حروب البحيرات الكبرى في الكونغو يؤججها الكوبالت والذهب والنحاس

الأغنى من حيث الموارد في مجموع القارة السمراء وتضم نحو 70% من الاحتياطي العالمي من الكوبالت والكولتان

رويترز
رويترز
مقاتلون حركة M23 في منطقة غوما، شمال شرق الكونغو، 30 يناير 2025

حروب البحيرات الكبرى في الكونغو يؤججها الكوبالت والذهب والنحاس

في وقت يتجه العالم نحو مزيد من الاستقرار السياسي والأمني والانتعاش الاقتصادي، بعد تخفيف حدة الحروب في الشرق الأوسط، ومع بداية إسكات المدافع في شرق أوروبا بضغط من الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب، تندلع حرب جديدة قديمة في وسط أفريقيا تدور رحاها هذه المرة على ضفاف البحيرات الكبرى وداخل الأدغال والغابات، على الحدود بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ودولة رواندا الداعمة عسكريا لمقاتلي "إم 23".

تمكن المتمردون الذين يحاربون منذ سنوات الحكومة المركزية في العاصمة كينشاسا، بدعم عسكري قوي من كيغالي، من السيطرة على أجزاء من مدينة غوما في مقاطعة كيفو الغنية بالمعادن الباطنية في شمال شرق البلاد.

المثير في الأمر أن هذه الحرب التي قد تبدو إقليمية، بجذور تاريخية وقبلية وعرقية، ومن مخلفات الاستعمارين الفرنسي البلجيكي، وقبلهما الألماني، والتقسيم العشوائي للحدود السياسية في مجتمعات تقليدية وبدائية، تخفي في الحقيقة وجه حرب اقتصادية غير معلنة بين القوى الكبرى حول المعادن الثمينة والنادرة الموجودة في المنطقة.

لا تحظى الحروب الأفريقية المحلية بالتغطية الإعلامية نفسها لصراعات إقليمية ذات أبعاد دولية، لذلك تتميز هذه النزاعات العرقية والقبلية بمستوى عال من العنف والهمجية الحربية، وتقدر الأمم المتحدة نتائجها بأكثر من 5 ملايين قتيل قضوا أحيانا بآليات بدائية خلال العقود الثلاثة الأخيرة

ولا تُبدي هذه القوى حماسة كافية لوقفها، كما هي الحال في صراعات أخرى في المدار الأوروبي، ربما في انتظار التوصل إلى صيغة لتقسيم الحصص والثروات في جنوب ووسط القارة الفقيرة اقتصاديا لكنها الغنية بالموارد المعدنية. 

حروب تقسيم ثروات الفقراء

عادة، لا تحظى الحروب الأفريقية المحلية بالتغطية الإعلامية نفسها لصراعات إقليمية ذات أبعاد دولية، لذلك تتميز هذه النزاعات العرقية والقبلية بمستوى عال من العنف وحتى بالهمجية الحربية، وتقدر الأمم المتحدة نتائجها بأكثر من 5 ملايين قتيل قضوا أحيانا بآليات بدائية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، على غرار الحرب الأهلية التي خلفت ملايين القتلى في رواندا بين قبائل الهوتو وقبائل التوتسي وهي من الأقلية، وسُميت بحرب الإبادة الجماعية، عقب إسقاط طائرة الرئيس جوفينال هابياريمانا قادما من تنزانيا في  أبريل/نيسان عام 1994. وقد دعمت فرنسا الجيش الرواندي المكون في غالبيته من الهوتو، وكانوا يمثلون 90 في المئة من مجموع السكان الذين كان يقدر عددهم بـ 8 ملايين نسمة آنذاك. واستمرت حرب الإبادة ضد التوتسيين أسابيع عدة أسفرت عن نحو مليون قتيل، قادها متعصبون ينتمون إلى قبائل الهوتو. وقد تمكن بعض كبار العسكريين المتورطين في مذبحة الإبادة ضد التوتسيين من الانتقال إلى جمهورية زائير( تعني النهر الكبير باللغة المحلية في إشارة إلى نهر الكونغو)، حيث ظل هذا الاسم معتمدا من 1971 الى1997 تاريخ وفاة الجنرال موبوتو سيسي سيكو ليتحول اسمها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، مطلع الألفية الثالثة.

أ.ف.ب.
عمال يشحنون المعادن المستخرجة من منجم تينكي فونغوروم أكبر منجم للنحاس والكوبالت في العالم، في شرق الكونغو، 17 يونيو 2023

وقد ظلت رواندا لسنوات عدة تدعم العناصر المناوئة لتغيير الحكم في كينشاسا وطرد المتمردين في الاتجاه الآخر، مما كان يدفع نحو عدم استقرار أمني واجتماعي في شرق البلاد، والتأثير على التركيبة الديمغرافية في الإقليم التابع لجمهورية الكونغو الديمقراطية، وحال دون الاستفادة من المعادن والثروات التي تزخر بها المنطقة.

حروب مناجم المعادن الثمينة

وتُتهم رواندا، وهي دولة صغيرة في وسط شرق أفريقيا، مساحتها 26,338 ألف كيلومتر مربع دون منفذ بحري، باستغلال مناجم للمعادن الثمينة داخل حدود جمهورية الكونغو الديمقراطية دون موافقة الحكومة المركزية. وحتى الشهور الأخيرة كان البلدان قريبين من عقد اتفاق لتسوية الخلافات الحدودية. وتطالب كينشاسا بتصفية حركة "إم 23" المتمردة، بينما تطالب كيغالي بإبعاد جبهة "FDLR" المكونة من عناصر تريد الانتقام لضحايا حرب الإبادة الجماعية التي خلفت ملايين القتلى والجرحى والمشردين منتصف تسعينات القرن الماضي. ونزح مئات الآلاف إلى الدول المجاورة في جمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي وأوغاندا والكونغو وجنوب افريقيا (بلغ المجموع 3,5 ملايين وفقا للأمم المتحدة).

عدم الاستقرار الأمني بقي طاغيا في منطقة البحيرات الكبرى بسبب غناها بالموارد الطبيعية والمعدنية وكثرة الأطماع الخارجية. وتحولت الثروة مع الزمن إلى نقمة حيث تصنف هذه الدول ضمن الأشد فقرا في القارة الأفريقية

وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر قرارا عام 1994 بإدانة الأعمال العدوانية، وتم إرسال القبعات الزرق، وهي قوات لحفظ السلام تتكون من 5500 جندي، وصل عددهم إلى 12 ألفا في مرحلة لاحقة. لكن عدم الاستقرار الأمني بقي طاغيا في منطقة البحيرات الكبرى بسبب غناها بالموارد الطبيعية والمعدنية وكثرة الأطماع الخارجية.

وتحولت الثروة مع الزمن إلى نقمة حيث تصنف هذه الدول ضمن الأشد فقرا في القارة الأفريقية على الرغم من النمو الاقتصادي الذي حققته دولة رواندا في العقدين الأخيرين بدعم من الولايات المتحدة، خصوصا في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، مكنها من رسم صورة إيجابية عن وضعها الاقتصادي والسياسي.  

صراع أوروبي-صيني خفي على معادن الكونغو

في المقابل تحتل جمهورية الكونغو الديمقراطية المرتبة 164 عالميا في مؤشر التنمية البشرية وفق البنك الدولي، على الرغم من كل الثروات التي تزخر بها من معادن ثمينة ومياه عذبة، وهي الأغنى من حيث الموارد في مجموع القارة السمراء.

رويترز
قطعة نحاس ضخمة تم استخراجها من منجم تسيطر عليه الحكومة الكونغولية،31 يناير 2013

ومنذ وصول الرئيس فيليكس تشيسكيدي إلى السلطة عام 2019 وتقربه من الولايات المتحدة وإسرائيل ومعارضته السياسة الفرنسية في القارة، ظهرت خلافات إقليمية جديدة، ومنافسات أخرى بين القوى الكبرى حول الثروات المعدنية الأفريقية، وكأن قدرها ألا تتصرف في ثوراتها إلا تحت غطاء مصالح قوى تقليدية أو أخرى صاعدة. 

هناك 15 منجما منتجا للكوبالت من أصل 19 في جمهورية الكونغو الديمقراطية تسيطر عليها الشركات الصينية وتلقت هذه الشركات دعما بقيمة 124 مليار دولار من الحكومة الصينية خدمة لعملياتها الدولية

صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية

ويفسر محللون الأزمة الجديدة في نهر الكونغو بصراع خفي بين الاتحاد الأوروبي والصين، حول المعادن التي تدخل في تصنيع السيارات الكهربائية وأجهزة الاتصالات الفضائية والذكاء الاصطناعي وغيرها. وسبق للبرلمان الفرنسي أن أثار موضوع المعادن والصناعات الجديدة، عندما اعتبر أحد النواب أن الصين أصبحت تملك 60 في المئة من المعادن النادرة في القارة الأفريقية.

الصين تحظى بحصة الأسد

وكشفت صحيفة "نيويورك تايمز" أن 15 منجما منتجا للكوبالت من أصل 19 في جمهورية الكونغو الديمقراطية تسيطر عليها الشركات الصينية، منها "أمبركس" و"كاتل" و"موليبدينوم" و"زيانغ هوايو" و"تينكي فانغوروم" للتعدين. 

وقالت الصحيفة الأميركية "إن هذه الشركات تلقت دعما بقيمة 124 مليار دولار من الحكومة الصينية خدمة لعملياتها الدولية". 

 أثمن المعادن تجدها في جمهورية الكونغو

وقال تقرير للاتحاد الأوروبي عن المعادن النادرة والدقيقة "إن جمهورية الكونغو الديمقراطية تضم نحو 70 في المئة من الاحتياطي العالمي من الكوبالت والكولتان، وهو الخام المعدني الأسود لتصنيع الأقراص التكنولوجية والهواتف الذكية انطلاقا من مادتي النيوبيوم والتاننتاليوم. ومن أجل الحصول على هذه المعادن، يجري إشعال الحرب بين أعداء الأمس، والاعتماد على عصابات محلية ومرتزقة لسرقة المعادن الدقيقة، وإعادة تصديرها إلى الشركات الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية والصين والاتحاد الأوروبي وروسيا وكل أعضاء مجلس الأمن الدائمين. 

إن حركة 'إم 23' التي تسيطر على تجارة الكولتان في مناجم روبايا وموشاكي، وعلى الطريق البري في اتجاه رواندا، تحصل على دخل شهري يتجاوز 800 ألف دولار

تقرير الأمم المتحدة

يوجد في جمهورية الكونغو الديمقراطية سابع مخزون من النحاس ومعادن أخرى. هذه المعادن مصنفة ضمن 27 من المعادن الاستراتيجية في العالم، تُستخدم لأغراض طبية وتكنولوجية، ومنها شرائح الذكاء الاصطناعي. كما تستخدم في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية والهواتف الذكية والأقمار الاصطناعية وغيرها. وقد نحتاج إلى 13 كيلوغراما من الكوبالت فقط لإنتاج بطارية سيارة كهربائية متوسطة، ونحو سبع غرامات لصناعة هاتف محمول. والكوبالت هو معدن أساسي في تصنيع البطاريات المستخدمة في الإلكترونيات والسيارات الكهربائية. في حين يستخدم الكولتان والكاسيتريت لإنتاج شاشات الهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر المحمولة.

وضمت وزارة التجارة الأميركية الكوبالت الوارد من جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى قائمة البضائع التي يتم إنتاجها بالاعتماد على أطفال قاصرين أو في مناطق نزاع في عام 2024. واعتبرت وزارة العمل الأميركية مادة الكوبالت "ضرورية للانتقال إلى الطاقة الخضراء وعلوم الكومبيوتر المتقدمة والأمن القومي" وقالت "إن إدراج الكوبالت الكونغولي في القائمة لا يعني في الضرورة أن هذه البضائع ستتوقف تلقائيا على حدود الولايات المتحدة". 

معادن "ألماس الدم"

ظلت الشركات العالمية الكبرى تستغل الأوضاع غير المستقرة في منطقة البحيرات الكبرى ونهر الكونغو، بالاعتماد على مسلحين محليين لاستخراج المعادن وتصديرها دون ترخيص أو موافقة رسمية من الحكومات المركزية، أو تقديم تعويضات ومساعدات للسكان المحليين لأجل التنمية، في مقابل الخسائر البيئية والصحية الفادحة التي يتسبب فيها الاستغلال العشوائي للمناجم. 

أ.ف.ب.
موظف في شركة CMOC الصينية، يقف بجانب أعمال حفر وتنقيب في مناجم النحاس والكوبالت، شرق الكونغو، 17 يونيو 2023

وقالت الأمم المتحدة في تقرير عن الأزمة في نهر الكونغو "إن حركة 'إم 23' التي تسيطر على تجارة الكولتان في مناجم روبايا وموشاكي، وعلى الطريق البري في اتجاه رواندا، تحصل على دخل شهري يتجاوز 800 ألف دولار.

كما تعتمد شركات أجنبية أخرى على مجموعة مسلحة تدعى "زايير" لاستغلال مناجم الذهب في منطقة إتوري، وهو ما يجعل جزءا من إستخراج وتأمين تصدير المعادن خارج سلطات الدولة. وتملك جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تعتبر الثانية في أفريقيا من حيث المساحة التي تتجاوز 2,3 مليون كيلومتر مربع، معادن ثمينة لا توجد في أي بلد مجاور، حتى سميت بـ"ألماس الدم"، بسبب الحروب المتواصلة منذ عقود، وحيث يعيش 73 في المئة من سكان مناطق النزاعات على 2,15 دولار في اليوم وفق تقرير للبنك الدولي.

font change