بدا مشهد الفلسطينيين "العائدين" في قطاع غزة، في ظل الهدنة الحالية، يستحق التفكير العميق، ويبعث على الأسى والألم، ويثير كثيرا من الأسئلة، وكل ذلك لا يغطي عليه احتفالات أو أضواء أو مظاهر إعلامية، إذ إن هذا النوع من السلوك يشي بنوع من انعدام المسؤولية، وضعف التحسس بآلام البشر، واللامبالاة إزاء حياتهم وأشكال معاشهم، والأخطر من ذلك أنه يشي بانعدام الوعي لدى الفصائل المعنية بضرورة مراجعة ما حصل، واستنباط الدروس المناسبة منه.
أيضا، فإن كل ذلك لا يحجب الإخفاقات المريعة الحاصلة، والتي تتكرر بين حقبة وأخرى في التجربة الوطنية الفلسطينية على مر تاريخها، في الأردن ولبنان والضفة وغزة، وفيما يتعلق ببناء المنظمة والسلطة، مع كل التقدير للتضحيات والبطولات المبذولة والإنجازات المتحققة في تجربة بات لها من العمر ستة عقود، عانى خلالها الفلسطينيون كثيرا، ودفعوا في سبيلها أثمانا باهظة من أرواحهم وأعمارهم واستقرارهم وممتلكاتهم.
في هذا الإطار، فإن مشهد عودة مئات الألوف إلى المناطق التي نزحوا منها، لا يحجب الظروف البائسة التي يعيشون فيها، وواقع أنهم يعودون إلى مناطق لم تعد فيها حياة أصلا، بعد تدمير بيوتهم وعمرانهم، وضياع ممتلكاتهم وأماكن عملهم، وأيضا فهو لا يغطي على حقيقة أن هؤلاء سيعيشون إلى سنوات، ربما، على المساعدات الخارجية المرتبطة باشتراطات أميركية، وبسماح إسرائيل بإدخال هذه المساعدات، في نوعيتها وكميتها.
الحقيقة أن إسرائيل حولت قطاع غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش، وحولت فلسطينيي غزة المليونين إلى أسرى لديها، سيان كانت السلطة لـ"حماس" في القطاع، أو لـ"فتح"، فهذا الأمر بات في ذمة اليوم التالي، علما أن أيا من الفصيلين لا يتصرف بالمستوى اللازم من المسؤولية إزاء الواقع المعقد والبائس والمؤلم الذي بات يعيش فيه فلسطينيو غزة.
والمشكلة أن هذين الطرفين يهيمنان على المجال العام السياسي والمجتمعي الفلسطيني، كل في مجاله الإقليمي، دون تمكين الشعب من المشاركة في نقاش القرارات وصوغ الخيارات الوطنية. أيضا فإن هذين الطرفين لا يعملان بطريقة التكامل، في إطار الوحدة مع الاختلاف، حتى في مواجهة التحديات الإسرائيلية، بقدر ما يعملان، كسلطتين، بطريقة تنابذية وضدية، ما يبدد الطاقات الفلسطينية، ويريح إسرائيل، ونقاشات اليوم التالي للحرب في غزة تؤكد ذلك.
من الضروري إدراك "حماس" أنه من الطبيعي أنها لا تستطيع هزيمة إسرائيل، ولا أحد يحملها مسؤولية ذلك، وأن إسرائيل ولو أنها لم تستطع تحرير مئة أسير إسرائيلي، فإنها أسرت مليوني فلسطيني، وجعلتهم رهائن لها
على ذلك، من حق الفلسطينيين العاديين، الذين لا يحملون السلاح ولا ينتمون للفصائل، مساءلة قياداتهم وكياناتهم عن الخيارات المعتمدة في السياسة وإدارة المجتمع، في المفاوضة والمقاومة، في الشكل والمضمون، في الكلفة والمردود، وأيضا عن الانفصام بين الممكن والطموح، والواقع والمتخيل، وبين التضحيات والإنجازات، سيما أنهم من يدفع الأثمان الباهظة، على مر التجارب الوطنية الفلسطينية، من الأردن إلى لبنان وصولا إلى الضفة وغزة.
وفي الحقيقة فإن الواقع الفلسطيني الراهن، في مشكلاته وتعقيداته وتحدياته، يطرح أسئلة عديدة، ويفترض صوغ إجابات موحدة عليها، بقدر الإمكان. ففيما يتعلق بتداعيات الحرب على قطاع غزة، مثلا، فإن الفلسطينيين يقفون في مواجهة عدة استحقاقات أو تحديات، أولها مواجهة تبعات الكارثة الإنسانية التي حلت بالفلسطينيين في القطاع، وقوامها تدبير إمكانيات العيش لعدد كبير من عائلات الشهداء والجرحى والمعوقين والمشردين والمعدومين، الذين دمرت ممتلكاتهم وموارد رزقهم.
وثانيها، بذل كل الجهود الممكنة، واللازمة، لعدم إعطاء حكومة نتنياهو استئناف حرب الإبادة في قطاع غزة، بأي شكل، وسحب الذرائع اللازمة لذلك، بعيدا عن المكابرة، وحال الانكار، وبمعزل عن المشاعر المزيفة بالاحتفاء الساذج "بانتصارات" ثمنها بقاء فصيل، أو بعض من فصيل، مع إبادة الشعب الفلسطيني، أو إفقاره، وإذلاله.
وثالثها، ضرورة إدراك "حماس" أنه من الطبيعي أنها لا تستطيع هزيمة إسرائيل، ولا أحد يحملها مسؤولية ذلك، وأن إسرائيل هذه ولو أنها لم تستطع تحرير مئة أسير إسرائيلي لدى المقاومة، فإنها أسرت مليونين من الفلسطينيين، وجعلتهم رهائن لها، عدا عن تعزيز هيمنتها على فلسطينيي الضفة، وتاليا على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وهذا هو هدف إسرائيل المركزي، بعيدا عن ادعاء أن إسرائيل لم تحقق أهدافها، أو أنها نجحت تكتيكيا، في حين نجحت المقاومة استراتيجيا، فهذه أكثر العبارات مغالطة، بدليل ما حصل في غزة، وفي لبنان، وما تبع من انتهاء أو أفول نفوذ إيران في لبنان وسوريا وربما في العراق لاحقا.
ورابعها، بذل الجهود لرفع الحصار من كل الجوانب عن قطاع غزة، وصولا إلى تكريس ممر آمن بين الضفة وغزة، لتأكيد الوحدة الإقليمية بين طرفي الكيان الفلسطيني، لأن ذلك هو الشرط الشارط لاستعادة الاستقرار والاطمئنان لفلسطينيي غزة، لإطلاق ورشة إعادة الإعمار، وتأمين الفرص الاقتصادية التي من شأنها تمكين فلسطينيي غزة من البناء ومن تأمين قوت يومهم. بيد أن الشرط لذلك يتأسس على العاملين الأولين، أي إدراك الكارثة الإنسانية المهولة في غزة، وواقع موازين القوى، والمعطيات الدولية والإقليمية المواتية لإسرائيل، والقيام بما يفترض القيام به للتكيف مع الواقع، بعيدا عن عقلية السلطة، أو عقلية المغامرة، والمكابرة.
ما زال الفلسطينيون يقفون في مواجهة مخاطر واستحقاقات وتحديات أساسية، من النهر إلى البحر، بخاصة مع مجيء إدارة ترمب، التي تطرح ترانسفير جديد للفلسطينيين، للأردن أو لمصر، أو لأية دولة أخرى
باختصار، فإن المبادرة في هذه المجالات الأربعة المذكورة في يد "حماس"، أكثر من غيرها، فهي المطروح عليها اليوم المفاضلة بين وضعها كسلطة في غزة، وبين أحوال الفلسطينيين فيها، الذين عانوا الأهوال في الخيار الذي أخذته "حماس"، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023)، في عملية "طوفان الأقصى"، وهو خيار كان يمكن لـ"حماس" تجنبه لو كان لديها استراتيجية خروج، بعد تلك العملية، التي وجدت فيها إسرائيل فرصتها السانحة لشن حرب إبادة ضد فلسطينيي غزة، كما كان بإمكانها تجنب هذا الخيار لو أنها منذ البداية حددت مكانة قطاع غزة، في إطار العملية الوطنية الفلسطينية، كمنطقة محررة، وكنموذج للدولة الفلسطينية المقبلة، بطرح نموذج سياسي واقتصادي واجتماعي أفضل من مثيلتها في الضفة.
عدا ذلك، أي عدا ما يحصل في غزة، فما زال الفلسطينيون يقفون في مواجهة مخاطر واستحقاقات وتحديات أساسية، من النهر إلى البحر، بخاصة مع مجيء إدارة ترمب، التي تطرح ترانسفير جديد للفلسطينيين، للأردن أو لمصر، أو لأية دولة أخرى، ومع محاولة حكومة نتنياهو إخضاع الضفة لهيمنتها جملة وتفصيلا، وعبر تعزيز الاستيطان وتسليح المستوطنين، مع الإبقاء على مجرد وجود شكلي للسلطة الفلسطينية فيها.
باختصار، لا يمكن للفلسطينيين تعزيز صمودهم، وتحقيق الاستقرار في أوضاعهم، وتاليا استثمار تضحياتهم وبطولاتهم دون إحداث تغييرات في عقلياتهم السياسية، وتعريفهم لأهدافهم ولوسائل كفاحهم، ودون إعادة بناء كياناتهم السياسية، وبالتأكيد لا يمكن لهم ذلك من دون توفر الظروف الدولية والعربية المناسبة لهم لتثمير معاناتهم ونضالاتهم. وهذه هي المشكلة، اليوم، وهي ذاتها طوال مسيرة كفاحية عمرها ستة عقود.