ليس من السهل كتابة رواية تخترق مذهبا أو دينا للتعبير عن آفاق الحياة وجوانبها، وعن طبقات تكونت وفق حسابات منظمة ورؤى شبه مغلقة على نفسها قرونا طويلة... قد فعلها يوما الروائي والفيلسوف اليوناني نيكوس كازانتازاكيس في روايته "الإغواء الأخير للمسيح"، نتيجته أن حطم اليونانيون دور السينما بعد أن تحولت الرواية إلى فيلم، وكما كتب الفيلسوف الألماني نيتشه، ونقده لشخصية مقدسة، نتيجته أن حبسته عائلته في بيته في نهاية عمره، والأقدم منهما الفيلسوف سبينوزا الذي تم إخراجه من رحمة السلطة الدينية بعد كتبه المثيرة للجدل..
وللشاعرة اللبنانية حنين الصايغ تجربة أولى في عالم الرواية، مطبوعة في "دار الآداب" ببيروت، بعنوان "ميثاق النساء"، تدور حول العقيدة، عقيدتها، من منظور خاص، ومنذ الفصل الأول الذي أسمته "الجدار"، ليأتي السرد مرتكزا على الخوف، خوف متعدد الوجوه، خوف ينمو مع الفهم، ويتشكل رويدا رويدا في باطنه من خلال شخصية أختها ووالدتها وقبلهم جدتها... خوفٌ معلق على الأمان نفسه، يصارع الداخل، والداخل يصارع نفسه. وصفته المؤلفة عبر الأحداث الشيقة، بأنه صراع أشبه بفراشة تخرج من الشرنقة ببطء، فلا فائدة من مساعدة خارجية فهو ليس سجنا بل معركة مؤجلة، وهكذا هم الشعراء أنيقون في مدادهم وهم يُعبرون عن فكرهم، تجذبهم الأفكار الإنسانية النبيلة، والحب بأشكاله ومضامينه العليا.
وعلى مستوى "ميثاق النساء"، فمن خلال النساء والآباء، تتقدم الفصول حتى يأتي فصل السلسلة لهذه العقيدة الصامدة بقوانينها شبه السرية، منذ ألف عام، لتسردها بلغة واضحة تحمل الحكمة والتأني تارة، وبلغة شعرية مجازية في المواقف العاطفية المؤلمة تارة أخرى، إلى منتصف الرواية تأتي الكآبة التي تتوحش في فكرها ويعدي قلبها وكأن ما تعانيه هو مرض روحي، من حرب تتجدد في داخلها، وهي تشحذ ذخيرتها باستمرار من القراءة، تحسبا لحرب أخرى في أوصالها كلما قرأت عن الوجود والكون والذات.. فالعقيدة تتدخل في وعيها كل حين، وسرد يحمل جوانح الإحساس بلغة منصتة للعالم الداخلي المشبع بالجرح والحلم، فكان السؤال حاضرا طوال الرواية، سؤال اللاسؤال أمام صوتها الداخلي الذي يتوسل للحياة، وسؤال حول صوت الآخر الذي يمنعها بكل الأساليب مع الصدى، ولكي تهدئ من روعها، تذهب إلى سؤال كارل كانغ صاحب نظريات الأوهام والخيالات:
البحث عن الأنا العليا، أو الله، قد يؤذينا إن لم نكن مستعدين.
تكتب الصايغ الرواية بأسلوب ضمير المتكلم، وكأنها سيرة ذاتية أو مذكرات، حتى تتساءل أنت كقارئ، هل هي رواية السيرة الذاتية؟
وفي هذا الإطار، تكتب الصايغ الرواية بأسلوب ضمير المتكلم، وكأنها سيرة ذاتية أو مذكرات، حتى تتساءل أنت كقارئ، هل هي رواية السيرة الذاتية؟ إن كان الجواب نعم، فالذي يميز الرواية الأدبية عن رواية السيرة الذاتية، هو الاختلاف في الهوية بين المؤلف والراوي؟ أما إن كانت الرواية تتقمص فيها الخيال عبر الآخرين، فهذا يكمن في ذكاء السرد، بحيث إنها تسرد نفسها والشريك والابنة والأسرة من خلال الآخرين، مع بقاء العقيدة حاضرة بأسرارها التي تتقدم، وهي تسترد أنفاسها في لغة تتأسس بالخوف من علائقها بالوجود والحب والإنجاب والارتباط والتعليم والعمل... وتطرح أسئلة عميقة في الحب والحياة والاختيار، وبالتالي الحرية التي لا تتجزأ، وتجعلنا ننتبه لصورة المرأة في الأديان وبشكل عام، وفي مجتمعاتنا الذكورية التي يشكل فيها الرجال النخبة الثقافية والسياسية والاقتصادية... لتحلل المؤلفة تحليلاتها المذهلة، كما في قولها: "المجتمع يخدع المرأة بتحسين شروط عبوديتها، ويسمى ذلك حرية".
وعليه يتوسع الكتاب مع التقدم بتأمل هذه الحرية كيف تُحدَّد، لا في العقيدة بل في كل بقعة جغرافية وتعليم ومصير، ليبقى الإيمان شعورا، لا قوانين صارمة تدعي الحماية، أما خلاصة الرواية فإنها تدخل كل بيت، لا بعقيدة واحدة، بل بعقائد مختلفة، حسب عقيدة كل قارئ.