شعوب سوريا السرية

شعوب سوريا السرية

ليس من خارج الدلالة، أن يكون كل أعضاء الاجتماع المخصص لتعيين أحمد الشرع رئيسا لسوريا من حساسية أهلية وطبقة اجتماعية وعصبية سياسية واحدة، دون غيرها من المجتمع السوري. فكلهم "ريفيون ذكور، عرب مسلمون على المذهب السُني، الأناس الأكثر تشددا في سلوكياتهم العامة ومحافظة في حياتهم الخاصة، الأقل تعليما والأكثر مناهضة للقيم الحديثة".

مجموع هذه السمات/الانتماءات ليس لكتلة مجتمعية لها خيارات حياتية وسلوكية متمايزة بذاتها، بل تشكل بمجموعها مصدرا للحس والتآزر المشترك فيما بينهم، اعتقادهم الداخلي بالانتماء إلى جماعة أهلية وعصبية سياسية ما، تجمع كتلة من المنتمين إليها، بالغو في التآزر والتعاضد الداخلي، حتى إنهم حاربوا سنوات كثيرة سوية، كانوا خلالها مستعدين لأن "يُفدي" واحدهم الآخرين، ويحسون مجتمعين بأن أي واحد منهم لو شغل مكانة أو منصبا، فإنه يمثل حضورهم وسلطتهم، والعكس صحيح، متوافقون تماما على تحديد من هو "عدوهم" جذريا ودائما، وغالبا ممتلئون بحسي "الأصل المشترك" و"المصير الواحد".

إذا لم تكن كل هذه السمات هي محددات "الشعب الواحد"، أو ضوابط الشعور بذلك، فما هي؟!

فلو تغير واحد فقط من تلك السمات الهوياتية، لانفرط العقد الداخلي بين هؤلاء، وغدا صاحب هذا المتغير الوحيد هو "الآخر"، وما سمحوا له أن يشاركهم فضاءهم الداخلي و"أسرارهم" السياسية المستبطنة.

لكن المثير للاستغراب، وربما هذه هي خصوصية الحالة السورية، أن هؤلاء المُحددون، هم أكثر الرافضين لأن يكونوا ويُعرفوا باعتبارهم "شعبا"، أو حتى جماعة أهلية/سياسية ذات هوية وعصبية داخلية. بل على العكس تماما، يُصرون خطابيا وسياسيا على اعتبارهم وتعريفهم كـ"سوريين". وفوق ذلك، يُظهرون نبذا واضحا لكل من يحاول كشف وتحديد هويتهم الأهلية تلك، أو حتى هوية أية جماعة أهلية أخرى غيرهم.

في سوريا اليوم، طيف من "الشعوب" الداخلية، المتآلفة فيما بينها، القائمة على إحساس جمعي بوحدة الحال والمصير، المتشككة والمتوجسة من سوريين آخرين، متمركزين حول سمات وهويات داخلية مختلفة. لكنهم جميعا يرفضون إعلان وبيان ذلك

ليس في ذلك ما هو غريب عن المتن السوري العام. فمؤيدو النظام السوري السابق الجذريون، بقوا طوال ستة عقود يشددون على "سوريتهم"، ويجرّمون كل محاولة لنعتهم وتأطيرهم على ما هُم عليه من عصبية داخلية، كانت سماتها الأهلية واضحة تماما، قوميا وطائفيا ومناطقيا وأيديولوجياً، وتمركزهم حول النظام السابق واستماتتهم في سبيله كانت لتلك الهويات العصبية لا غيرها، بل كانوا يمارسون قمعا مفتوحا وباردا ضد "الآخرين"، فقط لأنهم كانوا على سمات أهلية مختلفة، تجعل منهم "شعبا آخر" في ذوات مؤيدي الأسدية.

مثل مؤيدي النظامين، السابق والحالي، ثمة في سوريا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، ثمة طيف من "الشعوب" الداخلية، المتآلفة فيما بينها، القائمة على إحساس جمعي بوحدة الحال والمصير المشترك، المتشككة والمتوجسة من سوريين آخرين، متمركزين حول سمات وهويات داخلية مختلفة. لكنهم جميعا يرفضون إعلان وبيان ذلك، بل يشيدون أسوارا من خطابات وشعارات وحجج كلامية، فقط لتغطيته ونكرانه علنا، وممارسته حرفيا وتفصيلا في السر.

ليس الهدف من ذلك النكران أية نزعة ساعية لمتاركة وتخفيف أشياء مثل النزعات الطائفية والعصبيات القومية، أو السلوكيات المناطقية أو الصراعات الأهلية، بدلالة أن المنكرين يوغلون في ممارسة كل تلك الأفعال بشهية وديمومة وإتقان. بل يكاد النكران أن يفعل العكس تماما، أن يزيد ويقوي من أواصر تلك النزعات والممارسات، فالنكران يرفع الحرج عن الفاعلين، ويسمح لهم بمزيد من الإيغال في ما هُم قائمون عليه، دون أسئلة منطقية أو مواجهة أخلاقية، دون واجبات وحقوق للآخرين، مُلزمة لهم كفاعلين. يشبه الأمر الفرق بين نوعين من الاحتلال: الأول يقر بطبيعته الاحتلالية، والتالي يمتثل لكتلة من العهود والأعراف والقياسات تجاه المُحتلين، حقوقهم ومساحتهم الخاصة، على قلتها وبعدها عن العدالة المطلقة. واحتلال آخر ينكر هويته الاحتلالية، وتاليا يجد نفسه بحِلٍ من كل فروض وواجبات المُحتل، سلطة عارية ومطلقة، دون أسئلة ومحاسبة.

كذلك يمنح النكران طاقة للفاعلين لأن يمارسوا الأشياء بأقصى حدودها. لأنها تفرضهم كـ"سوريين"، يمثلون السواد الأعظم، وتاليا الشرعية والأحقية المطلقة. وليس كجماعة صغيرة أو كتلة نسبية من هؤلاء السوريين، لهم مجال و"حصة" ما من "سوريا"، وليس سوريا كلها.

ربما ليس من "قيمة مضافة" كبرى وواضحة من "إباحية التعامل مع الهويات الأهلية"، لأن تجارب دول أخرى في الجوار السوري ليست مشجعة للغاية، لبنان والعراق على الأقل

ودون هذا النكران، ما كان للنظام السابق ومؤيديه أن يحكموا السوريين والبلاد مطلقا كل تلك السنوات الطويلة، لم يقاسموا ويعترفوا فيها بـ"حصة" ومكانة سوريين آخرين في خيرات ورموز وسلطات هذه البلاد. وطبعا ما كان للنظام الحالي أن يختزل الشرعية والسلطة في حلقة ضيقة من ممثلي "شعبه السري" فحسب، دون التفات لحقوق أو حتى وجود غيرهم من "الشعوب السرية".

لكن ما المكسب والقيمة المضافة من العكس تماما. يعني ما الذي سيتغير لو اعترفت وتعاملت هذه المكونات الأهلية والهوياتية مع ذواتها الرمزية وسلوكياتها السياسية على ما هي عليه حقيقة، كممثلة لعصبيات/شعوب داخلية، مغلقة على نفسها وذات محددات قبلية، غير مُختارة أو قابلة للتغيير، مجتمعات ونزعات سياسية وأيديولوجية غارقة ومعرفة بالهويات الأهلية.

ربما ليس من "قيمة مضافة" كبرى وواضحة من "إباحية التعامل مع الهويات الأهلية" تلك، لأن تجارب دول أخرى في الجوار السوري ليست مشجعة للغاية، لبنان والعراق على الأقل. لكن المكاشفة ستفعل أشياء كثيرة، على بساطتها: ستخلص السوريين من أثقال التقية وما تنتجه من مكاذبة متدفقة منذ لحظة التأسيس وحتى الآن، ستمنع المتنمرين المستولين على سلطة البلاد التحدث بكبرياء وفوقية من يعتبر نفسه ممثلا للكل الوطني، وستسمح بشراكات سياسية ورمزية نسبية هنا وهناك، وقبل كل شيء، ستكشف للسوريين فداحة ما هُم عليه من نوازع طائفية وقومية ومناطقية، هذه النوازع التي ليس من شفاء منها، قبل الاعتراف بها أولا. 

font change