حكم المحكمة العليا الأميركية وتطبيق "تيك توك"

معركة قانونية ضمن الحرب التجارية مع الصين

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتحدث للصحفيين حول تيك توك أثناء توقيعه على أوامر تنفيذية في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، في 20 يناير 2025

حكم المحكمة العليا الأميركية وتطبيق "تيك توك"

أصدرت المحكمة العليا الأميركية في 17 يناير/كانون الثاني حكما بالإجماع برفض دعوى الطعن بعدم الدستورية في قضية ("تيك توك" ضد ميريك غارلاند وزير العدل والنائب العام للولايات المتحدة)، والتي أقامتها شركة "بايت دانس" الصينية المالكة لتطبيقالتواصل الاجتماعي الشهير"تيك توك"، وأيدت دستورية "قانون حماية الأميركيين من التطبيقات الخاضعة لسيطرة الخصوم الأجانب" (PAFACA)، والذي حظر التطبيق وكافة البرامج والمنصات والتطبيقات المملوكة للشركة الأم في الولايات المتحدة، إضافة إلى أي تطبيق أو برنامج آخر تنطبق عليه ذات الشروط الواردة بالقانون، لأسباب تتعلق بالأمن القومي وخصوصية بيانات مستخدميه، والذين يبلغ عددهم في الولايات المتحدة فقط حوالي 170 مليون مستخدم.

طبيعة السلطات التنفيذية للرئيس الأميركي وفقا للدستور وتطورها

تنص المادة الثانية من الدستور الأميركي على أن الرئيس هو رأس السلطة التنفيذية، ويتمتع بسلطات تنفيذية واسعة تشمل إصدار القرارات والأوامر التنفيذية، وخاصة في الشؤون المتعلقة بالعلاقات الخارجية والأمن القومي، لكن هذه السلطة ليست مطلقة، بل تخضع لرقابة الكونغرس والقضاء وفقا لمبدأ "الفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة بين هذه السلطات"، ومن ثم فإن السلطات الدستورية للرئيس في هذا السياق محددة بعدة قيود، أخصها احترام حقوق الأفراد والحفاظ على التوازن بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية.

وقد تطورت سلطات الرئيس في إصدار القرارات والأوامر التنفيذية عبر التاريخ الأميركي بناء على ممارسات الرؤساء السابقين والأحكام القضائية. فيتم التوسع في استخدامها أو تضييقها وفقا لطبيعة الظروف التي تمر بها الدولة، وغالبا ما تتوسع السلطات الرئاسية في أوقات الأزمات، وتاريخيا تشير الإحصائيات إلى أن الرؤساء الأميركيين استخدموا أكثر من 60 حالة طوارئ منذ عام 1977، معظمها مرتبط بتهديدات أمنية وبالطوارئ الوطنية التي تهدد الأمن القومي. ومع ذلك، يجب أن تكون هذه القرارات والأوامر متوافقة مع القوانين والحقوق والضمانات الدستورية، وإلا يتم إلغاء هذه القرارات والأوامر بموجب أحكام قضائية.

بداية أزمة "تيك توك" مع إدارة الرئيس ترمب في فترته الأولى

خلال فترة رئاسته الأولى أصدر الرئيس ترمب في أغسطس 2020 قرارا رئاسيا تنفيذيا بمنع وحظر كافة أنشطة وتعاملات "تيك توك"، وذلك استنادا لتفويض تشريعي من الكونغرس للرئيس، بموجبه يكون للرئيس سلطةإصدار قرارت وأوامر تنفيذية بفرض قيود وعقوبات اقتصادية على الشركات والكيانات الاقتصادية في حالات الطوارئ الوطنية التي تهدد الأمن القومي، على أن يتم ذلك وفقا لأسباب مبررة ومحددة، تكون متوافقة مع أحكام القانون والدستور، وكان القانون الذي ينظم هذه المسألة هو "قانون تنظيم التجارة مع العدو عام 1917" والذي صدر أثناء الحرب العالمية الأولى عقب إعلان الولايات المتحدة الحرب على ألمانيا وكانت هذه السلطة مقصورة في زمنالحرب فقط، وقد تم تعديله بموجب "قانون الإغاثة الطارئة للبنوك عام 1933" والذي صدر خلال فترة الكساد العظيم وكان ضمن حزمة تشريعات برنامج "الصفقة الجديدة"، والذي وسع من صلاحيات الرئيس وجعلها في زمن الحرب والسلم، ثم عُدل ذلك القانون مرة أخيرة بـ"قانون السلطات الاقتصادية فيحالات الطوارئ الدولية عام 1977"، والذي حد من سلطات الرئيس بفرض مزيد من القيود والشروط الإضافية أهمها إعادة قصر هذه السلطة في زمن الحرب والكوارث العالمية فقط.

للرئيس سلطةإصدار قرارت وأوامر تنفيذية بفرض قيود وعقوبات اقتصادية على الشركات والكيانات الاقتصادية في حالات الطوارئ الوطنية التي تهدد الأمن القومي

وقد أعلن الرئيس ترمب حالة الطوارئ استنادا لورود معلومات بخرق شركة "بايت دانس" الصينية لقواعد وشروط خصوصية بيانات مستخدمي تطبيق "تيك توك"، ومنح الشركة مهلة 120 يوما من تاريخ صدور القرار لتوفيق أوضاعها ببيع أغلب ملكية أسهم الشركة إلى مستثمرين أميركيين، فرفعت الشركة عدة دعاوى قضائية في عدة ولايات، كان أهمها القضية التي قيدت باسم "تيك توك" ضد الرئيس ترمب، أمام المحكمة الابتدائية الأميركية لمقاطعة كولومبيا بواشنطن العاصمة، وطلبت فيها إلغاء ذلك القرار لعدم دستوريته ومخالفته للحقوق والحريات والضمانات الواردة بالتعديل الأول من الدستور الأميركي والذي تضمّن حرية إبداء الرأي والتعبير وحرية الصحافة، وكذا صدور القرار مشوبا بعيب التعسف وإساءة استخدام السلطة، إلا أنه بعد فوز الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية 2020 أصدر قرارا في يوليو 2021 بسحب وإلغاء هذا القرار، بناء على ذلك اتفق طرفا الدعوى على التنازل عن السير في الخصومة، ومن ثم حكمت المحكمة بانتهاء الخصومة في الدعوى.

أ.ف.ب
الرئيس التنفيذي لشركة تيك توك شو زي تشيو، في حفل تنصيب دونالد ترامب

السوابق القضائية للمحكمة العليا الأميركية

من الواضح أن إدارة الرئيس بايدن قد استشعرت أن قرار ترمب بحظر "تيك توك" استنادا إلى قانوني التجارة مع العدو والسلطات الاقتصادية في حالات الطوارئ، كان مرجحا إلغاؤه أمام المحكمة، ومن ثم بادرت بسحبه وإلغائه من تلقاء نفسها، وكان السبب في ذلك هو أن المحكمة العليا الأميركية سبق وأن أرست مبدأ قضائيا في "قضية شركة يانغستون للألواح المعدنية والأنابيب ضد وزير التجارة تشارلز سوير والمعروفة بقضية الاستيلاء على الصلب" عام 1952، وتعود تفاصيل هذه القضية إلى أنه وأثناء خوض الولايات المتحدة للحرب الكورية (1950-1953) حاول الرئيس هاري ترومان تثبيت أجور العاملين في صناعة الحديد والصلب نظرا لظروف الحرب، إلا أن اتحاد عمال الحديد والصلب الأميركي رفض هذه المحاولات، وبادر بالدعوة إلى إضراب عام للعمال في المصانع لزيادة الأجور.

من الواضح أن إدارة الرئيس بايدن استشعرت أن قرار ترمب بحظر "تيك توك" استنادا إلى قانوني التجارة مع العدو والسلطات الاقتصادية في حالات الطوارئ، كان مرجحا إلغاؤه أمام المحكمة، ومن ثم بادرت بسحبه وإلغائه من تلقاء نفسها

وقد بادر الرئيس ترومان بإصدار قرار رئاسي بالاستيلاء على مصانع الحديد والصلب بصفة خاصة لمنع الإضراب، ضمانا لسير العمل في المصانع بانتظام واضطراد، كما وصفه الرئيس ترومان أثناء تبرير إصداره بأنه "عمل مؤقت، ضروري ولازم لتنفيذ البرامج التشريعية الضرورية لبقاء الأمة"، وقد حكمت المحكمة العليا بعدم دستورية هذا القرار، وقضت بإلغائه استنادا إلى أن الرئيس قد تجاوز سلطاته الدستورية التنفيذية حين أصدر هذا القرار دون الاعتماد على تفويض تشريعي مباشر من الكونغرس، بل اعتمد على مجمل سلطاته الواردة في المادة الثانية من الدستور كرئيس للجمهورية وقائد أعلى للقوات المسلحة. ومن ثم ارتأت إدارة الرئيس بايدن سحب قرار الرئيس ترمب لا سيما أن ظروف إصداره لا ترقى إلى الظروف نفسها التي صدر فيها قرار الرئيس ترومان بشأن مصانع الحديد والصلب في زمن الحرب.

قانون حماية الأميركيين من التطبيقات الخاضعة لسيطرة الخصوم الأجانب

نتيجة لما سبق انتبهت إدارة الرئيس بايدن في أواخر فترته الرئاسية لخطورة الفراغ التشريعي الذي يسمح للتطبيق بالاستمرار في الولايات المتحدة دون تدخل من الدولة، لا سيما بعد ورود تقارير ومعلومات استخباراتية من مدير الاستخبارات الوطنية (DNI) تفيد باستهداف حسابات صينية على تطبيق "تيك توك" لبعض المرشحين ضمن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بمجلسيه عام 2024 والتأثير عليهم وعلى قاعدة ناخبيهم والتجسس على بياناتهم الشخصية.

وبناءعلى ذلك، تقدم النائب الجمهوري مايك غالاغير، عضو مجلس النواب عن ولاية ويسكنسن بمقترح لمشروع القانون، وتمت مناقشة المقترح في مجلس النواب خلال شهر مارس/آذار 2024، وأقر مجلس النواب مشروع القانون، ثم وافق عليه مجلس الشيوخ، وصدر القانون بأغلبية المجلسين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري خلال شهر أبريل/نيسان، ووافق الرئيس بايدن على القانون ووقع عليه بتاريخ 24 أبريل 2024.

أ.ف.ب

ومن ثم رفعت الشركة دعوى قضائية قيدت باسم "تيك توك" ضد ميريك غارلاند وزير العدل والنائب العام للولايات المتحدة، أمام محكمة الاستئناف الأميركية لمقاطعة كولومبيا بواشنطن العاصمة في مايو/أيار 2024، وخلال شهر ديسمبر/كانون الأول تقدمت الشركة بطلب لوقف تنفيذ القانون ووقف الدعوى تعليقا لحين فصل المحكمة العليا في دستورية القانون، إلا أن المحكمة رفضت ذلك الطلب وقضت برفض الدعوى، وبناء على ذلك طعنت الشركة على هذا الحكم أمام المحكمة العليا الأميركية وقد نظرت المحكمة القضية يوم 10 يناير/كانون الثاني، وأصدرت حكمها في يوم 17 من الشهر ذاته، وبهذا تكون السلطات الأميركية الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، قد اجمعت على أهمية إصدار هذا القانون للتصدي لمخاطر التطبيق على حد تعبيرهم واعتقادهم.

وبعد صدور الحكم مباشرة صرحت الشركة قبل تنصيب الرئيس المنتخب ترمب بيوم واحد بأنها امتثالا لحكم المحكمة العليا ستقوم بإغلاق التطبيق وحذفه من موقع "آب ستور" التابع لشركة "آبل"، وموقع "غوغل بلاي" التابع لشركة "غوغل"، إلا أن الرئيس ترمب أصدر يوم تنصيبه أمرا تنفيذيا وفقا للتفويض التشريعي الممنوح له من الكونغرس بموجب القانون الجديد، يُسمح بمقتضاه للتطبيق بالعمل لمدة 75 يوما على الأقل لحين توفيق أوضاعه، وبيع أغلب ملكية أسهم الشركة إلى مستثمرين أميركيين.

وفي أعقاب ذلك بادرت شركة "هانجتشو ديب سيك" للذكاء الاصطناعي المحدودة، المالكة لأداة الذكاء الاصطناعي "ديب سيك"، بإطلاق أحدث إصداراتها(DeepSeek R1) والذي أوقع زلزالا في الأسواق المالية الأميركية، فكبد الأسواق المالية الأميركية خسارة في يوم واحد تقارب التريليون دولار، منها 600 مليار دولار فقط خسارة لعملاق الرقائق الإلكترونية شركة "إنفيديا"، وهو ما اعتبره البعض الرد الصيني على إقرار الولايات المتحدة لقانون حماية الأميركيين من التطبيقات الخاضعة لسيطرة الخصوم الأجانب، وإيذانا باندلاع الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين على أصعدة أخرى.

font change