الأردن ومواجهة الإعصار القادم

وضع ترمب وصفة حرب مجنونة وشرسة للمنطقة

الأردن ومواجهة الإعصار القادم

(مشهد)

الأربعاء الخامس من فبراير/شباط، وفي بلاط الملك الأردني، عبدالله الثاني في قصر الحسينية بالعاصمة الأردنية عمّان، وبعد منتصف النهار بقليل، يجتمع الملك بحضور ولي عهده الأمير حسين، مع رؤساء اللجان في مجلس الأعيان الأردني، وفي الحديث الذي تناول مختلف القضايا المقلقة للأردن، نوه الملك لأعيانه الحاضرين، أنه سيغادر الجلسة لفترة بسيطة في الساعة الثانية ظهرا، وذلك لأنه سيكون هناك اتصال محدد مسبقا مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

قبل الثانية بدقائق، يدخل رئيس التشريفات إلى القاعة، ويقوم الملك من مكانه مخاطبا أعيانه أنه سيتركهم الآن قائلا: "بترككم مع حسين" مشيرا إلى ولي عهده الشاب.

بعد غياب قصير يعود الملك إلى القاعة، وقبل أن يجلس على مقعده من جديد، يخاطب الحاضرين وابتسامة عريضة تملأ وجهه بقوله: كل الدعم.

صفق الجميع ليكمل الملك حديثه، وقد انقشع كثير من القلق في الأجواء، وكانت مكالمة ولي العهد السعودي مع الملك الأردني سببا وجيها ليخبرني شهود ممن حضروا اللقاء أن الملك كان في قمة ارتياحه بعدها.

هذه المكالمة كما هذا اللقاء "المغلق" بين الملك وأعيانه، كلها جاءت في سياق تحضيرات الملك الأردني لزيارته المجدولة في الحادي عشر من الشهر الجاري إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب وإدارته، والتي- حسب البرنامج الرسمي- ستسبقها زيارة ملكية إلى لندن، حيث وصلها الملك مساء الخميس.

في جلسة الملك المغلقة مع أعيانه، والتي تسربت بعض تفاصيلها موثوقة إلينا، فقد انتهت بخروج الملك والحاضرين منها بانطباع قوي، أن الموقف المصري كذلك صلب جدا "وبظهرنا" كما عبر مصدر من الحاضرين، مضيفا أن الصلابة المطلوبة أيضا موجودة في الموقف الخليجي عموما، ناهيك عن ارتياح عبر عنه الملك عبدالله الثاني بإيجاز مكثف عن زيارته للاتحاد الأوروبي، وحجم الدعم الذي فاق بكثير توقعاته وحساباته.

هذا الدعم السياسي (بكل زخمه في التفاصيل التي لم يكشف عنها) هو كل ما يحتاجه الأردن في مواجهة قمة واشنطنية صعبة قادمة، الاحتمالات فيها متعددة وكثيرة، أقل ما فيها يمكن وصفه بلي الذراع العربي من خلال ما طرحه الرئيس الأميركي ترمب، من طروحات أثارت جدلا ودهشة حتى في الداخل الأميركي ذاته، وجميعها يتعلق بسياسة تهجير معلنة وغير مسبوقة، طرحها ترمب في لقائه الأخير مع بنيامين نتنياهو، وتدحرجت تصريحاته ككرة ثلج كبيرة عملت على تعظيم قلق ومخاوف الأردن والأردنيين، من عملية تهجير ضخمة ليس في غزة وحدها، بل قد تكون سياسة مماثلة في تفريغ الضفة الغربية إلى شرق النهر نحو الأردن، كما يعلن وزراء اليمين المتطرف في حكومة بنيامين نتنياهو ذاتهم منذ زمن طويل.

جاء رد الرياض، ببيان صادر فجرا، بلا تردد وسريع المفعول بأن السعودية ثابتة على موقفها بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وهو ما أبطل مفعول القنبلة الصوتية التي أراد لها ترمب أن تنفجر في وجه الإقليم

مقترح الرئيس ترمب في أن تتولى الولايات المتحدة زمام الأمور في قطاع غزة، بهدف إعادة إعمارها، كما صرح حاكم البيت الأبيض، فاجأ العالم كما فاجأ مسؤولين في فريق البيت الأبيض ذاته، ومؤسسات الحكم في واشنطن، وقد أعلن ترمب سياسته، وهو يقرأها من ورقة كإعلان معد مسبقا خلال مؤتمر صحافي مشترك مع بنيامين نتنياهو، وقد ذكرت مصادر من واشنطن أن الفكرة المعلنة لم يتم طرحها للنقاش أو التداول المسبق بين مؤسسات ووكالات الإدارة الأميركية بالمطلق، ولم يتم الإعداد لإعلانها حسب الأصول المتبعة مما خلق دهشة مضاعفة عن منهجية غير مسبوقة وصادمة في عملية صنع السياسة الخارجية الأميركية.
وبتصورات "حالمة وواهمة" يغرد ترمب بعد ذلك مشددا على فكرته بأن إسرائيل ستسلم القطاع إلى الولايات المتحدة بعد انتهاء القتال، وهي فرضية "ساذجة" يغيب عنها أن القتال سيتجدد وبشكل أكثر تمددا واتساعا بسبب طرح ترمب ذاته، ثم يضيف الرئيس "المدهش كعادته" تصورا لمصير الفلسطينيين، وقد أعطى نفسه حق تقرير هذا المصير من طرفه بقوله: "إنه سيعاد توطينهم في مجتمعات أكثر أمنا وجمالا" (هكذا ببساطة!) ويبني الرجل تصوراته التي تشبه مشاهد من أفلام الاستيطان المبكر في الغرب الأميركي، ليؤكد أنه لن تكون هناك حاجة إلى جنود أميركيين، مقتنعا أن الاستقرار سيسود المنطقة.
وبلغة رجل الصفقات والأعمال، يرى ترمب الشرق الأوسط فرصة تطوير عقارية لا أكثر بتصريحه في نهاية تغريدته أن واشنطن "المنقسمة أصلا حول تصريحاته بكل مؤسساتها" ستبدأ بالتعاون مع فرق التنمية (دون تحديد هوية تلك الفرق) لبناء ما يعتقد أنه سيكون واحدا من أعظم وأروع مشاريع التنمية على وجه الأرض، حسب وصفه.
فعليا، فإن الرئيس ترمب وضع وصفة حرب مجنونة وشرسة للمنطقة، والسلام الذي يتوهم أنه سيصنعه لينال ما يراه استحقاقا بجائزة نوبل، لن يأخذ من نوبل إلا فكرة الديناميت الذي يملأ فكرته الصادمة.
مسبقا، وبالطريقة المتهورة ذاتها في التصريحات، كان ترمب قد أشار للسعودية بما لم تقله أو تصرح به، ليكون رد الرياض ببيان صادر فجرا بلا تردد وسريع المفعول بأن السعودية ثابتة على موقفها بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وهو ما أبطل مفعول القنبلة الصوتية التي أراد لها ترمب أن تنفجر في وجه الإقليم.
الرياض، التي استطاعت أن تصبح وبامتياز، مركز الثقل الإقليمي، وضعت كل ثقلها الوازن والمؤثر وبهدوء في مواجهة سياسات عاصفة تستهدف الإقليم، يثيرها ترمب منحازا لحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، وها هي تضع ظلال حضورها كجدار إسناد للموقف الأردني في زيارة الملك القادمة إلى واشنطن، وتعيد ترتيب الأوراق المبعثرة في المنطقة ضمن منظومة موقف سياسي معتدل وموحد.

مفاجآت ترمب "المدهشة" حركت الراكد بلا شك في الوضع الراهن، لكنها حركته نحو موقف عربي يحاول التماسك ضمن منظومة تكاملية في قادم الأيام

بلا شك، سيبقى القلق حاضرا أمام مفاجآت "الحاكم بأمره" في واشنطن (وترمب يطرح ذاته هذه المرة زعيما دينيا في بلاده). لكن القلق منسوبه يقل بوجود مواقف عربية وإقليمية وازنة تجعل من السهل الاعتراض، بل ووضع أوراق جديدة على طاولة ترمب وفريقه، مع رهان قوي على اعتراضات الداخل الأميركي لمنهجية ترمب في قلب طاولة السياسات الأميركية، بما يشبه انقلابا على الثوابت الأميركية في عملية صناعة القرار.
وبلا شك أيضا سيقوم الملك عبدالله الثاني بتفعيل الحد الأقصى من علاقاته المتشابكة والمتمددة في الداخل السياسي الأميركي، وهي علاقات طالما كانت تستمع وتصغي إلى عمّان، مؤمنة بعقلانية الموقف الأردني واعتداله، كما كشفت مصادر قريبة من الملك في العاصمة الأردنية.
ملخص القول، إن مفاجآت ترمب "المدهشة" حركت الراكد بلا شك في الوضع الراهن، لكنها حركته نحو موقف عربي يحاول التماسك ضمن منظومة تكاملية في قادم الأيام، لمنطقة أنهكتها الحروب وأنصاف الحلول، للبحث عن تسويات حقيقية هذه المرة، تواجه التطرف وعنوانها الأساسي حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وحق الدول في ترتيب منظومتها الإقليمية مرة واحدة وإلى الأبد.

font change