ثلاثية ليلى سليماني "بلد الآخرين": بورتريه عائلة ووطن

صراع ثلاثة أجيال بين المستعمِر والمستعمَر

VALERIE MACON / AFP
VALERIE MACON / AFP
الكاتبة الفرنسية المغربية ليلى سليماني

ثلاثية ليلى سليماني "بلد الآخرين": بورتريه عائلة ووطن

"يمكن سرد كل حقبة تاريخية بطرق مختلفة وفقا إلى الموقع الذي ينوجد السارد فيه، إلى ظروف حياته، وإلى هويته الجنسية"، صرحت الكاتبة المغربية الفرنكوفونية ليلى سليماني في مجلة فرنسية. تصريح يتجلى صوابه بقوة في ثلاثيتها الروائية "بلد الآخرين" التي صدر حديثا الجزء الأخير منها، "سأحمل النار معي"، عن دار "غاليمار" الباريسية، ولجأت هذه الروائية المتوجة بجائزة "غونكور" (2016) فيه إلى مهاراتها السردية والكتابية العالية، وإلى نفس ملحمي مدهش، لمتابعة خط قصة عائلتها، على خلفية الأحداث التي عصفت بوطنها خلال تاريخه الحديث. وهي مناسبة نغتنمها للتوقف عند هذا العمل الأدبي الضخم الذي تطلب خمس سنوات من صاحبته لإنجازه، وحصد الجزء الأول والثاني منه نجاحا نادرا، في ضوء المقالات المدحية الغزيرة التي حظيا بها، وعدد النسخ التي بيعت منهما (أكثر من مليون).

الاستعمار وما بعده

مصدر الإلهام الأول لهذه الجدارية العائلية ــ التاريخية هو قصة جدَّي سليماني اللذين لطالما نظرت إليهما كشخصيتين روائيتين. ولذلك تنطلق أحداثها في عام 1944، وهو العام الذي يلتقي فيه بطلا الجزء الأول منها ("الحرب، الحرب، الحرب"، 2020)، الشابة الفرنسية ماتيلد والجندي المغربي في الجيش الفرنسي أمين بلحاج. لقاء يفضي فورا إلى حب متبادل، ويدفع ماتيلد إلى اللحاق بحبيبها إلى مدينة مكناس المغربية والاقتران به.

في هذه المدينة، يسعى أمين بكل الوسائل لإعادة تأهيل الأراضي القاحلة التي ورثها عن والده، بينما تكافح ماتيلد، في موازاة تربية طفليهما، لكسر العزلة الملازمة للحياة في مزرعة نائية، ولتبديد الريبة التي تثيرها كامرأة أجنبية داخل بيئة مغربية قروية وأمّية. زوجان، بخروجهما عن المألوف في مغرب الأربعينات والخمسينات، وبكدّهما لتحقيق تطلعاتهما، على الرغم من التحديات المادية والاجتماعية التي يواجهانها، يوفران لسليماني كل ما يلزم لتصوير تلك الحقبة التي شهد المغرب فيها توترات وفتنا جمة، قبل انتزاع استقلاله من سلطة الاستعمار عام 1956.

مصدر الإلهام الأول لهذه الجدارية العائلية ــ التاريخية هو قصة جدَّي سليماني اللذين لطالما نظرت إليهما كشخصيتين روائيتين

الجزء الثاني من الثلاثية، "شاهدونا نرقص" (2022)، ينقلنا إلى حقبة الستينات، المعروقة بـ"سنوات الرصاص"، ويمتد بأحداثه إلى منتصف السبعينات. جزء نرى فيه أمين وقد نجح في تحويل أراضيه القاحلة إلى مزرعة فالحة ومزدهرة، مما مكنه من الاندماج مع ماتيلد في الطبقة البورجوازية المغربية الجديدة، ومن العيش داخل مجتمع احتفالي ومتفائل بالمستقبل. نرى أيضا الصعوبات التي واجهت المغرب المستقل من أجل تأسيس هويته الجديدة، وفي مقدمها تمزّقه بين تقاليد بالية والإغراءات الوهمية للحداثة الغربية، بين هوس بالمظاهر ومعاناة من واقع مؤلم، وبين متعوية مفرطة وقمع النظام.

غلاف رواية "شاهدونا نرقص"

حقبة مضطربة إذن سيتعين على جيل جديد من عائلة بلحاج أن يتخذ خيارات فيها، لا سيما عائشة وسليم، طفلا أمين وماتيلد، وأيضا سلمى، شقيقة أمين الصغرى، والفاتنة بقدر ما هي متحرّرة، ومهدي، زوج عائشة. حقبة يبدو المغرب فيها على حاله السابقة، على الرغم من مرور أكثر من عقد على استقلاله، لأن الرفاهية تبقى من نصيب الحلقة المقربة من النظام، بينما يعيش عدد كبير من السكان تحت خط البؤس. ومع ذلك، تكسب رياح الحرية زخما بفضل أشخاص يهجسون بموضوع هويتهم وبحقوقهم الفردية وبخصوصيات بلدهم، من بينهم نساء في بداية طريقهن إلى التحرر (سلمى وعائشة)، شبان متعلمون وطموحون (مهدي)، وهيبيون يرفضون الوضع القائم ويتجمعون في مدينة الصويرة (سليم) للعيش وفقا إلى أحلامهم ورغباتهم.

غلاف رواية "بلد الآخرين"

قصة الجيل الثالث

في الجزء الأخير من "بلد الآخرين"، وفي موازاة متابعتها سرد قصة شخصيات الجزءين السابقين، تروي سليماني قصة الجيل الثالث من عائلة بلحاج، ميا وإيناس اللتين ولدتا في الثمانينات، ومثل جدتهما ماتيلد، وأمهما عائشة، وشقيقة جدهما، سلمى، ستطمحان إلى انتزاع حريتهما، كل واحدة على طريقتها. ولإنجاز ذلك، سيتعين على كل منهما احتلال موقع لها داخل عائلتها ومجتمعها، تعلّم قوانين هذا المجتمع ومواجهة التمييز الجنسي والأحكام المسبقة السائدة فيه، قبل اتخاذ قرار مغادرته.

هكذا نتتبع فصول حياة ميا خلال سنوات طفولتها ومراهقتها، التي وقّعتها تساؤلات وتناقضات كثيرة، وتحكمت بها رغبة شديدة في نيل رضا وإعجاب والدها مهدي، الذي هو من أشعل داخلها حب القراءة والكتب، وفي أن تكون بالتالي الابن الذي لم يتمكن من إنجابه. رغبة تدفع هذه الفتاة إلى تبنّي مظهر وسلوك ذكوريين، لكنها لا تفسر وحدها الميول الجنسية التي تستيقظ داخلها في سن المراهقة وتجلب لها المتاعب في مدرستها، قبل أن تدفعها إلى الفرار إلى باريس، حيث تنتهي أيضا أختها الصغرى إيناس، لكن لأسباب مختلفة.

تكسب رياح الحرية زخما بفضل أشخاص يهجسون بموضوع هويتهم وبحقوقهم الفردية وبخصوصيات بلدهم

ولأن أحداث هذا الجزء تمتد من السبعينات إلى التسعينات، نتعرف أيضا إلى المغرب خلال تلك الفترة، الذي كانت شوارعه مكتظة بمتسولين من مختلف الأعمار، وأيضا بمخبري الشرطة، وكان يمكن أي مواطن، في أي لحظة، أن يتوارى بمجرد تجاوزه واحدا من الخطوط الحمر الثلاثة: الدين، الملك وقضية الصحراء الغربية. ولذلك، تسعى عائشة إلى أن تغرس داخل ابنتيها النفور من المجازفة: "كانت تريد أطفالا جبناء لا يتجرأون على التعبير علنا عن سخطهم"، تكتب سليماني في سياق خطّها بورتريها مؤثّرا لهذه المرأة التي تتفانى في عملها كطبيبة أمراض نسائية، وتطبب مجانا الشابات والنساء اللواتي يتخبطن في العوز أو يمارسن مهنة الدعارة. امرأة تختلف، بالخوف المسلط عليها، عن عمتها سلمى الجريئة والمستعدة لأي شيء كي تمارس حريتها، لكنها تتقاسم هذا الخوف مع زوجها مهدي الذي، بعد تخرّجه على رأس دفعته في مفتشية المالية، وشغله أرفع الوظائف الرسمية في بلده، ينطوي على نفسه، إثر اتهامه جورا بالفساد، ويجد في الكحول وسيلة لمواساة نفسه، بعد فشل محاولاته الحثيثة لإعادة إحياء شغفه بالأدب والفن.

Ludovic MARIN / AFP
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتحدث مع الكاتبة ليلى سليماني، خلال اجتماع مع سفراء الدول الفرنكوفونية على هامش القمة الـ18 للفرنكوفونية في جربة

جرعات سياسية

وهذا ما يقودنا إلى ميزة خاصة لهذا الجزء داخل ثلاثية سليماني، ونقصد الجانب السياسي الذي يبدو أكثر حدة فيه مما هو عليه في الجزءين السابقين. ولا عجب في ذلك، في ضوء المشاكل والعلل الكثيرة التي كان المغرب يعاني منها خلال الحقبة المقارَبة، وفي مقدمها الجانب القمعي للنظام، اتساع الهوة بين الأغنياء الجدد، المستفيدين من "سخاء" النظام، والفقراء الذين كانوا يشكلون غالبية السكان، وارتفاع نسبة الأمية إلى "ثمانين في المئة"، وفقا إلى الكاتبة التي تذكّر في هذا السياق بأن عبارة "مدن الصفيح" (bidonville) ابتُكرت في الدار البيضاء، وبأن "عربات تجرها حمير كانت (لا تزال) تتسكع بين مبانيها الفاخرة، بينما تتعرض للطعن على الكورنيش فتيات تلتهب عيونهن بحشيشة الكيف". مدينة "لم تكن المباني فيها عالية بما يكفي، ولا بيضاء بما يكفي، ولا حديثة بما يكفي، لإخفاء البؤس".

Ludovic MARIN / AFP
الكاتبة الفرنسية المغربية ليلى سليماني

بورتريه معتم إذن ذلك الذي تخطه سليماني لوطنها، لكنها لا تكتفي به، بل تغتنم فرصة استقرار بطلتها ميا في العاصمة الفرنسية لخط بورتريه آخر ترصده لهذه المدينة، ولا يقل عتمة من الأول. بورتريه لا يتغنى إطلاقا بجمال باريس ودورها الثقافي التاريخي الرائد، اللذين لا شك فيهما، بل يعري ببصيرة قارصة رمادية الحياة فيها، برد شتائها الطويل، الذي لا تنافسه سوى برودة أبنائها، وبالتالي العزلة التي تنتظر من يأتي للإقامة في هذه المدينة "غير المضيافة"، ومعها "ضرورة التحلل والإمحاء وإلغاء الماضي، للاندماج" في مجتمعها.

الإنجاز الأبرز لسليماني في هذا الجزء من ثلاثيتها، كما في الجزءين السابقين، يبقى طريقتها الناجعة، الآسرة، في شبك أقدار فردية بمصير وطن

لذلك، على الرغم من نصيحة مهدي لابنته ميا، قبل رحيلها: "اذهبي ولا تعودي، قصص الجذور هذه ليست سوى وسيلة لتسمرك في الأرض"، يشتعل حنين هذه الفتاة إلى وطنها بمجرد استقرارها في باريس: "في تلك المساءات، كانت تفكر في ضوء مدينة الرباط، في النهارات الشتائية الباردة التي تبقى السماء فيها زرقاء صافية، وفي الربيع الذي كان يعود بسرعة كبيرة ويجعل نبات العارشة يزهر على جدران الحديقة. في ذلك الشتاء، أدركت للمرة الأولى مدى تعلقها بقدرة أبناء وطنها على الضحك على كل شيء، وبتلك الطريقة التي توحد الفكاهة بها الناس".

غلاف رواية "سأحمل النار معي"

أقدار فردية

لكن الإنجاز الأبرز لسليماني في هذا الجزء من ثلاثيتها، كما في الجزءين السابقين، يبقى طريقتها الناجعة، الآسرة، في شبك أقدار فردية بمصير وطن، ومن خلال ذلك، تسليط ضوء كاشف على التوترات والتناقضات، الظاهرة والخفية، التي تحكمت بهذه الأقدار وقولبتها. ولتحقيق ذلك، لجأت إلى شخصيات واقعية مختلفة لم تكتف برسمها، أو إعادة رسمها، بدقة مرهفة ودرجة عالية من التعقيد، بل جعلتها تتطور تحت أنظارنا على مدى زمني طويل، وتتحول بفعل ذلك إلى مرآة مثالية تعكس سيرورة تطور المجتمع المغربي في العصر الحديث، ودورة الحياة البشرية عموما، على حد السواء.

أما لماذا عنوان "بلد الآخرين" لهذه الثلاثية، الذي يشكل في الواقع الخيط الخفي الذي يربط بين أجزائها الثلاثة، فلأن جميع شخصياتها تبدو غريبة عن البلد الذي تعيش فيه، سواء كانت فرنسية استقرت في المغرب أثناء فترة الاستعمار، أو مغربية كانت محرومة آنذاك من حقوقها (الجزء الأول)، ثم بقيت على حرمانها بعد الاستقلال لعدم انتمائها إلى حاشية النظام الحاكم، أو باتت غريبة، أجنبية، بسبب تبنيها الثقافة واللغة الفرنسيتين، وإهمالها أصولها (الجزء الثاني)، أو لأنها قررت الرحيل للاستقرار في فرنسا، فاختبرت بحكم قرارها الحياة في بلد الآخرين (الجزء الثالث). عنوان ينطبق بشكل خاص على الشخصيات النسائية لهذه الثلاثية، نظرا إلى عيشها في بلد يهيمن الرجال عليه، واضطرارها بالتالي إلى المكافحة بلا كلل للتحرر من الذكورية المستفحلة فيه، وانتزاع حقوقها.

font change

مقالات ذات صلة