علي جازو في "قصص بحجم حبة كرز": سرديات شعرية

نصوص مجلوبة من الذاكرة ومن عوالم مفتقدة

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

علي جازو في "قصص بحجم حبة كرز": سرديات شعرية

رغم أن الكتاب الجديد للشاعر السوري علي جازو المقيم في ألمانيا يحمل عنوان "قصص بحجم حبة كرز" (صدر عن "خان الجنوب")، ورغم وجود تسمية "مجموعة قصصية" كعنوان فرعي على الغلاف، إلا أن النصوص التي نحن مدعوون إلى قراءتها ليست قصصا تقليدية، بل ربما هي ليست قصصا غير تقليدية أيضا.

شاع في العقود الأخيرة مصطلح "القصة القصيرة جدا"، وصدرت مجموعات قصصية عديدة تنتمي إلى هذا النوع الذي ظل كتابه قليلين، وظل يتحرك داخل فكرة كتابة نص سردي قصير، أو كتابة مقطع، أو حتى سطرين أو سطر واحد، وظل مدينا لشروط الكثافة الشديدة وذكاء الفكرة والخاتمة المفاجئة، وظلت هذه "الشروط" أو الصفات هي التي تجعل هذا النوع القصصي الخاطف مقبولا وحاصلا على إعجاب الكثير من القراء والنقاد ومديحهم.

بلا ضربات مفاجئة

نتذكر هذا ونحاول أن نضع ما نقرأه الآن في سياق ما سبق أن صدر من قصص قصيرة جدا، فنجد في المجموعة الكثافة (وإن غير مكثفة كفاية) ونجد الفكرة اللافتة (وإن متروكة وحدها دون ألاعيب الذكاء وخفتها)، لكن الأهم أننا لا نجد تلك الضربة المفاجئة في الخاتمة، والتي تكفل، وسبق أن كفلت، لنصوص قصيرة كهذه، النجاح المأمول والمرتقب. وهو ما يقودنا إلى التساؤل عن الرهان الذي كان في بال الكاتب، حين أنجز هذه القصص، وتعمد أن يتجنب شروطها. والجواب على الأرجح هو أن ثمة محاولة لكتابة قصص قصيرة جدا، من دون الاتكال على عدتها المسبقة، والذهاب إلى منطقة منزوية قليلا عن سياق هذا النوع من الكتابة، ومواجهة القارئ بمقاربات أخرى تدعوه إلى مزاج آخر لكتابة هذا الصنف من القصص القصيرة جدا.

محاولة لكتابة قصص قصيرة جدا، من دون الاتكال على عدتها المسبقة، والذهاب إلى منطقة منزوية قليلا عن سياق هذا النوع

والحقيقة أن علي جازو لا يتأخر في إظهار أنه يسعى إلى كتابة قصصه بمزاج آخر، وهو ما نقرأه في أول قصة من المجموعة تحمل عنوان "حبات السكاكر الملونة":
"اعتادت الأم جلب حفنة من السكاكر لابنها الوحيد. ليست كأي نوع آخر؛ هي حبات حمص كبيرة منتفخة، قلَتْها سيدات بعيدات، وغطسنها في السكر الملون والطحين. تعددت ألوان حبات السكر؛ بيضاء يقارب ملمسها ملمس الكلس الخشن، حمراء فاتحة مدببة السطح، نهدية كظل أمسية أعقبت نهارا صافيا، زرقاء بلون سماء خريفية رطبة، صفراء خفيفة تجلب ذكريات مرح طائرة...".

غلاف المجموعة القصصية "قصص بحجم حبة كرز"

المزاج الآخر الذي أشرنا إليه يتبدى في أن القصة يمكن أن تكون أشبه بمقطع مجتزأ من سياق أوسع ولكنه محجوب أو غير مكتَرث بإظهاره، وأن يخلو المقطع نفسه أو يكاد من بنية قصصية أو شكل حكائي واضح، وأن لا يكون فيه خيط سردي يبدأ من مكان ما لكي ينتهي بخاتمة يرتجى منها أن تفاجئ القارئ مثلا. لعل المفاجأة هنا هي في انتفاء هذه المفاجأة المتوقعة، وفي أن البديل أن يكون النص مكتفيا بالوصف الذي فيه، وبالطابع الحلمي الذي يجلب من ذاكرة الطفل الذي كبر ومخيلته، ويكتب الذكرى بنفسه. وأن تكون نصوص أخرى أيضا مكتفية بالتفاصيل والحوادث الصغيرة التي تجري فيها، ومكتفية باللمسة الشعرية الي تسري فيها، وتترك لدى لدى القارئ إحساسا بالعذوبة والأسى.

Omar HAJ KADOUR / AFP
صورة جوية لسوق شعبي في مدينة حمص وسط سوريا

ذاكرة وفقد

العديد من نصوص المجموعة مجلوبة من الذاكرة ومن افتقاد عوالم وزمن تلك الذاكرة. وهو ما يجعل اللمسة الشعرية حاضرة بقوة. وهو ما أشار إليه الكاتب والروائي حسن داوود في كلمته على غلاف المجموعة، حين لاحظ أن القصص "كأنها كتبت بقلم رفيع الخط كي لا تضج الكلمات وتعلو أصواتها"، وأنها "صور وأفكار مكثت طويلا في ذاكرة سعيدة".
داخل هذا السياق وهذه الإشارات، نجد أن هناك قصصا عديدة هي حصيلة ذاكرة شخصية سابقة تستعاد بالطابع الحلمي نفسه كما في قصص "خيال الصغيرة" و"العضة" و"يد أخي"... وغيرها. في المقابل هناك قصص تتنوع مضامينها لكنها تبقى في الوقت نفسه قريبة من ماضي التجربة الشخصية، كما في قصص "دار ترجمة عامودا" و"الليل والجنة والكتب" و"المهرجان الرابع" و"أقلد أولئك الذين يراقبونني"... وغيرها.

سرديات قصيرة ومقاطع أريد لها أن تندرج تحت جنس القصة، والقصيرة جدا منها، من دون أن تنتمي إليه بصورة بديهية

في الحالتين، تبدو غالبية نصوص الكتاب معفاة بطريقة أو بأخرى من توقعات القارئ، بل إنها بطريقة ما تبدو غير معنية بالتوجه إلى القارئ بالمطلق. أحيانا نشعر أن المؤلف كأنما يكتب بنفسه، ويؤرخ حوادث وتفاصيل صغيرة من ذاكرته أو من مشاهداته أو من مراقبته للأشياء والتفاصيل. لنقرأ كمثل ثان مقطعا من هذه القصة التي تحمل عنوان "وجوه الصبية الثلاثة":
"لوهلة بدوا في نعيم أبدي. كنت في ضيافة خالهم قصير القامة، وكانوا في يوم من أيام عطلات الربيع. ثلاثة صبية أخفت ابتساماتهم المترافقة وجوها خلتها الشكلَ الأكمل لأعذب أمنية. كانوا يتقون بردا مفاجئا حل عصر يوم من أواخر شهر نيسان،
بملاءة واحدة وست أياد تتعارك مرحة يجذبها كل فوق وجهه. كان باب الحجرة الطينية الطويلة واسعا ومفتوحا. نادى رجل من بيت مجاور "احملي الثياب عن الحبل؛ تكاد تمطر".

LOUAI BESHARA / AFP
رجل يتصفح الكتب في مكتبة بدمشق

لحظات طفيفة

بطريقة ما، نشعر أن الغاية من مجمل هذه الكتابة هي الوصف والتقاط لحظات طفيفة وهشة ومؤثرة، وتأريخ هذه اللحظات في كتابة مقطعية أو شذرية غير معنية بدورها بالشرط الحكائي أو القصصي. إنها سرديات قصيرة ومقاطع أريد لها أن تندرج تحت جنس القصة، والقصيرة جدا منها من دون أن تنتمي إليه بصورة بديهية. إنها مقاطع "بحجم حبة كرز" كما جاء في عنوان المجموعة، لكنها مقدمة إلى القارئ كقصص، مع التخلي شبه الكامل عن الأسلحة التي تتحلى بها قصص قصيرة جدا من هذا النوع.
قصص الكتاب مكتفية بما هي عليه، وغارقة في تفاصيلها المروية من زاوية غير تقليدية. هناك متعة في كتابة ذلك، متعة تنتقل إلى القارئ أيضا. صحيح أن القارئ يظل قلقا قليلا لجهة تحديد جنس ما يقرأه، ولكن ذلك لا يلجم متعته في القراءة.
لعل هذا هو رهان المؤلف، وهو رهان فيه من المجازفة ما فيه، بينما في المقابل تتعرض ذائقة القارئ لمجازفة مماثلة تقريبا، وعليه أن يقرر ما إذا كان يتقبل ما يقرأه كقصص أم كمقاطع سردية متحررة من التسمية.

والأهم في الحالتين، أن يعجب ويستمتع بما يقرأه، وأن يقتنع أن النصوص، بغض النظر عن تحديد جنسها ونوعها، مكتوبة بشكل جيد. والأرجح أن المؤلف والقارئ لا بد أن يلتقيا في هذه النقطة.

font change

مقالات ذات صلة