ترمب وغزة... أوهام الترانسفير والوقائع المنقوصة

الرئيس الأميركي يرى العالم وضمنه غزة عقارا للاستثمار

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رجل يرفع العلم الفلسطيني أثناء مشاهدته عودة النازحين إلى شمال غزة عبر ممر نتساريم

ترمب وغزة... أوهام الترانسفير والوقائع المنقوصة

لا يوجد خطوط سياسية حمراء لدى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ولا احترام لقيم أخلاقية، ولا لتاريخ بشر، ولا لنمط حياة لمجتمعات، أو لسيادات دول. يتساوى عنده في ذلك، إلى حد ما، أصدقاء أميركا مع منافسيها أو أعدائها، فقط إسرائيل هي المستثناة من ذلك التعميم أو العماء المريع لرئيس أهم وأقوى دولة في العالم، والذي يظهر على شكل رجل مهووس أو مجنون مع غطرسة تنم عن روح عنصرية واستعلائية وخيال مريض.

في الواقع، فإن ترمب يتعامل مع العالم كرئيس لشركة قابضة، عملها الاستثمار وجني الأموال وتقاسم الأرباح مع الشركات، أو الدول الأخرى، بل وفرض الضرائب عليها، وليس كرئيس دولة مسؤولة، ضاربا عرض الحائط بأسس الليبرالية الاقتصادية، القائمة على حرية السوق وإزالة الحدود أمام حرية التجارة، في انقضاض على كل مسارات العولمة التي فرضتها الولايات المتحدة قبل ثلاثة عقود، بفضل قوتها التكنولوجية والعلمية والاقتصادية، وبحكم التطور الهائل في وسائل الاتصال.

ومعلوم أن ذلك يشمل أيضا النأي بالولايات المتحدة عن مسؤوليتها كدولة كبرى إزاء المنظمات الأممية مثل اليونسكو، والأونروا، والاتفاقات المتعلقة بالبيئة، والمنظمة الأميركية للتنمية الدولية، إلى حد التهديد بقطع التمويل عن هيئة الأمم المتحدة، التي مقرها في نيويورك، والتي تجسد أحد معالم قوة الولايات المتحدة، وهيمنتها على العالم!

أيضا، يبدو أن ترمب يواصل في مهنته الجديدة، كرئيس، مهنته الأصلية كمستثمر في العقارات، وهذه المرة، في نظرته إلى خريطة العالم، وتحديده أماكن الاستثمار المربحة، على مثال كشفه عن الموقع الاستراتيجي والجميل والحساس لقطاع غزة، ووعده بتحويله إلى ريفييرا ساحرة، بعد التخلص من سكانه، وهو في ذلك يتماثل مع رغبته في الاستيلاء على جزيرة غرينلاند من الدنمارك، واستعادة قناة بنما للسيطرة الأميركية، بل وضم كندا إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الحادية والخمسين، مع تفصيل "بسيط" يتمثل في إجراء عملية "ترانسفير"، أو بتر، في غزة، يجري بمقتضاها نقل فلسطينيي غزة، المليونين، إلى منطقة أخرى، أو بلد آخر.

القصة أننا لسنا إزاء رئيس متغطرس فقط، وإنما رئيس لا يبدي أي حساسية للبشر وللتاريخ، وللثقافة، وهو في حقبة رئاسته الأولى (2017-2021)، أبدى دعما غير محدود لإسرائيل، إلى حد أنه تجاوز كثيرا من السياسات، ولو النظرية، لأسلافه، وضمن ذلك تنصله من التزامات بلاده إزاء اتفاق أوسلو، الذي وقع في البيت الأبيض في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون (1993) قبل ثلاثة عقود، وشرعنته استيطان إسرائيل في الضفة الغربية، والاعتراف بضم إسرائيل للجولان السورية، ونقله السفارة الأميركية إلى القدس، باعتباره لها عاصمة موحدة لإسرائيل، وقطعه المساعدات عن السلطة الفلسطينية، وصولا لإغلاق مكتب "منظمة التحرير الفلسطينية" في واشنطن، ودعمه كل سياسات إسرائيل إزاء الفلسطينيين.

السياسات والمواقف التي يتخذها ترمب في بداية حقبته الثانية، هي بمثابة استمرار للنهج الذي يعتقد به، والذي يتأسس على شطب الفلسطينيين من كل المعادلات السياسية

القصد من ذلك تأكيد أن السياسات والمواقف التي يتخذها ترمب، في بداية حقبته الثانية، هي بمثابة استمرار للنهج الذي يعتقد به، والذي يتأسس على شطب الفلسطينيين من كل المعادلات السياسية، في تساوق مع حكومة المتطرفين في إسرائيل (نتنياهو وسموتريتش وبن غفير)، وهذا ما يتمثل في منح إسرائيل كل ما تريده من أسلحة، دون أي عراقيل أو معايير، وفي شرعنة أو تفهم قيام إسرائيل باستئناف حرب الإبادة التي شنتها على قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول (2023)، والتي حولت غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش، وصولا إلى تصريحاته عن فرض السيطرة الأميركية على قطاع غزة، وتحويلها إلى "ريفييرا" الشرق الأوسط، ونقل سكانها إلى مصر والأردن، ودول أخرى، كأنهم بضاعة تُنقل.

اللافت أن ترمب يروج لفكرته الخرقاء كخدمة إنسانية تفيد بإيجاد حياة لائقة للفلسطينيين تنقذهم من الموت والدمار الذي يبدو عنده كأنه قدر للفلسطينيين، بقوله: "لا أعتقد أن الناس يجب أن يعودوا (إلى غزة). لا يمكنك العيش في غزة الآن. أعتقد أننا بحاجة إلى موقع آخر. أعتقد أنه ينبغي أن يكون موقعا يجعل الناس سعداء... عندما تنظر إلى العقود الماضية، فإن كل ما تراه في غزة هو الموت. لقد كان هذا يحدث منذ سنوات... ماذا لو استطعنا إيجاد منطقة جميلة لإعادة توطين الناس بشكل دائم في منازل جيدة، حيث يمكنهم أن يكونوا سعداء، ولا يتعرضون لإطلاق النار أو القتل مثلما يحدث في غزة".

شرعنة حرب الإبادة الإسرائيلية

هكذا، فإن ترمب، من خلال تصريحاته، يحاول أن يضفي نوعا من شرعية على ما تقوم به إسرائيل من جرائم حرب، ويتعامل مع النتيجة وليس مع السبب، وهو في ذلك يتساوق تماما مع هدف نتنياهو وسموتريتش وبن غفير بالتخلص من الفلسطينيين في قطاع غزة، وهو الهدف الأساسي من حرب الإبادة التي شنتها حكومتهم المتطرفة على فلسطينيي غزة، بدعوى القضاء على قدرات "حماس" العسكرية، وكرد على عملية "طوفان الأقصى". والأخطر من كل ذلك، أيضا، أن مخطط ترمب هذا يشمل الضفة الغربية، إذ كشف في تصريحاته أن إدارته "ستصدر قرارا قريبا بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة ستقر بسيادة إسرائيل على الضفة الغربية من عدمه، وأن مساحة إسرائيل جد صغيرة"!

أ.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال المؤتمر الصحافي المشترك في البيت الأبيض بواشنطن في 4 فبراير 2025

ناحية ثانية لافتة في خطة ترمب، أو تخيلاته، تفيد بإمكان جر كثير من الدول العربية إلى هذا المربع، أي مربع تهجير الفلسطينيين من بلادهم، بدعوى تقديم الدعم لها لتحسين أوضاعها الاقتصادية والمعيشية، والقصد هنا مصر والأردن، اللتان سارعتا للإعراب صراحة، وبلغة حاسمة، عن رفض هذه الخطة، وهو الموقف الذي لاقى دعما مطلقا من المملكة العربية السعودية، التي أعادت التجديد على موقفها بخصوص أن لا علاقة مع إسرائيل قبل إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة عام 1967، علما أن هذا الموقف لقي مساندة دولية من الدول الغربية الكبرى، وضمنها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، التي استهجنت خطة ترمب.   

وربما يجدر لفت الانتباه هنا إلى أن تصريحات ترمب بشأن غزة، ليست جديدة إذ أتت سابقا، على لسان صهره (ومستشاره ومبعوثه إلى الشرق الأوسط سابقا) جاريد كوشنر، الذي كان قد دعا إلى التطهير العرقي للفلسطينيين، بنقل سكان غزة إلى النقب بسبب "القيمة العالية" لعقارات ساحل القطاع، وذلك في فعالية أقيمت في 8 مارس/آذار 2024 بجامعة هارفارد.

تصريحات ترمب بشأن غزة، ليست جديدة إذ أتت سابقا، على لسان صهره (ومستشاره ومبعوثه إلى الشرق الأوسط سابقا) جاريد كوشنر، الذي كان قد دعا إلى التطهير العرقي للفلسطينيين، بنقل سكان غزة إلى النقب بسبب "القيمة العالية" لعقارات ساحل القطاع

وعدا ذلك، فثمة كثير من المسؤولين في إدارة ترمب يبدون حماسة كبيرة لتلك الخطة، وضمنهم، مثلا، مايكل والتز مستشار الأمن القومي، وستيف ويتكوف المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، إذ يروج والتز لتلك الفكرة بدعوى تعذر إعادة إعمار غزة في ظرف خمس سنوات، وأن ذلك يتطلب 15 عاما، ما يتطلب عنده حلا آخر يقضي بنقل سكان غزة. أما ويتكوف فيقول: "في مدينة بالولايات المتحدة، لو كان الضرر يعادل 1 في المئة مما رأيته في غزة، فلن يُسمح لأحد بالعودة إلى منزله. هذا هو مدى خطورة الأمر... هناك 30 ألف ذخيرة غير منفجرة. إنها المباني التي قد تنهار في أي لحظة. لا توجد أي مرافق هناك، لا مياه صالحة للشرب ولا كهرباء ولا غاز، ولا شيء. الله وحده يعلم أي نوع من الأمراض قد يتفاقم هناك... لذا، عندما يتحدث الرئيس عن تنظيفها، فهو يتحدث عن جعلها صالحة للسكن، وهذه خطة طويلة المدى".

بديهي أن نتنياهو رحب بتصريحات ترمب، المفاجئة له، والتي تتساوق مع أحلامه، ومع سياسته إزاء الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، وهو ما عبر عنه بمديح الرئيس الأميركي، الذي "يفكر من خارج الصندوق"، على حد تعبيره، وهو ما انطبق على سموتريتش وبن غفير، اللذين رأيا فيها فرصة تاريخية لإسرائيل، لوأد فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة وتهجير الفلسطينيين، بل إن باقي الطيف الإسرائيلي، من اليمين المعارض، كبيني غانتس (المعسكر الوطني) وأفيغدور ليبرمان (إسرائيل بيتنا) وارييه درعي (شاس)، رحبوا بها أيضا.

في حين أبدت شخصيات إسرائيلية تحفظها على الفكرة، وعلى سياسة ترمب، التي يمكن أن تضع إسرائيل في دائرة الخطر مجددا، والتي قد تعرقل مسار انفتاح إسرائيل على الدول العربية. فبحسب موقع "معهد السياسة والاستراتيجية" الإسرائيلي، الذي يترأسه الجنرال عاموس جلعاد (رئيس الدائرة الأمنية والعسكرية في وزارة الدفاع الإسرائيلية سابقا)، فإن "مبادرة ترمب لنقل الفلسطينيين من غزة تثير معارضة واسعة النطاق في العالم العربي، وليس هناك أي فرصة لقبولها وتنفيذها. بل ربما يعرقل عملية بناء المحور الإقليمي، بسبب المكانة الخاصة التي تحتلها القضية الفلسطينية في العلاقات المعقدة بين إسرائيل والعالم العربي. ولذلك فإننا نوصي إسرائيل بإزالة هذه القضية من جدول الأعمال".

أما المحلل الإسرائيلي تسفي بارئيل، فحذر من المخاطر التي تترتب على خطة ترمب بقوله: "في مؤتمر قمة وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة، وقف أمامه (سور الدفاع) العربي. فقد أوضحوا له (ولجوقة المشجعين في إسرائيل) بأنه ليس فقط دولتا الهدف المباشرتان في خطة الترانسفير خاصته، مصر والأردن، لا يخطر ببالهما استيعاب فلسطينيين من غزة... السعودية، وقطر، والإمارات، مع مصر والأردن، تشكل المحور المؤيد لأميركا/ المناهض لإيران، وهو الأساس الذي تعتمد عليه أميركا وإسرائيل لتأسيس "حلف ناتو الشرق الأوسط"، رفضت بشكل حازم هذه الفكرة... أهمية مشهد التضامن في القاهرة، الذي وقفت فيه الدول العربية الغنية إلى جانب الأردن ومصر، كأنها أرادت القول إنه إذا كان ترمب يلوح بسوط المساعدات الاقتصادية فإنه سيكون هناك من يمكنه أن يحل محله... لا نحتاج إلى تخيل سيناريو أكثر خطورة مثل تجميد اتفاق السلام بين مصر والأردن والإمارات، وبين إسرائيل. ولكن إذا ظهر أن إسرائيل هي المسؤولة عن نكبة فلسطينية جديدة، فإن التطلع إلى إنشاء واقع جديد في الشرق الأوسط يمكن أن ينتقل إلى أرض الأحلام". (هآرتس- 3/2/2025)

أخيرا، خطة ترمب ليست فريدة في نوعها، إذ طرح في العقود الماضية كثير من خطط الترانسفير لفلسطينيي غزة، لكنها باءت بالفشل، وعل هذا هو نصيب خطة ترمب أيضا.

font change

مقالات ذات صلة