"عورة في الجوار" لأمير تاج السر: قصة عشق تستكشف تحولات السودان

استكشاف لتغيرات القرى والتحاقها بعصر الحداثة

facebook
facebook
أمير تاج السر

"عورة في الجوار" لأمير تاج السر: قصة عشق تستكشف تحولات السودان

لا تخرج رواية الكاتب السوداني أمير تاج السر الجديدة "عورة في الجوار" عن الإطار الذي اتخذه لمعظم رواياته، وهو الكتابة عن المكان السوداني. لكنه بدا في هذه الرواية، راغبا في تقديم خلاصة سردية لأكثر ما يتميز به ناس هذا المكان. ففي 136 صفحة سنقرأ حياة محتشدة بشخوص تجمعهم قصص خاصة وأخرى مشتركة، فيظهرون وكأنهم في فرجة مسرح شامل اسمه السودان.

الرواية الصادرة أخيرا عن "نوفل" (دمغة الناشر هاشيت أنطوان) في بيروت، تتمحور قصتها حول سعيد الورّق، الشهير بـ"كلب الحر"، وهو نفسه تيس سليمان و"قائد أركان الهمج ومهراجا العشق والجنون". هو العورة التي ظلت مكشوفة خمسا وعشرين سنة، وكل الخطايا التي ينكرها الجميع، إذ يعلن "كلها سيئاتي". كما أنه، وهذا عماد الرواية، يجاهر بعشقه لـ الرمّانة العوض زوجة هارون مسلّم المهرج، مما يثير الكثير من الشائعات "في البدء ظنوه سكرانَ بعرق مركز، أو مغيّب الحواس بفعل مادة مخدرة استنشقها هنا أو هناك، لكن خبراء الحياة السفلى الذين كانوا حاضرين في تلك اللحظة، نفوا أي تورط للغيبوبة في ذلك الأمر. قالوا: واع وواع بشدة".

وإذ تنتشر القصة من خلال رسائل الغرام الوردية التي يتلوها على رأس عربته المزركشة كل يوم، تصبح مشروعا لفيلم سينمائي يحمل عنوان الرواية نفسه، لكنه لم يُنجَز قط بعدما قرر الكثيرون مقاطعته "لو جاء في السينما المتجولة".

سلطة وجماعات وقبائل

هناك أيضا شخصيات أخرى، لكل منها محورها وحكايتها. فالرمّانة العوض نفسها وزوجها هارون مسلّم نجدهما يوقّعان مع أبنائهما وجارهما، خياط العمائم والجلابيب الحسن بن زينب، ما سمّي بـ"الغضب"، وهو كما يبدو عريضة مقدمة الى الرئيس الجديد يهنئونه فيها "بانتصار البواسل، ودحرهم لمعاقل الفساد والرجعية والتآمر لنهب مقدرات هذه الأمة العظيمة".

هو العورة التي ظلت مكشوفة خمسا وعشرين سنة، وكل الخطايا التي ينكرها الجميع، إذ يعلن "كلها سيئاتي"

وإذ يبدي الرئيس اهتماما بالبيان ويشيد به ويتبنى مطالبه، إلا أنه "أعاد الحكم السابق بكل عمائمه وسراويله". هناك أيضا الفقيه داود أقرع "حافظ الذكر ومعلّمه وواضع نظرية: الضرب على الميت حرام"، والعمدة ضو البيت وابنته آمنة، التي ذهبت إلى العاصمة لتجدّد "الدمَ وتُطعم اللسان الثرثار بمفردات جديدة، تستخدمها لإبهار النساء في البلدة".

ومع الأفراد، هناك سلطة وجماعات وقبائل، فالسرد يُفتتح بالحكومة الجديدة بها، وينتهي بمثيلاتها، حيث "تسلّم مقاليد الحكم مواطنٌ بدماء مرّة ولحم خشن". يأتي من الحكومة ستة من العسكريين إلى الريف "تلهث من نظراتهم عادات الحروب الصعبة"، كانوا "لبنات في تلك الشقاوة التي تسلقها الرئيس حتى استقر في مقاليد الحكم". جنرالات وعسكر يتقصون ما يرونه مختلفا أو غير منسجم مع رؤاهم "حاول البعض إغراءهم بالكرم والذبائح المعروفة في الريف، فاعتذروا، وأخرجوا من وسط حاجياتهم سندوتشات رقيقة من البرغر والمرتديلا وجبنة كرافت. حاول البعض الآخر تليينهم بالمزاح ونكات السذاجة الريفية المتداولة، فتهامسوا في ما بينهم، ولامست أيديهم أسلحة من النار، كانت مخبأة تحت زيهم العسكري".

غلاف رواية "عورة في الجوار"

رابطة للكذب

كما سنجد صراعا بين قبيلتي السروراب والكتراب على فدان من الأرض منذ سنوات بعيدة، ووصفا لحماقة الجعليّين. ربما تكون هذه الطريقة معتادة في كثير من البلدان لوصف جماعات عُرفت بأنها منابع للتنكيت أو للسخرية، مثل الصعايدة في مصر والحماصنة في سوريا والذماريين في اليمن، والبريتونيين في فرنسا. إلا أننا هنا أمام حماقة مؤسسة، حسب الراوي "كانت حماقة الجعليّين تقليدا متوارثا في تلك القبيلة المرابطة في أواسط البلاد، ابتكره مؤسِّسوها، بثّوه في النُطَف والأرحام، وكل ما يخص القبيلة من أكل وشرب، وشراء وبيع، وزواج وطلاق وغناء ورقص وتجارة واستثمار. كانت زغرودة نسائية تكفي لدخول الجعليّ إلى نار متأججة، وكان غضب عارض يكفي لبتره إصبعا، وحتى يدا أو ساقا". وهو ما عمله ولد أقرع حين بتر إصبعه غضبا لأن فردة من الحذاء الطلياني الذي أهدي إليه، ضاقت على رجله. أو في استقبالهم للأحباش ظانين أنهم أحفاد الملك نمر، بعد أن لبسوا سراويل وقمصانا لا تُفصّل إلا في شندي والمتمّة، حاضرتَي الجعليّين.

رواية قريبة من روح المكان السوداني الفكه، الذي بدا أن الحرب حطمت بعضا منه، لكنها لم تحطم توق الناس إلى الحياة

وأسوة بالقرى الأخرى كان في البلدة رابطة للكذب تضم "عدة جدات وماشطات للشعر وضاربات للرمل وراميات للودع"، والفتّانين، الذين مهمتهم إشعال الفتن وتأجيجها، والمتتبعين لفِرق الصرعات الموسيقية والفنية، مثل "ليالينا" و"الصعاليك". كما نجد موضة "المثل الأعلى"، حيث أصبحت "ابتسامة تشرشل مثلا أعلى لابتسامة رئيس الوزراء"، و"تشرّد الغجر في روما وسالونيك مثلا أعلى لتشرد البدو في تهاميم وعيدات وعيتربة، والدماء التي شهقت في شوارع منروفيا وكوت ديفوار مثلا أعلى للدماء التي سوف تشهق في شوارع الخرطوم، وطموح المناوئين في كوبا وسلفادور مثلا أعلى لطموح المناوئين في اتحاد نقابات العمال". وإلى جانب كل هؤلاء نجد مشاعر تحولت إلى أفعال بذاتها، فالغضب هنا يتحرك ويرسل كعريضة احتجاجية.

x.com/amirelsir
أمير تاج السر

وزير في الأحلام

في الرواية سخرية واضحة نقرأها بين السطور ومع التوصيف للشخوص، فالرمّانة ابتدعت "ريجيما" خفضت فيه عمرها خمسة عشر عاما خلال ساعتين، وسليمان، النائب البرلماني الذي سقط في الانتخابات، يذهب إلى مصح ليستشفي من داء أحلام اليقظة الذي أوصله إلى تقلد وزارات مثل الخارجية والأشغال والحكم المحلي. أما سعدية مبارك، فتستعير الأوصاف الشعبية للتعبير عما سببه لها ولدها من مشاكل، إذ "جعل رقبتها مثل رقبة الدجاجة، وجلستها وسط النساء كجلسة الجرادة في وسط الطيور".

تبدو الرواية استكشافا لتغيرات القرى والتحاقها بعصر الحداثة، وما يحفل به من ثقافة مغايرة تتمثل في الفنون والإذاعة والملابس ووفود المهرجين، ولكنه تغير يرتبط باستذكارات تاريخية وسلطة متبدلة تحمل الشعارات نفسها.

رواية أمير تاج السر هذه قريبة من روح المكان السوداني الفكه، الذي بدا أن الحرب حطمت بعضا منه، لكنها لم تحطم توق الناس إلى الحياة والسخرية منها أيضا. تعكس الرواية هذه الروح السودانية، إذا جاز التوصيف، فتظهر السودانيين كما ألفناهم، خفيفي ظل، وأصحاب نكتة وطرفة.

font change