ما الذي يجعل فنانا مثل فنسنت فان غوغ مات قبل أكثر من مئة سنة تقريبا، شهيرا ومألوفا من عامة الناس، وكل معرض يحمل اسمه يصبح حدثا مهما يترقبه ويزوره الآلاف؟ هذا بالفعل ما حدث في معرضه الأخير الذي أقيم في "ناشونال غاليري" في لندن لمناسبة مرور مئتي سنة على افتتاح الصالة الشهيرة، التي تتوسط ساحة الطرف الأغر، أبرز ساحات لندن، ومرور مئة سنة على اقتناء لوحته "عبّاد الشمس". المعرض شهد زيارة ما يقارب 350 ألف زائر، كثر منهم جاؤوا من أوروبا، واضطرت إدارة الغاليري إلى استقبال الزوار 24 ساعة في عطلة نهاية الأسبوع قبل نهايته، وهذه سابقة تحدث للمرة الثانية في تاريخ الغاليري الشهيرة بعد معرض ليوناردو دافنشي عام 2012.
المخلص دوما
يشعر زائر هذا المعرض بتعاطف تجاه الفنان الذي أبدع هذه اللوحات الباهرة وهو في أحلك لحظات حياته، ويشعر أيضا بعبقرية فان غوغ المتفردة وجرأته وقدرته غير المتناهية على التجريب وتأثيث العالم البسيط من حوله بالجمال والأمل والألوان الحارقة. كل اللوحات في المعرض تؤرخ للفترة الزمنية التي عاش فيها فان غوغ في أرل جنوب فرنسا بعد مغادرته باريس التي عاش فيها سنتين (1886-1888)، حيث أقام مع أخيه ثيو تاجر الفنون الذي دعمه ماليا وعاطفيا، وساعده في عرض لوحاته ومحاولة بيعها.
في باريس، سكن فنسنت وثيو بيت رقم 56 في شارع "لبيك" في حي "مونمارتر" الشهير، حيّ الفنانين والبوهيميين ومركز الحركات الفنية، مثل الانطباعية وما بعد الانطباعية. حاول فان غوغ الانغماس في تلك الحركات الفنية واكتساب تقنياته الخاصة وتطويرها، فانضم إلى استديو مفتوح يشرف عليه الفنان الفرنسي فرنان كورمون (1845/1924)، وتعرف الى بول سيناك وبول غوغان وهنري دو تولوز لوتريك. لكنه سرعان ما ضجر من مجتمع باريس الصاخب والمنافق الذي أرهقه نفسيا وجعله يتوق إلى العزلة والهدوء. ولأنه كان يعاني من مشاكل جسدية ونفسية، ظن أن الريف الفرنسي الجنوبي سيمنحه فرصة للشفاء والتركيز على فنه وكانت لديه أيضا رغبة في العثور على الحب خصوصا ان أرل اشتهرت بجمال نسائها.
فنسنت في أرل
وصل فنسنت إلى أرل في فبراير/ شباط 1888. وكان يأمل أن يجد في هذه المدينة الصغيرة الدافئة الإلهام في الطبيعة، وأن يخلق تجمعا فنيا صغيرا مع صديقيه بول غوغان وإميل برنار، لذلك استأجر بيتا قريبا من محطة المدينة (البيت الأصفر) الذي يطل على حديقة عامة جميلة، رسمها فنسنت في العديد من أعماله مثل "حديقة الشعراء" (1888). وهناك لوحات تعود إلى الأشهر الأولى له في أرل منها لوحة "العاشق" (سبتمبر/ أيلول 1888) وهي بورتريه شخصي لصديقه الضابط في الجيش الفرنسي بول- يوجين ميليه الذي نُقل إلى أرل بداية عام 1888، وأصبحا صديقين مقربين حتى إن فنسنت أعطاه دروسا في الرسم. كان ميليه وسيما وله حظوة مع النساء، بخلاف فنسنت، لذلك سمّى هذه اللوحة "العاشق" وكتب فنسنت بحسد: "له جميع نساء أرل اللواتي يريدهن".