أميرة غنيم لـ"المجلة": أستلهم التاريخ التونسي لصناعة نص روائي تخييلي

نجاح دولي لـ"نازلة دار الأكابر" بعد نجاح عربي

Franco Origlia/Getty Images
Franco Origlia/Getty Images
الكاتبة التونسية أميرة غنيم

أميرة غنيم لـ"المجلة": أستلهم التاريخ التونسي لصناعة نص روائي تخييلي

بعد نجاحها في تونس والعالم العربي، تسجل رواية "نازلة دار الأكابر" (مسكيليانى/مسعى، 2020) للكاتبة والجامعية التونسية، أميرة غنيم، نجاحا جديدا على نطاق دولي، فقد فازت ترجمتها الفرنسية بجائزة الأدب العربي لسنة 2024 من "معهد العالم العربي" ومؤسسة "لاغاردير"، كما توجت المترجمة سعاد لعبيز مؤخرا بجائزة الترجمة "سنغور – ابن خلدون"، علما أن الرواية التي ترجمت أيضا إلى الإيطالية، كانت وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة "بوكر" سنة 2021 وحصلت على جائزة لجنة التحكيم "الكومار" التونسية سنة 2020.

تنغمس الرواية في التطور التاريخي والمجتمعي الذي عرفته تونس خلال القرن العشرين، انطلاقا من رسالة تصل في إحدى ليالي شتاء سنة 1935 إلى زبيدة رصاع، زوجة السيد محسن النيفر، من النقابي والمناضل التونسي الشهير الطاهر الحداد، الذي عمل مدرّسا لها. في هذه الرواية المتعددة الأصوات حيث تنقلب حياة عائلتي الأعيان (الرصاع والنيفر) رأسا على عقب جراء الحادثة، تساهم كل من الشخصيات في بناء الحبكة العامة، من خلال سرد قصة الرسالة من منظورها الخاص في تداخل مع قصتها الشخصية.

"المجلة" حاورت الكاتبة التونسية والأستاذة الجامعية في علم اللسانيات، أميرة غنيم، حول هذه الرواية ورحلة ترجمتها، وحول مشروعها السردي والفكري وعلاقته بحياتها الشخصية.

  • تحكي رواية "نازلة دار الأكابر" عن محنة تتمثل في اتهام زوجة ابن أحد أعيان تونس بعلاقة مع أحد أكبر المفكرين التونسيين والمدافع عن حقوق المرأة، الطاهر الحداد (توفي سنة 1935). هذه الواقعة خيالية بالطبع، فلماذا اخترت إقحام هذا المفكر في روايتك التاريخية؟

أعتقد أن حضور الطاهر الحداد في الرواية كان وليد شعور بالغبن في حق هذا المصلح التونسي الكبير لا سيما على إثر أحداث يناير/ كانون الثاني 2011. بقي في ذاكرتي، كما في ذاكرة التونسيين، مشهد قطع رأس التمثال التذكاري للطاهر الحداد بمسقط رأسه في بلدة الحامة، إلى جانب حادثة التعدي على ضريحه في مقبرة الجلاز بالعاصمة سنة 2012. في تلك الفترة، شعرت أن مكاسب الأسرة التونسية، والمرأة تحديدا، في خطر بعد المد التطرفي الذي شهدته البلاد.

حضور الطاهر حداد في الرواية كان شبحيا، فهو حاضر من خلال ما ترويه الشخصيات عنه ومن خلال ذاكرتهم، ولكنه غائب فعليا في النص

أعتقد أن الخوف من رؤية المجتمع التونسي يتقهقر إلى الوراء، رسب في لاوعيي لسنوات طويلة. طلبت مني مجلة عربية حينها أن أكتب مقالة في خصوص مسألة المساواة في الميراث بين المرأة والرجل التي كان اقترحها المرحوم الرئيس الباجي القايد السبسي مشروعا على مجلس النواب. أعلم طبعا أن هذه الفكرة تعود إلى الثلاثينات، وتحديدا إلى كتاب الطاهر الحداد، "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، فعدت إلى الكتاب، ولكن بحكم شغفي بالبحث، عدت إلى الأعمال الكاملة للطاهر الحداد لأكتشف أنه فضلا عن كونه مناضلا نقابيا ومصلحا يفكر في الشريعة الإسلامية، هو أيضا شاعر ليس شعره بجودة شعر أبي القاسم الشابي، لكنه شاعر يكتب في مواضيع النضال السياسي تحديدا، وضمن ما كتب، وقعت على مجموعة من الأبيات ضمنتها في آخر فصل من الرواية، يتحدث فيها الطاهر الحداد عن شيء يشبه القلق والألم والشوق من مخاطب يتوجه إليه بالخطاب، ويذكر لوعة فراقه والبعد عنه.

رواية "نازلة دار الأكابر"

بطريقة لا واعية، التأم ما ترسب في خاطري خلال السنوات الماضية من هذا الشعور بالخوف وبالغبن الذي لحق الطاهر الحداد، مع ما اكتشفته من هذا الجانب الشعوري الإنساني فيه، وعندها خطرت لي فكرة أن أكتب رواية عن قصة حب خيالية يفترض أن الطاهر الحداد عاشها، فنحن نعرف أنه مصلح اجتماعي اهتم بقضايا المرأة، لكننا لا نعرف شيئا عن حياته الشخصية وعن علاقته الحميمة بالمرأة.

بدأت القصة بهذه الطريقة، ولم أكن قد أدركت حينها مدى حضور الطاهر الحداد في الرواية. كانت الفكرة تتمثل في قصة حب خيالية، القصد منها نوع من الاعتراف بمركزية هذا الرمز الثقافي في الذاكرة الجماعية التونسية، لكنني في الوقت نفسه، كنت أريد أن أكتب رواية خيالية وليس تاريخية. فكرت بإحضاره وتغييبه في الوقت نفسه في الرواية، فكان حاضرا في النص باعتباره محور الأزمة، ولكن غائبا أيضا لأن الرواية تنطلق ليلة وفاته، فرسالته تصل إلى زبيدة، زوجة محسن النيفر، ليلة 7 ديسمبر/ كانون الأول 1935، وهي الليلة التي فارق فيها الحداد الحياة. ولذلك كان حضوره شبحيا إن صحت العبارة، فهو حاضر من خلال ما ترويه الشخصيات عنه ومن خلال ذاكرتهم، لكنه غائب فعليا في النص.

تعدد الأصوات

  •  تميزت روايتك بتعدد الأصوات، لكن يداخل القارئ شعور بأن أقرب الأصوات إليك هي الحفيدة هند التي درست في المدرسة العمومية التونسية لما بعد الاستقلال وفتحت عينيها على عالم كان محكوما بمجلة الأحوال الشخصية التي تعطي حقوقا مهمة للمرأة التونسية. ما مدى صحة هذا القول؟

لا شك أن القارئ سيجد شبها بين شخصية هند وبيني. نقاط التشابه كثيرة، فهي جامعية، وأنا كذلك، وهي ولدت حفيدة للطاهر حداد، مثلي ومثل بنات جيلي. ولكن في الحقيقة، فإن أقرب الشخصيات إلى قلبي وإلى نفسي وإلى ردود أفعالي، هي شخصية لويزة، الخادمة التي بدأ بها السرد والتي بقيت حاضرة على امتداد النص، فهي امرأة معمرة شهدت حادثة المحنة وبقيت بعدما رحل الجميع كي ترويها. هي الشخصية الأقرب إلي من الناحية العاطفية، وكانت الخطة السردية الأولى أن تتولى هي سرد الرواية كاملة، لكن من باب التوفيق أنني غيرت رأيي ووزعت السرد على شخصيات كثيرة، جميعها كانت شاهدة على تلك الليلة الشنيعة من شتاء 1935، وهذا ما أضفى تعدد الأصوات على الرواية.

المطلوب من الشخصيات المركزية أن تكون شخصيات نامية، تتغير وتتبدل ولكن في نطاق ما هو محتمل منها

في طبيعة الحال، عندما يستدعي الكاتب شخصية في الكتابة، فكل الشخصيات تشبهه وتختلف عنه في آن واحد. يستلهم من تجاربه الشخصية ومن تجاربه الحسية، من مشاعره ومن المحيط ومن علاقاته. جميع الشخصيات تشبهك بمقدار وتختلف عنك بمقدار، وتشبه كذلك من يحيطون بك وتختلف عنهم. المهم هو أن تبقى الشخصية منطقية من بداية النص إلى نهايته، إن كنا نحتاجها فعلا في السرد، فالمطلوب من الشخصيات المركزية أن تكون شخصيات نامية، تتغير وتتبدل ولكن في نطاق ما هو محتمل منها، وهذا البناء يقع تدريجيا.

WikiCommons
الطاهر الحداد

  •  قد يخشى أحيانا الكتاب التونسيون، والمغاربيون عامة، ألا تفهم عاميتهم في المشرق، فلا يكتبون إلا بالفصحى. أنت التقيت قراء عربا كثيرين خارج تونس، أذكر من بينهم لقاءك بقراء وقارئات من السعودية في مؤسسة "إثراء". كيف كان تلقيهم العامية التونسية في الرواية؟

في ما يخصني، مسألة الكتابة بالفصحى أو بالعامية/الدارجة هي مسألة حضارية أتعامل معها بجدية كاملة. أولا، من مسؤوليتي الحضارية أن أكتب باللغة التي تمثل هويتنا المشتركة، وأنا أسميها لغة مشتركة ولا أسميها لغة فصيحة، بمعنى أنها اللغة التي يفهمها العربي والمغربي والجزائري والأردني والسعودي والسوداني إلخ. ثانيا، باعتباري تونسية، يهمني أن يظهر في نصي كل ما له صلة بالمحلية التونسية، بما في ذلك الدارجة التونسية التي هي ابنة العربية وقريبة منها، فيهمني أن يظهر في النص الطابع المحلي الذي أبرزه في الأطعمة وفي الألبسة وفي المواد المكونة للتراث اللامادي وكذلك في اللسان الذي تتخاطب به الشخصيات.

من الناحية الإجرائية، كل الكلمات او التراكيب العامية التونسية المطابقة للعربية المشتركة، أضعها كما هي. مثال: في حوار بين الشخصيات قد تقول شخصية "شكرا" وقد تقول "بارك الله فيك" وهي عبارة متداولة في الدارجة التونسية ولكنها في الوقت نفسه عربية قحة، فأحاول دائما أن أنتخب الأشياء المشتركة بين الدارجة والعربية. من ناحية أخرى، هناك كلمات نستخدمها في الدارجة وهي موجودة في العربية، تلك أضعها أيضا، وما على من لا يعرفها إلا أن يلجأ إلى القاموس، وسيجدها. النوع الثالث هي العبارات من الدارجة التونسية التي لا مقابل لها في العربية وهي من أصل أمازيغي أو من الاختلاط بالإيطالية أو المالطية، وهذه أشرحها في الهامش، فلا يمكن القارئ العربي في النهاية أن يقول "لم أفهم". إن لم يفهم فهو لم يقم بالجهد المطلوب، وأنا أعول على ذكاء القارئ عند القراءة، وحتى في بنية النصوص. لا أكتب نصا سهلا وأطلب من القارئ أن يكون طرفا معي في القراءة وطرفا في الفهم ومحاولة الفهم.

تراب سخون

  •  صدر لك بعد "نازلة دار الأكابر"، رواية "تراب سخون" وهي رواية على لسان وسيلة بورقيبة، زوجة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وطليقته في وقت لاحق، وكنت أعلنت أيضا قرب صدور رواية بصوت الحبيب بورقيبة نفسه. هل انخرطت في مشروع روائي عن تاريخ تونس الحديث؟ ولماذا؟

هو مشروع سردي اختير عن وعي، ويتمثل في استلهام أجزاء من التاريخ التونسي لصناعة نص روائي تخييلي. ليست الرواية تاريخا، ويمكن تلخيص العقد السردي الذي يجمع الكاتب بالقارئ كالآتي: أكتب لك أمرا لم يقع، ولكن من المحتمل أن يقع أو أن يكون قد وقع. يتمثل مشروعي في استحضار مجموعة من الشخصيات التي كان لها تأثير في التاريخ التونسي وفي المجتمع التونسي، أي في التركيبة الحالية الذهنية والثقافية والفكرية لمجتمعنا كما نعرفه اليوم. هذه الشخصيات تستقدم إلى تربة التخييل ضمن خلفية تاريخية أحترمها وأشتغل عليها من خلال الوثائق وأحاول أن تكون صادقة ما أمكن، ولكن الأحداث التي تنسب إلى الشخصيات هي أحداث متخيلة، إذا تطابقت مع ما حدث في الواقع فهذه مصادفة، وإن لم تتطابق فالرواية لا تقول لك سوى أنها تقدم لك كلاما تخييليا.

لا أكتب نصا سهلا وأطلب من القارئ أن يكون طرفا معي في القراءة وطرفا في الفهم

الغاية من ذلك هي تمتين العلاقة بين الأجيال القادمة والرموز المكرسة في الذاكرة الوطنية لأن علاقة جيلي بالطاهر الحداد ستكون أقوى بكثير من علاقة جيل أبنائي بهذا المصلح، وعلاقة أحفادي ستكون أخفت. شيئا فشيئا، وبمرور الزمن، قد ننسى هذه الرموز الوطنية. فابنتي مثلا لا تعرف بورقيبة، تسمع عنه فقط بعض الأخبار. يجب التذكير بأنه بعد صعود بن علي إلى سدة الحكم سنة 1987، وقع إخفات حضور الحبيب بورقيبة حتى في برامج التعليم المتعلقة بالحركة الوطنية. لكن أعتقد أنه من المهم جدا أن تبقى لدى أجيال التونسيين على تعاقبهم، نفس المعرفة المحترمة التي كانت لجيل الرواد بهذه الرموز الوطنية. الرواية المشتغلة بالتاريخ تعطي الناس رغبة في أن يطلعوا على تاريخهم، ومن سيقرأ عن وسيلة بورقيبة، سيقرأ عن الحركة الوطنية وتاريخ تونس في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات، وهذا يذكي معرفة مهمة جدا حتى نفهم حاضرنا ونهيئ لمستقبلنا.

 AFP
الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة

  •  هل تحمي الرواية التاريخية الكاتب من التطرق إلى خصوصيته؟ هل تريدين مواراة عالمه الخاص وحمايته من الأعين، علما أنك بدأت برواية أولى غير تاريخية بعنوان "الملف الأصفر"؟

على المستوى الشخصي، بما أن الرواية لا تقر بأنها سيرة ذاتية، فهي تحمي العالم الشخصي للكاتب. يقرر الكاتب أن يكشف عن جانبه الحميم حين يقرر أن يكتب سيرته الذاتية، وحتى في هذه الحال، من المعروف أن الكتاب لا يقرون بغالبية ما يسوؤهم أو يعيبهم، والسيرة الذاتية تتميز عادة بمجموعة من الثغر التي يقفز عليها الكاتب، وذلك إما بسبب نقصان في الذاكرة أو بسبب الرقابة الذاتية.

سفر التونسيات إلى سوريا لشيء لم نتخيل أن نسمع به قط وهو ما سمي بـ"جهاد النكاح" أصابني بصدمة هوية

بما أنني لا أفكر بكتابة سيرة ذاتية، فكل ما أكتبه هو في الضرورة بعيد عن حياتي الشخصية سواء كانت رواية خيالية أو رواية تتضمن تفاصيل تاريخية. أعتقد أنني بعيدة عن شخصياتي وعن أجواء عالم الرواية، ولكن في طبيعة الحال، للقارئ فضول، فيمكن كل قارئ أن يتسلى بالبحث عن علاقات قد ينسجها ذهنه وخياله بين العالم الموصوف في الرواية وبين عالم الكاتبة، ولكن يمكنني أن أقول لك منذ الآن إنه بحث خائب لأنه لن يصل إلى شيء. كل ما أكتبه هو عالم من نسج خيالي، وإن كانت هناك صلة فهي كصلة أي كاتب مع شخصياته والعوالم التي يخلقها.

الأسئلة

  •  قلت في حوار سابق إنك تكتبين لأن في رأسك أسئلة تحاولين أن تجدي لها أجوبة. ما أبرز الأسئلة التي تجول بخاطرك؟

لو أصارحك بجميع الأسئلة فسأتوقف عن الكتابة. لا أصرح بالأسئلة التي في ذهني بل أحاول أن أجيب عنها بالكتابة. لكن، يمكنني أن أصرح بالسؤال الذي كان الحافز الأول للكتابة. بدأت الكتابة سنة 2015. كتبت رواية "الملف الأصفر" في 2015، ثم لم تصدر إلا سنة 2020. جاء السؤال بعد الثورة التونسية وما شهدته من تغير مذهل في التركيبة الاجتماعية والأشياء التي رأيتها والتي لم تكن تخطر لي على بال، مثل سفر التونسيات وهن حفيدات الطاهر الحداد، إلى سوريا لشيء لم نتخيل أن نسمع به قط وهو ما سمي بجهاد النكاح، أصابني حينها بصدمة هوية وكان السؤال الذي يؤرقني بسيطا جدا: "من نحن؟". من يكون هؤلاء التونسيون الذين ظلوا يصدقون لفترة طويلة أنهم في ريادة العالم العربي فكرا وحداثة وعلما، وكان يقع استحضارهم في كل مكان للنهوض بالمؤسسات التربوية والتعليمية والهندسية وغيرها؟ كيف يجدون أنفسهم في قائمة الإرهابيين؟ متى حدث ذلك؟ وما الذي يفسره؟ ومن هو التونسي؟ ومن أنا ضمن هؤلاء؟ كان الحافز في رواية "الملف الأصفر" أن حالة من الشيزوفرينيا أو الفصام المعمم أصاب التونسيين بعد 2011. ولهذا السبب أعتقد أن شخصية غسان في "الملف الأصفر" كانت مجنونة وذلك لمواكبة حالة الجنون المطلق الذي عشناه في تلك الفترة العصيبة من تاريخنا الوطني القريب.

font change

مقالات ذات صلة