تحديات بريطانيا بين الاتحاد الأوروبي وترمب

سيحاول ستارمر الإبحار في المياه المتلاطمة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
متظاهر يحمل لافتة خلال "مسيرة العودة الوطنية"، أثناء مروره ببرج إليزابيث وساعة بيغ بن خارج مبنى البرلمان في وسط لندن في 28 سبتمبر 2024، مطالبا بإعادة انضمام المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي

تحديات بريطانيا بين الاتحاد الأوروبي وترمب

مرت خمس سنوات على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون أي احتفالات تذكر. وبينما انتقد بعض معارضي الحكومة من مؤيدي "بريكست" غياب مظاهر الاحتفال، فإن صمت رئيس الوزراء كير ستارمر لم يكن مفاجئا. فقد كان من أشد المعارضين لمغادرة "الاتحاد" خلال استفتاء عام 2016، لكنه تعهد خلال انتخابات 2024 باحترام نتيجة الاستفتاء وعدم السعي لإعادة الانضمام.وهكذا، تجد لندن نفسها في موقف غامض تجاه أوروبا، إذ تقودها حكومة تميل بطبيعتها نحو بروكسل، لكنها مضطرة للحفاظ على مسافة سياسية تفاديا لأي تداعيات انتخابية.

وفي الوقت نفسه، تُعقّد عودة دونالد ترمب إلى السلطة واحدة من أهم العلاقات الخارجية لبريطانيا، نظرا للفجوة الأيديولوجية بين "حزب العمال" بقيادة كير ستارمر و"الحزب الجمهوري" الأميركي. ومع توجه ترمب نحو نهج أكثر تصادمية تجاه أوروبا مقارنة بسلفه، سيجد ستارمر نفسه عالقا بين حليفين رئيسين، غير قادر على التقارب الكامل مع أي منهما. ويزيد ذلك من تعقيد المشهد أمام حكومة بريطانية ما زالت تبحث عن دورها العالمي بعد "بريكست".

التقارب الأوروبي؟

وقد رحب القادة الأوروبيون عموما بفوز "العمال" في انتخابات يوليو/تموز الماضي. فبعد ثماني سنوات من التوتر النسبي في ظل سلسلة من رؤساء الوزراء المحافظين الذين قادوا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما تبعه من علاقات متوترة بينه وبين المملكة المتحدة، كانت آمال بروكسل معقودة على أن يتمكن كير ستارمر من إعادة بناء هذه العلاقات.وانطلاقا من ذلك، جرى الترتيب لعقد قمة رسمية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في أبريل/نيسان لتحقيق هذا الهدف. وبالإضافة إلى أن "حزب العمال" يظهر عداء أيديولوجياً أقل تجاه الاتحاد الأوروبي مقارنة بأسلافه من "المحافظين"، فقد جعل كير ستارمر من إنعاش الاقتصاد البريطاني المتعثر أولوية رئيسة له، مع سعيه لتحسين العلاقات مع أكبر شريك تجاري للمملكة المتحدة.

يواجه ستارمر المشكلات نفسها التي واجهها أسلافه "المحافظون" خلال مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ يرفض الاتحاد الأوروبي بشكل قاطع أي محاولة لـ"انتقاء المزايا" من السوق الموحدة

كما أن الظروف الجيوسياسية تعزز فرص التقارب، إذ أكد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 على أهمية تعزيز التعاون الأمني بين بريطانيا وأوروبا، بغض النظر عن "بريكست". وفي الوقت نفسه، تتشارك لندن والعديد من عواصم الاتحاد الأوروبي مخاوف متزايدة تجاه الصين.علاوة على ذلك، فإن عودة دونالد ترمب إلى السلطة، وتهديداته بفرض رسوم جمركية على الحلفاء، إلى جانب حديثه عن ضم غرينلاند، وهي أرض تابعة لدولة عضو في الاتحاد الأوروبي، زادا من دوافع الأوروبيين لتعزيز علاقاتهم مع بريطانيا، مما قد يدفعهم إلى تقارب أكبر مع بروكسل.

ولكن، رغم احتمال تحسن العلاقات، فمن المرجح أن تبقى مجرد ظل لما كانت عليه قبل عام 2016. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية البريطانيين يرون الآن أن "بريكست" كان خطأ، فيما كشف استطلاع حديث أجرته مؤسسة "يوغوف" أن أكثر من نصف مؤيدي الخروج من الاتحاد الأوروبي لم يتمكنوا من تحديد أي نتيجة إيجابية له. ورغم ذلك، لا يزال "حزب العمال" متخوفا من أن يؤدي أي تقارب مفرط مع الاتحاد الأوروبي إلى فقدان أصوات الناخبين لصالح "المحافظين" أو "حزب الإصلاح" بقيادة نايجل فاراج، وقد سارع كلاهما إلى اتهام كير ستارمر بـ"خيانة بريكست".

أ.ف.ب
رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، لندن في 9 يوليو 2024

وهذا يضع رئاسة الوزراء في موقف صعب. فقد تعهد كير ستارمر خلال انتخابات 2024 بعدم السعي لإعادة انضمام المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي أو سوقه الموحدة أو اتحاده الجمركي، إضافة إلى منع عودة حرية الحركة بين مواطني المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبدلا من ذلك، يأمل "العمال" أن يسهم تحسين العلاقات مع بروكسل في تسهيل إدخال تعديلات على اتفاقية التجارة المبرمة عام 2020، والتي أدت منذ دخولها حيز التنفيذ إلى تراجع صادرات المملكة المتحدة من السلع إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 6.4 في المئة، وفقا لتقرير جديد صادر عن كلية لندن للاقتصاد.

ومع ذلك، يواجه كير ستارمر المشكلات نفسها التي واجهها أسلافه "المحافظون" خلال مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بين عامي 2016 و2020، إذ يرفض الاتحاد الأوروبي بشكل قاطع أي محاولة لـ"انتقاء المزايا" من السوق الموحدة. ولا يبدو أن حسن النية وحده سيغير هذا الموقف، وحتى لو تمكنت المملكة المتحدة من تحقيق بعض التقدم الطفيف في مجالات محددة، مثل التوافق البيطري على المنتجات الغذائية، فإنه من غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى الانتعاش الاقتصادي الذي يأمل فيه "حزب العمال".

الأولوية الفورية لكير ستارمر هي ضمان عدم إدراج بريطانيا ضمن الرسوم الجمركية التي يهدد البيت الأبيض بفرضها على حلفائه

وفي المقابل، تبدو فرص تعزيز التعاون الأمني أكثر واقعية، لا سيما في ظل التوافق بشأن الموقف من روسيا وأوكرانيا. ومع ذلك، فإن هذا لن يكون له تأثير ملموس على النمو الاقتصادي الذي يسعى إليه ستارمر. كما أن هناك تساؤلات حول مدى النفوذ الذي قد تمنحه هذه الخطوة للمملكة المتحدة لدى الاتحاد الأوروبي، أو ما إذا كانت ستعزز بالفعل مكانتها الدولية الهشة.

أميركا في عهد ترمب

منذ انهيار إمبراطوريتها، سعت بريطانيا إلى الموازنة بين حليفَيْها الرئيسين: أوروبا والولايات المتحدة. فقد ركزت اقتصاديا على بروكسل، بينما ظلت أولوياتها الأمنية مرتبطة بواشنطن. ومع ذلك، لطالما اتسم الموقف البريطاني بالتردد إزاء هاتين العلاقتين، وكان هناك دائما صناع قرار يميلون إلى تعزيز العلاقات مع طرف على حساب الآخر. وقد دفع "بريكست" البعض إلى المطالبة بتقارب أكبر مع الولايات المتحدة، لكن انتخاب دونالد ترمب عام 2016 عرقل هذا التوجه، وهو ما يتكرر اليوم مع عودته إلى السلطة.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب

اقتصاديا، أراد بعض مؤيدي "بريكست" التحرر من قيود الاتحاد الأوروبي لتمهيد الطريق لاتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة. ورغم أن دونالد ترمب أبدى اهتماما بهذه الفكرة خلال ولايته الأولى، فإنها لم تتحقق قبل أن يؤدي انتخاب جو بايدن إلى تقليص فرصها بشكل أكبر. ورغم أن الاتفاقية التجارية مع واشنطن كانت سياسة "حزب المحافظين" أساسا، فقد ينظر "حزب العمال" في الأمر أيضا، إلا أن أجندة ترمب تركز على تحسين ميزان التجارة الأميركي، مما يجعل التوصل إلى اتفاق مُرضٍ للندن أقل احتمالا. علاوة على ذلك، فإن الأولوية الفورية لكير ستارمر هي ضمان عدم إدراج بريطانيا ضمن الرسوم الجمركية التي يهدد البيت الأبيض بفرضها على حلفائه.

كما يسعى كير ستارمر إلى الحفاظ على العلاقة الأمنية الوثيقة بين واشنطن ولندن. فحتى قبل انتخاب دونالد ترمب، تعهد ستارمر بزيادة الإنفاق الدفاعي البريطاني ليصل إلى 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وحث حلفاء "الناتو" على اتخاذ خطوة مماثلة، وهو ما قد يلقى استحسانا لدى ترمب.

بريطانيا منذ "بريكست" عالقة بين أوروبا والولايات المتحدة دون أن تكون قريبة تماما من أي منهما

ومع ذلك، تدرك رئاسة الوزراء جيدا أهمية بناء علاقات شخصية. فقد حرص كير ستارمر على لقاء دونالد ترمب خلال عشاء استمر ساعتين في نيويورك في سبتمبر/أيلول، أي قبل أشهر من الانتخابات الأميركية، بينما كثّف فريق وزير الخارجية ديفيد لامي جهوده لتعزيز الروابط مع معسكر ترمب تحسبا لفوز الجمهوريين. ونظرا لاختلافاتهما الأيديولوجية الكبيرة، فإن هذا المسار محفوف بالمخاطر، وهو ما بدا جليا من خلال الانتقادات اللاذعة التي وجهها حليف ترمب، إيلون ماسك، لستارمر، بالإضافة إلى التقارير التي تفيد بأنه استكشف سبل الإطاحة برئيس الوزراء البريطاني. إلا أن ترمب حافظ حتى الآن على موقف ودي تجاه ستارمر، حيث صرح عقب محادثة هاتفية استمرت 45 دقيقة الأسبوع الماضي بأن لديهما "علاقة جيدة جدا"، وأن ستارمر "يقوم بعمل جيد حتى الآن". ويأمل رئيس الوزراء البريطاني أن لا تشكل اختلافاته الأيديولوجية مع ترمب عقبة أمام إقامة علاقة دبلوماسية قوية، على غرار ما حدث بين توني بلير وجورج بوش.

طريق محفوف بالمخاطر

لكن دونالد ترمب ليس جورج بوش، فهو شخصية يصعب التنبؤ بتصرفاتها، مما يجعل من الصعب على كير ستارمر أن ينحاز إليه بالكامل. فداخليا، قد يواجه ردود فعل غاضبة من جناحه اليساري ومؤيديه الليبراليين إذا بدا وكأنه يدعم بعض سياسات ترمب اليمينية. أما على الصعيد الدولي، فإن تصرفات ترمب العدائية والمفاجئة، مثل تهديده لبنما وغرينلاند، أو فرض رسوم جمركية على الحلفاء، سواء شملت بريطانيا أم لا، ستجعل من شبه المستحيل على ستارمر القبول بها. ومع ذلك، فإن ضعف الروابط مع الاتحاد الأوروبي وصعوبة إصلاحها تجعل من الصعب على بريطانيا اتخاذ أي موقف معارض لترمب خشية الوقوع في عزلة دولية. ورغم اختلاف أولويات كير ستارمر وأساليبه عن أسلافه المحافظين، فإنه لا يزال يواجه المعضلة الهيكلية ذاتها التي تعاني منها بريطانيا منذ "بريكست": فهي عالقة بين أوروبا والولايات المتحدة دون أن تكون قريبة تماما من أي منهما. وفي ظل تصاعد المنافسة، سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي، فإن هذا الوضع يبدو محفوفا بالمخاطر. وسيحاول ستارمر، قدر استطاعته، الإبحار في هذه المياه المتلاطمة، لكن المهمة لن تكون سهلة.

font change