تعريفات ترمب الجمركية: نزعة حمائية أم ورقة تفاوضية؟

زمن المعاملة بالمثل ... خيارات رد قاسية للصين وآخرون ليس أمامهم إلا الرضوخ

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
خط إنتاج لتصنيع ألواح للطاقة الشمسية، في جيانغسو شرق الصين، 3 سبتمبر 2024

تعريفات ترمب الجمركية: نزعة حمائية أم ورقة تفاوضية؟

ترامت إلى مسمعي ردود فعل مندهشة بين الجمهور في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس الشهر الماضي عندما ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب كلمة عبر الفيديو، كرّر فيها عزمه فرض تعريفات جمركية تبلغ 25 في المئة على كندا مع طرح لتجنب ذلك: "في إمكانكم دائما أن تصبحوا ولاية. إذا كنتم ولاية، لن يكون لدينا عجز ولن نضطر لفرض تعريفات جمركية عليكم".

وقد زعم ترمب مرات عدة أن "التعريفة الجمركية" هي كلمته المفضلة، ووسع في كلمته أمام القادة السياسيين ورجال الأعمال في دافوس نطاق تهديداته ليشمل اقتصادات أخرى، قائلا إن الطريقة الوحيدة لتجنب التعريفات هي تصنيع المنتجات في الولايات المتحدة. وأضاف: "إذا لم تصنعوا منتجاتكم في أميركا، وذلك حقكم، فسيتعين عليكم ببساطة أن تدفعوا تعريفات جمركية".

فهل يوشك العالم على دخول حقبة جديدة من السياسات الحمائية؟

بعض التعريفات قد يكون مجرد ورقة مساومة يستخدمها ترمب في المفاوضات، في حين قد يكون الهدف النهائي لبعضها الآخر تعزيز الاقتصاد الأميركي. وفي الحالة الأخيرة، قد يأتي ذلك على حساب الشركات أو المستهلكين في البلاد

يحتار المحللون في آرائهم في شأن ما قاله ترمب حتى الآن، ويؤجلون إصدار أحكامهم حتى يروا الإجراءات التجارية النهائية الفعلية التي سينفذها. ويقول دوغلاس رديكر، وهو زميل أول في "معهد بروكنغز"، إن بعض التعريفات المذكورة قد يكون مجرد ورقة مساومة يستخدمها ترمب في المفاوضات، في حين قد يكون الهدف النهائي لبعضها الآخر تعزيز الاقتصاد الأميركي. وفي الحالة الأخيرة، قد يأتي ذلك على حساب الشركات أو المستهلكين في البلاد، لكن يبدو أن الرئيس مستعد لقبوله.

يبدو أن هذين التكتيكين قيد التنفيذ في ما يتعلق بكندا والمكسيك. فالولايات المتحدة تضغط على المكسيك لبذل مزيد من الجهود في مكافحة تجارة المخدرات، ويمكن القول إنه يمكن تخفيف حدة تهديدات ترمب باتخاذ إجراءات ملموسة في هذه المسألة. وفي حالة كندا، يبدو ترمب أكثر إصرارا على خفض العجز التجاري القائم.

رويترز
السياج الفاصل بين حدود المكسيك والولايات المتحدة، 5 فبراير 2025

أيا تكن أهدافه النهائية، فإن صناعة السيارات هي الهدف الرئيس لأي تعريفات ستؤثر على اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا. وتضم شركات صناعة السيارات الأميركية التي ستراقب الأمر عن كثب، "جنرال موتورز" و"فورد" و"ستلانتس"، التي لديها بنية تحتية تصنيعية كبيرة في إحدى الدولتين المجاورتين أو كلتيهما. لكن ستتأثر شركات أخرى أيضا، مثل "تويوتا" و"هوندا"، التي تحصل على قطع مهمة من كندا أو المكسيك قبل بيع المنتج النهائي في الولايات المتحدة.

في غضون ذلك، يقال إن كندا تدرس فرض تعريفات مضادة تزيد قيمتها على 145 مليار دولار أميركي، ويمكن أن يصبح نحو ربعها نافذا خلال شهر من إعلانها. وتشمل القائمة المستهدفة مجموعة واسعة من المنتجات، من عصير البرتقال إلى المنتجات الخزفية كأحواض الغسيل والمراحيض. وتحرص الخطة أيضا على التأثير على الصناعات الأميركية الكبرى من خلال الحد من تصدير مدخلات حيوية مثل الألمنيوم والليثيوم والبوتاسيوم أو منعها. ولكن ستيفن غلوبرمان، زميل "معهد فريزر"، يقول: "مع أن الكنديين ربما يشعرون بالرضا عن الرد بالمثل على تنمّر ترمب واستفزازاته التجارية، فإن ذلك قد يزيد الوضع سوءا في الاقتصاد الكندي"، لأن التكاليف ستنتقل إلى المستهلكين. كما أن موارد الطاقة الكندية الحيوية مثل الغاز غير جاهزة بعد لإيجاد أسواق أخرى، إذ تفتقر إلى البنية التحتية اللازمة لتسييل الغاز وشحنه إلى أوروبا أو أي مكان آخر.

ليس هناك أحد منتصرا من حرب تجارية. التصعيد المتبادل المستمر بين الولايات المتحدة والصين يضع ضغوطا كبيرة على الاقتصاد الأميركي، فيرفع التكاليف، ويقوض الاستثمار، ويحدث اضطرابا في الأسواق

غرفة التجارة الأميركية

ربما دفع إدراك رئيس الوزراء الكندي المستقيل، جاستن ترودو، لهذا الواقع إلى تغيير لهجته في رده العلني، لافتا انتباه ترمب إلى أن الولايات المتحدة تحقق فائضا تجاريا مع بلاده في مجال التصنيع، وأن المستهلكين الكنديين يشترون "سلعاً أميركية الصنع تفوق ما تشتريه الصين واليابان وألمانيا مجتمعة". وأضاف أن كندا تمتلك جميع الموارد التي يمكن أن تساعد في بدء "العصر الذهبي" للولايات المتحدة الذي يسعى ترمب الى تحقيقه، وبخلاف ذلك سيتعين على ترمب الحصول على تلك الموارد من روسيا أو الصين أو فنزويلا.

ربما يتغير رد أوتاوا مع اقتراب موعد الانتخابات في كندا، ولا يزال عدم اليقين يخيم على مستقبل التجارة في أميركا الشمالية.

رد الصين المحتمل

هناك لاعب عالمي آخر على دراية واسعة باستخدام ترمب للتعريفات الجمركية أداة للنفوذ، وهو الزعيم الصيني شي جين بينغ. فبين عامي 2018 و2020، خلال ولاية ترمب الرئاسية الأولى، اندلعت حرب تجارية بين البلدين اتخذت فيها مجموعة من الإجراءات الانتقامية المتبادلة. وفي يناير/كانون الثاني 2019، بعد ستة أشهر من إطلاق التعريفات الجمركية الأولى، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن فائض تجارة الصين مع الولايات المتحدة بلغ رقما قياسيا يزيد على 323 مليار دولار. وفي وقت لاحق من ذلك العام، وقع شي جين بينغ صفقة بقيمة 40 مليار يورو مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في إشارة إلى ترمب بأن هناك دائما أسواقا أخرى متاحة أمام الدولة الصناعية الآسيوية الرائدة. غير أن النمو الاقتصادي في الصين أظهر علامات على التباطؤ.

.أ.ف.ب
شاحنة تحمل بضائع في ميناء ليانجانغ شمال الصين، 5 فبراير 2025

وفي أغسطس/آب 2019، أصدرت غرفة التجارة الأميركية بيانا كشف عن نقاط الضعف في الموقف الأميركي. وأكد البيان: "أن ما من أحد يخرج منتصرا من حرب تجارية. التصعيد المتبادل المستمر بين الولايات المتحدة والصين يضع ضغوطا كبيرة على الاقتصاد الأميركي، فيرفع التكاليف، ويقوض الاستثمار، ويحدث اضطرابا في الأسواق".  

في نهاية المطاف، انتهت تلك الدراما بالتوصل إلى اتفاق المرحلة الأولى بين الولايات المتحدة والصين الذي وقعه الرئيس الأميركي ونائب رئيس الوزراء الصيني ليو هي في العاصمة واشنطن في يناير/كانون الثاني 2020. وأدى تفشي جائحة "كوفيد-19" إلى إعفاءات متبادلة في التعريفات الجمركية بين البلدين.

من الوسائل التي قد تستخدمها الصين، إضعاف عملتها، وهو أسلوب استخدمه شي جين بينغ سابقا. لكن هناك أدوات أكثر تأثيرا يمكن أن يستخدمها الرئيس الصيني. ففي وسع الصين الحد من تصدير المعادن الحيوية أو منعه

يمتلك شي جين بينغ هذه المرة خيارات مختلفة في جعبته. وأول الأخبار السارة لبكين أن ترمب يتحدث الآن عن تعريفات بقيمة 10 في المئة بدلا من الـ60 في المئة التي أشار إليها قبل توليه منصبه. ومن الوسائل التي قد تستخدمها الصين لتخفيف أثر ذلك، إضعاف عملتها، وهو أسلوب استخدمه جين بنغ سابقا.

لكن هناك أدوات أكثر تأثيرا يمكن أن يستخدمها الرئيس الصيني. ففي وسع الصين الحد من تصدير المعادن الحيوية أو منعه، وهو ما يمكن أن يحدث مشاكل كبيرة للصناعة الأميركية، إذا اجتمع مع حظر مماثل من كندا. وبالنظر إلى اتساع نطاق قطع ومكونات المنتجات الأميركية التي تأتي من الصين، فقد يكون لذلك مزيد من التداعيات على مجموعة كاملة من المصنعين والمستهلكين على طول سلسلة القيمة.

رويترز
المهاجرون المبعدون من الولايات المتحدة الأميركية ينزلون من طائرة تابعة للقوات الكولومبية في مكان غير معروف، 28 يناير 2025

وأشار تقرير أجرته "سي. إن. إن." لما يمكن أن يعنيه ذلك بالنسبة الى المستهلك الأميركي العادي، إلى أن أكثر فئات السلع الواردة إلى الولايات المتحدة من الصين هي معدات الاتصالات (12 في المئة من الواردات، أو ما يعادل 47 مليار دولار)، والحواسيب أو الأجهزة ذات الصلة (نحو 10 في المئة من الواردات، أو ما يعادل 39 مليار دولار). وتأتي في المرتبة الثالثة فئة "السلع المتنوعة" التي تشمل الألعاب والمجوهرات والمعدات الرياضية وغيرها. ويمكن أن يتوقع المستهلكون أن ترتفع تكلفة كل هذه السلع، ويرتبط هذا التغيير فعليا بالأثر التراكمي لتعريفات ترمب الجمركية والإجراءات المضادة التي تتخذها الصين.

هل ستتأثر الهند؟

تتمتع الهند حاليا بفائض تجاري مع الولايات المتحدة يبلغ نحو 35 مليار دولار. وكان وزير الخارجية الهندي سوبرامنيام جايشانكار جالسا في الصف الأمامي في أثناء تنصيب ترمب، فيما يناقش زملاؤه في نيودلهي على الأرجح السيناريوهات المحتملة للسياسة التجارية للرئيس الجديد.

وذكرت "رويترز" بعيد تنصيب ترمب أن النهج الذي ستتبعه الهند يشمل خطوات مثل شراء مزيد من النفط والغاز الأميركي، وتلك خطوة قد تشكل دفعا مرحبا به لطموحاتها في شأن النمو الصناعي. كما أن ملاحظات ترمب في دافوس في شأن الحاجة إلى خفض أسعار النفط تمثل خبرا سارا لرئيس الوزراء ناريندرا مودي في هذا الصدد. فقد استفادت الهند من إمدادات النفط الروسي بأسعار مخفضة منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن شراء حصة أكبر من الولايات المتحدة سيكون حلا مرحبا به إذا عنى تجنب التعريفات الخطيرة التي ستفرضها إدارة ترمب.

في حالة الصين، ترمب "يفضل عدم استخدام" العقوبات، موحيا بأن هناك بعض الأشياء التي يمكن أن يقوم بها الطرف الآخر لكي يعيد النظر في موقفه

وتسعى الحكومة الهندية إلى ترتيب اجتماع مبكر بين رئيس الوزراء ناريندرا مودي والرئيس ترمب، حيث انخفض مؤشر "سنسكس" الهندي 1,6 في المئة كرد فعل على تصريحات الأخير في شأن جعل التعريفات الجمركية مكونا رئيسا في سياساته.

عصر الحمائية أم المفاوضات الصعبة؟

يستطيع كل من يعرف شيئا عن دونالد ترمب أن يؤكد صورته التي أعلنها بنفسه بأنه صانع صفقات. فلم يعد شخصية مجهولة بعد انتهاء ولايته الرئاسية الأولى، مع أنه لا يزال هناك قدر كبير من عدم القدرة على التنبؤ بأفعاله. غير أنه من المرجح أن يكون بعض تصريحاته في شأن التعريفات الجمركية الموجهة إلى الاقتصادات العالمية مجرد خطوة افتتاحية لمفاوضات أوسع نطاقا.

على سبيل المثل، في حالة الصين، أشار ترمب بالفعل إلى أنه "يفضل عدم استخدام" العقوبات، موحيا بأن هناك بعض الأشياء التي يمكن أن يقوم بها الطرف الآخر لكي يعيد النظر في موقفه. وذكر أيضا "التعريفات الجمركية الضخمة" بوصفها أداة لإجبار روسيا على إنهاء الحرب في أوكرانيا، على الرغم من عدم التوصل إلى اتفاق واضح بين الجانبين حتى الآن. وأبرز دليل على أن استخدامه التعريفات الجمركية أداة للتفاوض هو المواجهة القصيرة مع كولومبيا في عطلة نهاية الأسبوع الأخير من شهر يناير/كانون الثاني.

.أ.ب
شاحنات تعبر الجسر الذي يربط بين كندا والولايات المتحدة الأميركية، ديترويت، 3 فبراير 2025

وقد أصدر ترمب أمرا ينص على فرض تعريفات جمركية بقيمة 25 في المئة على جميع السلع الكولومبية بعدما منعت كولومبيا رحلتين لطائرتين عسكريتين أميركيتين لترحيل اللاجئين من الهبوط في البلاد. وقد هدد الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو في البداية بفرض تعريفات جمركية مضادة، لكنه تراجع لاحقا وقبل جميع مطالب ترمب، مما دفع البيت الأبيض إلى إلغاء التعريفات الجمركية المزمع فرضها. لذا من الواضح أنها عصا يخطط ترمب لاستخدامها كثيرا.

وفي الوقت نفسه، استخدم ترمب خطاب تنصيبه هذا العام لإعادة تأكيد خططه في شأن إنشاء "خدمة الإيرادات الخارجية"، التي قال إنها ستؤدي إلى تدفق "كميات ضخمة من الأموال" إلى الخزانة الأميركية.

هل يخاطر برأسماله السياسي بتقديم هذا التعهد أو يتراجع عن وعده بخفض الأسعار للمستهلكين الأميركيين لأن التعريفات الجمركية ربما ترفع تكاليف معيشتهم؟ وهل يدفع بأجندة أوسع لتعزيز دور الولايات المتحدة على الساحة العالمية؟ الوقت كفيل بكشف ذلك، ولمعرفتنا بدونالد ترمب، ربما تأتي الإجابات عاجلا وليس آجلا.

font change

مقالات ذات صلة