسؤال أساسي في فلسفة اللغة: إذا استخدمنا كلمات مختلفة، فهل ندرك الواقع بشكل مختلف؟ بالنسبة إليّ، لا يتمثل الهدف في العثور على إجابة قاطعة عن هذه الأسئلة، بل استكشافها من خلال الأدب.

لا شك أن الأسماء تشكل عنصرا أساسيا في الثقافة الإنسانية، في مختلف المجتمعات. فالكثير من النصوص المقدسة، على سبيل المثل، تبدأ بعملية التسمية ــ اختيار الأسماء أو الكشف عنها. هناك جانب آخر مثير للاهتمام يتلخص في مقاومة أسماء الأماكن للتغيير في كثير من الأحيان، حتى عندما تحاول الحكومات فرض أسماء جديدة. فهناك أماكن احتفظت بالاسم نفسه لقرون، حتى عندما ضاع معناه أو أصله مع مرور الزمن. وهذا الارتباط العميق بالأسماء أمر رائع.

الأسماء في نهاية المطاف لغة، والأدب لغة، وإذا تخيلنا أول كلمة نطق بها البشر على الإطلاق، فمن المؤكد أنها كانت اسما

وعلى هذا الأساس، قررت أن أكتب عملا لا تشكل فيه الأسماء تفاصيل هامشية، بل محورا أدبيا مركزيا. فالأسماء في نهاية المطاف لغة، والأدب لغة، وإذا تخيلنا أول كلمة نطق بها البشر على الإطلاق، فمن المؤكد أنها كانت اسما.

  •  كيف عملت على تطوير الشخصيات هذا الكتاب؟

كان هذا الجزء الأمتع. بعد دراسة الأسماء والتفكّر فيها، شعرت أنه من الطبيعي أن أترك الأفكار تتدفق. هكذا ظهرت شخصياتي. لا يستند أي من هذه القصص إلى أشخاص أعرفهم. تخيلت وجودهم، والصراعات المرتبطة بهوياتهم وأسمائهم، ثم كتبت قصصهم. أليس من دواعي الروعة أن يكون المرء مؤلفا؟ بالنسبة إلي، إنه لأمر غير عادي أن أبدع شيئا كهذا ـ أن أبث الحياة في عوالم وشخصيات متخيلة.

  •  تشكل قصة البارون وزوجته اللذين يتجادلان حول تسمية طفلهما السابع نقطة محورية في القصة. فماذا يكشف هذا الصراع عن الشخصيات وقيمها؟

هذا سؤال ممتاز، لأنه يسلط الضوء على طبقات عدة من المجتمع الأبوي. والوضع المتدني للنساء، اللواتي يُحرمن من حق اختيار اسم أطفالهن، والوضع المتميز الذي يتمتع به الرجال، الذين لا ينظرون إلى الملكية الثقافية باعتبارها شيئا مكتسبا، بل باعتبارها حقا أصيلا. ذلك أيضا، يسلط الضوء على الأهمية التي توليها الشخصيات للاسم، فهم يعتبرونه قادرا على تحديد مستقبل الطفل.

كتاب "مانح الأسماء"

ولكن يبدو أن هناك تفصيلا بالغ الأهمية أفلت من العديد من قراء الكتاب ومنتقديه. فالأحداث الموصوفة ليست حقائق موضوعية بل هي رواية من منظور الابن الضال، ابن صاحب الاسم. وهو يرويها كما رواها جده، الذي كان يكنّ استياء عميقا لأبيه. وهذا يجعل الرواية "نسخة من نسخة"، متحيزة بطبيعتها وبعيدة عن الحياد. بنيت القصة بهذه الطريقة لتعكس الطبيعة المعقدة والمراوغة للحقيقة. إن ما نصادفه، نادرا ما يكون الحقيقة الكاملة، بل كثيرا ما نرى تفسيرات متعددة الطبقات، ونسخا من النسخ، التي تتطلب تدقيقا لتقريب ما حدث حقا.

الاسم السرّي

  •  كان قرار الفتى المراهق اتخاذ لقبه كاسم أول بشكل رسمي، مثيرا للاهتمام. ما الرسالة التي أردت إيصالها من خلال رحلة هذه الشخصية؟

استوحيت هذه القصة القصيرة من رواية "المقدس والدنيوي" للكاتب مرسيا إلياد. قبل كتابة المتتالية القصصية، تعمقت في دراسة الأسماء الدينية، وينعكس جزء كبير من هذا البحث في القصة القصيرة التي ذكرتها. في بعض الثقافات، هناك مفهوم "الاسم السري"، الذي لا يُكشف عنه إلا حين يبلغ الشخص سن الرشد. هذه الفكرة تبهرني.

فكرت أيضا في الملوك الذين يتبنون أسماء جديدة عند اعتلائهم العرش، والزعماء الدينيين الذين يغيرون أسماءهم عندما يصلون إلى أعلى المناصب، وحتى قطاع الطرق الذين يتبنون "أسماء حرب". إنها مقارنة مثيرة.

مشاعري تجاه "ابتسامة الأسد" متضاربة بل إنني أحمل بعض التحيز ضده. فأنا أراه عملا أدبيا ضعيفا، ربما بسبب البساطة التي كنت أسعى إليها

في هذه القصة، يستعد الفتى المراهق لتلقي اسمه السري كطقس للانتقال إلى مرحلة البلوغ. ومع ذلك، عندما يعرف الاسم، يكرهه. بدلا من استخدام الاسم الذي اختاره له والداه عند الولادة، يريد أن يُعرف باسمه المستعار في الشارع، واسم عصابته. وفي خضم شعوره بالإحباط، يقرر البحث عن مانح الأسماء الذي يقدم له حلا غريبا، أن يستخدم الاسمين معا، لاحتضان الثنائية. غالبا ما نحصر القرارات بثنائية نعم أو لا، نكون أو لا نكون، كما تأمل الأمير هاملت في مسرحية شكسبير الشهيرة. لكنني في هذه القصة، أردت استكشاف خيار ثالث، مستوحى من هذا الخط الفكري: إمكان أن يكون الاثنان معا. تأجيل الاختيار النهائي. الوجود وعدم الوجود في آن واحد.

وتنعكس هذه النصيحة التي قدمها مانح الأسماء على هذا النحو: احتفظ بالاسمين، واحد لكل مناسبة. أليس هذا ما نفعله في المجتمع طوال الوقت؟ فنحن نرتدي أقنعة مختلفة، ونقوم بأدوار مختلفة، حسب السياق. وبالتالي، فإن القصة هي استكشاف للهوية باعتبارها أمرا معقدا متعدد الطبقات والأوجه.

مدينة ساو باولو، البرازيل

  •  كان رد فعل "المنقب عن الذهب" عندما تعرض للسخرية من اسمه مؤثرة. حدثنا عن هذه الشخصية.

هذا جانب آخر من الأسماء استكشفته في الكتاب. ففي البرازيل، من الشائع جدا أن يصبح الاسم موضوعا للنكات. ويحدث هذا غالبا بسبب أغنية شهيرة، أو شخصية في مسلسل تلفزيوني، أو حتى مزحة متكررة على الراديو. وقد يحمل الشخص اسما عاديا ثم في يوم من الأيام تصبح له دلالة مختلفة تماما، غالبا ما تكون فكاهية أو مهينة. وتحدث هذه التحولات الثقافية هنا، وهذا ما ألهمني فكرة القصة.

البطل رجل عادي يبحث عن الثروة، اسمه فيسوفيو ـ وهو الاسم الذي كان يفخر به كثيرا في الماضي، لكنه أصبح موضعا للنكات. وبعدما تعرض للسخرية والإذلال، كان عليه أن يغير اسمه إلى جونينيو، وهو تصغير لـ"جونيور" باللغة البرتغالية. جاء هذا الحل من خلال التأمل في المآسي الشكسبيرية والفلسفة النيتشوية. فقد حثّ نيتشه، مستشهدا بالشاعر اليوناني بندار، على أن "تصبح على طبيعتك". ولكن بدلا من الطموح أو العظمة، اختارت الشخصية أن تعتنق شيئا أصغر وأبسط وأكثر سهولة في التعامل. وفي هذا التواضع، وجد السعادة.

"ابتسامة الأسد"

  •  وُصفت رواية "ابتسامة الأسد" بأنها مغامرة لا تصدق وقصة ممتعة تأسر القراء من جميع الأعمار. ما الذي ألهمك لكتابة رحلة "فريدريكو فالنتي" من الخوف إلى الشجاعة؟

"ابتسامة الأسد" هي حالة مثيرة للاهتمام في رحلتي الكتابية. لسنوات، حاولت صوغ سرديات معقدة حول شخصيات ذات أبعاد مختلفة، لكنني وجدت نفسي تائها في تعقيدات الحبكة. في ذلك الوقت، كنت أفتقر إلى الخبرة والانضباط اللازمين لإدارة هذا النوع من الكتابة. لذلك، قررت اتباع نهج مختلف: كتابة قصة بسيطة ومباشرة عن الشجاعة، قصة يمكن أطفالي الاستمتاع بها في المستقبل.

الكتاب ذاتي للغاية، ويستمد الكثير منه من طفولتي، إذ نشأت محاطا بعائلتين كبيرتين نابضتين بالحياة. كنا نجتمع كثيرا، وأحببت الاستماع إلى قصصهم التي كانت دائما مليئة بالفكاهة والإنسانية والدفء. أصبحت حكايات العائلة أساس هذا الكتاب، وأعتقد أن الارتباط بالتجارب الحقيقية الصادقة هو ما يتردد صداه لدى القراء.

البرازيل، مثل كل بلد آخر، ليست جوهرا ثابتا بل متاهة من اللغات والتقاليد والتناقضات

ولكن رغم ذلك، فإن مشاعري تجاه هذا الكتاب متضاربة اليوم، بل إنني أحمل بعض التحيز ضده. فأنا أره عملا أدبيا ضعيفا، ربما بسبب البساطة التي كنت أسعى إليها ذات يوم. ومع ذلك، اكتسب الكتاب شهرة كبيرة. يقرأ على نطاق واسع ويحظى بحب الناس في البرازيل، وكثيرا ما أتلقى رسائل من القراء الذين يشاركونني مدى ما يعنيه لهم. وعلى الرغم من نجاحه، فإنني نادرا ما أروج له، لأنني أشعر أنه لم يعد يمثل الكاتب الذي أصبحت عليه. وآمل أن أعود إلى هذا الكتاب وأعيد كتابته يوما ما، وأعطيه العمق والتفاصيل التي أشعر الآن أنه يستحقها.

التراث البرازيلي

  •  كيف أثّر التراث البرازيلي في أسلوب كتابتك والقصص التي تختار أن تكتبها؟

أعتقد أن تراث البرازيل واسع وموجود في كل مكان الى درجة أنني غالبا ما أفشل في ملاحظته. ومع ذلك، هو يتخلل كل شيء. إنه موجود في اللغة، في الطريقة التي نسكن بها ونعبر عن أنفسنا من خلالها. إنه موجود في الكُتّاب الذين شكلتني أعمالهم، والقصص التي نشأت وأنا أسمعها، والأشخاص الذين قابلتهم، والأماكن التي عرفتها. إنه متضمّن في نسيج تواصلنا.

شارع باوليستا خلال فرز الأصوات في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في ساو باولو، البرازيل

كوني كاتبا لا ينفصل عن كوني برازيليا. وفي الوقت نفسه، تُعد الجنسية من الخيالات العديدة التي نبنيها عن أنفسنا. البرازيل، مثل كل بلد آخر، ليست جوهرا ثابتا بل متاهة من اللغات والتقاليد والتناقضات. ربما لم يكن ما ورثته أسلوبا محددا، بل كان ميلا نحو الزمن الباروكي ـ تقدير البهجة والتعقيد الكامن في البساطة. وفي كتاباتي، كثيرا ما تطفو على السطح نزعة موسيقية معينة، ربما انعكاسا لإيقاعات اللغة البرتغالية البرازيلية، وهي لغة تتلذذ بالصوت والشعر.

  •  كيف تنظر إلى مكانة الأدب البرازيلي في المشهد الأدبي العالمي اليوم؟

أحمل وجهة نظر متفائلة وعاطفية في شأن هذا الموضوع. فعندما كنت أصغر سنا، كنت أرى أن نشر أعمال المؤلفين البرازيليين في الخارج يمثل ذروة المسيرة الأدبية ـ ذروة حاسمة. ولكن الآن، ومع حضوري المعارض الدولية للكتب، ألاحظ اهتماما متزايدا وحقيقيا بالأدب البرازيلي وبالقصص التي يتعين علينا أن نرويها. وأعتقد أن هذا الاهتمام ليس حقيقيا فحسب، بل إنه يحمل إمكان التوسع.

ولكن هل بدأ القراء يشعرون بالملل من تكرار الموضوعات التي تهيمن على الأدب في أميركا الشمالية؟ الحبكات المتوقعة نفسها، والأساليب نفسها ـ يبدو أن الإبداع بلغ مداه في غالبية ما يُنتج في الولايات المتحدة وأوروبا. وأنا شخصيا أجد نفسي منهكا بسبب رتابة كل هذا. وهذا ما يجعلني متحمسا للغاية للأدب القادم من بلدان الجنوب. وهي مسألة وقت قبل أن يدرك العالم تماما ثراء أصواتنا وأصالتها. فالتعقيدات والتناقضات في عصرنا ــ علاقتنا بالبيئة، والتوترات بين الحرية والأخلاق، كلها متأصلة بعمق في النسيج الثقافي والاجتماعي للبرازيل. هذه هي قصصنا التي يجب أن نرويها، والأمر متروك لنا لكتابتها، سواء كان العالم مستعدا أم لا.

تأثيرات

  •  من هم الكتاب الذين تأثرت بهم، وكيف أثروا في كتاباتك؟

الأدب اللاتيني يشكل جوهر رحلتي الأدبية. ورغم انغماسي في الأدب الأوروبي والعربي، فإن أصوات المؤلفين الذين يتقاسمون معي هذه الزاوية الفريدة من العالم هي التي تقيم في وجداني على نحو أعمق. فهناك صفة لا توصف تخصنا ــ ذاكرة جمعية وهوية تشكلت من خلال تاريخ من الاختراع والتدمير والاستعمار والاسترداد. وهذه التجربة المشتركة تغرس في أدبنا عمقا لا يستطيع أن يدركه إلا أولئك الذين يسكنون هذه المساحة.

أعتقد في كثير من الأحيان أن الأدب فقد شيئا حيويا عندما توقف الكتاب عن استخدام الآلات الكاتبة

ولنأخذ الواقعية السحرية على سبيل المثل: فمهما تعمق الأكاديميون الأجانب في تحليلها، فإن جوهرها مرتبط ارتباطا وثيقا بواقعنا. ولهذا السبب أشعر بالرغبة في استحضار أسماء ماريو فارغاس يوسا، وغبريال غارثيا ماركيز، وماتشادو دي أسيس، وكلاريس ليسبكتور، وجيماريش روزا.

يحتل جيماريش روزا، على وجه الخصوص، مكانة فريدة عندي. فعمله يتحدى الترجمة، لأن الفروق الدقيقة والابتكارات اللغوية التي حققها باللغة البرتغالية لا تنفصل عن اللغة نفسها. وكثيرا ما أشعر بالشفقة على أولئك الذين لا يستطيعون قراءة أعماله في شكلها الأصلي، لأننا نحن فقط، الناطقين باللغة البرتغالية، نستطيع أن نقدر تماما عظمة عبقريته الأدبية.

كيف يؤثر هؤلاء الكتاب في مهنتي؟ إنهم أرواحي المرشدة، أو "أمواتي"، كما أسميهم في كثير من الأحيان. عندما أكتب وأشكل الكلمات، وأستكشف الموضوعات، وأرسم مسارات شخصياتي، فأنا في حوار دائم معهم. أقف بين هؤلاء العمالقة، وأستمع إلى أفكارهم، وأستوعب حكمتهم. وكما قال نيوتن ذات يوم: "إذا كنت رأيت أبعد من ذلك، فمن خلال الوقوف على أكتاف العمالقة". هؤلاء العمالقة الأدبيةن هم عمالقتي، وإرثهم يشكل كل كلمة أكتبها.

صورة للكاتب الكولومبي الحائز جائزة نوبل للأدب غبريال غارثيا ماركيز

الأدب والسياسة

  •  كيف ترى العلاقة بين الأدب والقضايا الاجتماعية والسياسية؟

يعتقد البعض أن السياسة والقضايا الاجتماعية يمكن أن تكون بمثابة خلفية أو خيط خفي في العمل الأدبي، ولكن عندما تهيمن على السرد، فإن العمل يخاطر بفقدان نقائه الفني ويصبح بمثابة كتيب، قطعة أدبية من الدرجة الثانية - تذكرنا بالنوع الذي يُنتج غالبا حول القمع السياسي، حيث تطغى الرسالة على الفن.

في نظري، ينشأ الأدب العظيم عندما يكون المؤلف منسجما تماما مع دوره في العالم ــ يعيش ويراقب ويفهم مكانه فيه ــ ومع ذلك يختار استكشاف المناطق الرمادية، والدروب غير المطروقة، والأزقة الخفية التي لا يجرؤ على المغامرة بها إلا قلة من الناس. وفي هذه المساحات التي نتجاهلها تكمن أعمق القصص.

بصفتي كاتبا، لا أشعر بمسؤولية تناول القضايا الاجتماعية بشكل مباشر. لكنها مسؤولياتي كمواطن. أما واجبي ككاتب فمختلف: أن أنظر إلى حيث لا ينظر الآخرون، وأن أوجه نظري نحو ما لا يُلاحظ، والساكن، والذي يبدو تافها. يتعلق الأمر بالتفكير في النمل وأنفاقه السرية في الوقت الذي يركز فيه العالم انتباهه على انفجارات القنابل الكبيرة. وهنا أجد جوهر العمل الأدبي، الكشف عن الخفي وسط الضوضاء.

رحلة الكتابة

  •  حدثنا عن رحلة كتابة نص جديد؟

لكي أكتب، أبعد نفسي عن أجهزة الكومبيوتر والأجهزة الإلكترونية. أستخدم قلم رصاص في الكتابة، وأستخدم الحائط كلوحة فنية. وقد تسبّبت هذه العادة بالكثير من المشاكل في المنزل، ولكن الجميع اعتادوا عليها. فأنا أستمتع بتشكيل كل كلمة حرفا حرفا، كأنني أرسم. وأصبحت جدران مكتبي هي مسقط رأس قصصي. بمجرد أن أضع الكلمات على الحائط، أقرأ كل شيء بصوت عالٍ وأسجله. ثم أجلس لأطبع النص. ثم تصبح العملية عبارة عن دورة من الكتابة وإعادة الكتابة.

أصبح الناس قادرين على التواصل مع أفراد متشابهين دون جهد تقريبا، وقد أدى هذا إلى تضخيم خصائصنا الفردية بطرق لم نكن نتخيلها

أعتقد في كثير من الأحيان أن الأدب فقد شيئا حيويا عندما توقف الكتاب عن استخدام الآلات الكاتبة. في ذلك الوقت، كانت إعادة كتابة المخطوطة مرات عدة ضرورة، ومع كل تكرار، يصبح النص أثرى وأدقّ. ربما لذلك أحاول تكرار هذه العملية من خلال إعادة كتابة عملي، مما يسمح للقصة بالتطور في كل مرة.

  •  ماذا عن كتابك المقبل؟

أنهي حاليا كتابا يستكشف ظاهرة المجموعات - مثل تلك التي نراها على الشبكات الاجتماعية والتطبيقات. في الماضي، وأعني بذلك عصر ما قبل الهواتف الذكية، لنقل في تسعينات القرن العشرين، كان من الصعب للغاية على الناس العثور على أشخاص آخرين يتشاركون اهتماماتهم أو هوياتهم المتخصصة. إذا كان شخص ما يستمتع بالأفلام الصامتة، أو يحب لعب الداما، فقد لا يجد أفرادا متشابهين في التفكير إلا بعد بحث طويل، وعادة ما يكون ذلك فقط في المدن الكبرى.

تغير كل هذا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فجأة، أصبح الناس قادرين على التواصل مع أفراد متشابهين دون جهد تقريبا، وقد أدى هذا إلى تضخيم خصائصنا الفردية بطرق لم نكن نتخيلها. إنه أمر مدهش، هناك مجموعات لعشاق الألعاب القديمة، وحتى الأشخاص الذين لديهم عادات غير عادية مثل أكل الشعر. يمكنك العثور على مجموعة لأي شيء تقريبا.

ولكن هذه المجموعات نفسها تكمن أيضا في قلب ظواهر اجتماعية وسياسية مهمة. فقد غذت الحركات السياسية والاحتجاجات، مثل التظاهرات الضخمة التي شهدناها في البرازيل في عام 2013. كما ساهمت في صعود الأيديولوجيات السياسية المتطرفة، بما في ذلك عودة النازية الجديدة. لقد أعادت القدرة على التجمع والحشد حول المعتقدات المشتركة، بغض النظر عن مدى تخصصها أو تطرفها، لتشكيل عالمنا.

يحمل الكتاب عنوان "بيت المجانين"، ومن المقرر أن يُنشر في البرازيل قريبا جدا، ومتفائل بإصدار طبعة عربية منه في المستقبل القريب.

font change