إذا كان لمقترحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب المثيرة للجدل بشأن تحويل قطاع غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" أي قيمة، فهي في قدرتها على تسليط الضوء على الأوضاع المأساوية التي يكابدها مليونا فلسطيني داخل هذا الجيب المحاصر.
منذ أن أصبح قطاع غزة ملاذا للاجئين الفلسطينيين الذين شُردوا نتيجة قيام إسرائيل عام 1948، ظلت معاناتهم قضية مهمشة إلى حد كبير على الساحة الدولية.
وحتى خلال المحاولات الدبلوماسية الجادة لحل النزاع المعقد بين إسرائيل والفلسطينيين، كما في مفاوضات اتفاق أوسلو، غالبا ما كان مصير سكان غزة، الذين يعانون منذ عقود، يُهمل. ولم تحرز الجهود المبذولة لتحسين أوضاع الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين داخل القطاع أي تقدم يُذكر، بسبب رفض إسرائيل الاعتراف بمبدأ "حق العودة" للفلسطينيين الذين أُجبروا على مغادرة ديارهم.
ونتيجة لذلك، أصبح قطاع غزة، منذ سيطرة حركة "حماس" المدعومة من إيران على الحكم فيه، أرضا خصبة لنمو الجماعات الإسلامية المتشددة، مما أدى في نهاية المطاف إلى الهجمات التي وقعت في7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ضد إسرائيل، والتي أسفرت عن مقتل نحو 1,200 شخص واختطاف 250 آخرين.
وحتى خلال المحاولات الدبلوماسية الجادة لحل النزاع المعقد بين إسرائيل والفلسطينيين، كما في مفاوضات اتفاق أوسلو، غالبا ما كان مصير سكان غزة، الذين يعانون منذ عقود، يُهمل
مع تحول معظم قطاع غزة إلى أنقاض جراء الهجوم العسكري الذي شنته إسرائيل ضد حركة "حماس" ردا على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، بات هناك اعتراف واسع النطاق بضرورة تنفيذ مشروع إعادة إعمار شامل في القطاع. فإلى جانب توفير المساكن وفرص العمل للسكان المحليين، تُعتبر إعادة الإعمار خطوة أساسية للحيلولة دون تحول القطاع مجددا إلى بيئة حاضنة للجماعات الإسلامية المتشددة.
في الواقع، يُعد توفير التمويل اللازم لبرنامج إعادة الإعمار المستقبلي عنصرا أساسيا في خطة السلام المكونة من ثلاث مراحل، والتي تسعى إلى تحقيق وقف دائم لإطلاق النار في غزة. وقد ألمح مسؤولون إسرائيليون مؤخرا إلى احتمال استعداد بعض دول الخليج لتغطية تكاليف إعادة إعمار القطاع.
غير أن إعلان ترمب المثير للجدل هذا الأسبوع عن نية الولايات المتحدة "السيطرة"على غزة و"امتلاكها" بعد إعادة توطين الفلسطينيين في أماكن أخرى من المنطقة، كجزء من خطة إعادة تطوير القطاع وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط،" يدفع بمخططات ما بعد الحرب إلى مستوى جديد تماما.
وفي تصريح مفاجئ صدر بعد لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قال ترمب إن إدارته ستقود مشاريع التنمية في القطاع بهدف "توفير عدد غير محدود من الوظائف والمساكن لسكان المنطقة".
في تحول جوهري عن عقودٍ من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث كان تحقيق حل الدولتين للنزاع الإسرائيلي/الفلسطيني هدفا رئيسيا، أعلن ترمب: "إن الولايات المتحدة ستتولى السيطرة على قطاع غزة، وسنقوم بعمل جيد هناك أيضا. سنمتلك القطاع." وأضاف أن إدارته ستتكفل بإزالة المباني المدمرة وتفكيك "القنابل غير المنفجرة الخطيرة والأسلحة الأخرى".
وكما هي الحال مع العديد من تصريحاته المثيرة للجدل، أثار تدخل ترمب في قضية غزة موجة واسعة من الإدانات، خاصة لكونه يتجاهل جوهر القضية المتمثل في حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم.
ورغم الإجماع الدولي على أن إعادة إعمار غزة يجب أن تكون أولوية كبرى، شريطة الحفاظ على وقف دائم لإطلاق النار، إلا أن هناك اتفاقا واسعا على ضرورة معالجة النزاع المستمر بشأن تنفيذ حل الدولتين بالتوازي مع جهود إعادة الإعمار.
وهكذا، بينما يواصل ترمب التأكيد على أن "الجميع يحب" خطته بشأن غزة، فإن تصريحاته أثارت ردود فعل حادة حول العالم، حتى من بعض أقرب حلفائه.
ففي لندن، عبّر رئيس الوزراء البريطاني، السير كير ستارمر، عن موقف العديد من حلفاء واشنطن بقوله إن الفلسطينيين "يجب أن يُمنحوا الفرصة لإعادة البناء، ويجب أن نكون إلى جانبهم في هذه العملية على طريق حل الدولتين." أما في الولايات المتحدة، فقد تصاعدت المخاوف بشأن احتمال إرسال قوات أمريكية إلى غزة، حيث وصف السيناتور عن ولاية كارولينا الجنوبية، ليندسي غراهام، الحليف السياسي المقرب من ترمب وشريكه في رياضة الغولف، الاقتراح بأنه "إشكالي".
بينما يواصل ترمب التأكيد على أن "الجميع يحب" خطته بشأن غزة، فإن تصريحاته أثارت ردود فعل حادة حول العالم، حتى من بعض أقرب حلفائه
وقال غراهام: "إن فكرة دخول القوات الأمريكية برا إلى غزة غير واردة على الإطلاق بالنسبة لأي سيناتور." وأضاف: "لذا، أقترح أن نعود إلى ما كنا نحاول تحقيقه، أي القضاء على "حماس" وإيجاد طريقة تتيح للعالم العربي تولي مسؤولية غزة والضفة الغربية، بطريقة تمهد لقيام دولة فلسطينية يمكن لإسرائيل التعايش معها."
كما رفض عدد من القادة العرب أيضا تدخل ترمب، لا سيما اقتراحه بإمكانية إعادة توطين سكان غزة الفلسطينيين في دول مجاورة مثل الأردن ومصر.
حيث أكد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني رفضه القاطع لأي محاولات لضم الأراضي أو تهجير الفلسطينيين، مشددا في منشور على منصة (إكس) على أن الأولوية يجب أن تكون "وقف التوسع الاستيطاني الإسرائيلي."
من جانبه، سعى البيت الأبيض إلى تهدئة الانتقادات عبر توضيح موقفه، حيث أكد مسؤولون أنه لا توجد أي خطط لنشر قوات أمريكية في غزة، وأن أي عمليات تهجير لسكان القطاع الفلسطينيين ستكون "مؤقتة".
ومع ذلك، فإن مجرد طرح ترمب لمقترحاته المثيرة للجدل نجح في تسليط الضوء على معاناة غزة، وما يجب القيام به لجعلها مكانا صالحا للعيش بمجرد انتهاء الصراع بشكل نهائي.
ورغم اعتبار حل القضية الفلسطينية أولوية كبرى لمعظم قادة العالم، فإن نقاشاتهم النشطة حول خطط إعادة إعمار غزة تعكس تحولا واضحا، حيث بات مصير سكان القطاع يتصدر قائمة الاهتمامات العالمية.