زيارة الشرع لتركيا... استشراف المستقبل وتعزيز دائرة الحلفاء

البعد الاستراتيجي التركي لسوريا

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس السوري أحمد الشرع، خلال مؤتمر صحفي مشترك عقب اجتماعهما في القصر الرئاسي في أنقرة، في 4 فبراير 2025

زيارة الشرع لتركيا... استشراف المستقبل وتعزيز دائرة الحلفاء

التقى الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة خلال زيارته الخارجية الثانية.

وقد وصل الشرع ووفده إلى أنقرة قادمين من دمشق على متن إحدى طائرات الرئاسة التركية.وعقد الزعيمان اجتماعا ثنائيا في القصر الرئاسي، تلاه اجتماع موسع بين الوفود.وكان المؤتمر الصحافي المشترك مقتضبا، ولم يُسمح بطرح أسئلة.

وتصدرت قضايا الأمن والاقتصاد جدول المباحثات، حيث أشار الرئيس أردوغان إلى أنهما ناقشا "الخطوات الواجب اتخاذها لمواجهة تنظيم (وحدات حماية الشعب) الإرهابي الانفصالي، التابع لـ(حزب العمال الكردستاني)، والذي يحتل شمال شرقي سوريا". مؤكدا أن تركيا ستدعم سوريا في مواجهة هذا التنظيم، كما ستقف إلى جانبها في السيطرة على المعسكرات التي يُحتجز فيها مقاتلو تنظيم "داعش".

وعلى الصعيد الاقتصادي، شدد الرئيس أردوغان على استعداد تركيا لدعم إعادة إعمار سوريا، داعيا العالم العربي والإسلامي إلى تقديم الدعم المادي والمعنوي لها. كما حث على ضرورة رفع العقوبات المفروضة.

من جانبه، كان أحمد الشرع مقتضبا في تصريحاته، لكنه أعرب عن تقديره لتركيا، مؤكدا رغبته في "تحويل العلاقات مع تركيا إلى تعاون استراتيجي عميق في كل المجالات".

وأشار الشرع إلى أنه ناقش مع أردوغان التهديدات القادمة من شمال سوريا وشرقها. وكان لافتا أنه دعا المجتمع الدولي إلى الضغط على إسرائيل للعودة إلى حدود عام 1967.

يعود تاريخ علاقة أحمد الشرع بتركيا إلى الفترة التي كان يُعرف فيها باسمه الحركي أبو محمد الجولاني،حينما كان يرتدي الزي العسكري.

وبحكم موقعها الجغرافي، شكلت تركيا البوابة الرئيسة لـ"هيئة تحرير الشام" إلى العالم الخارجي، ومن دونها كان استمرار الهيئة أمرا بالغ الصعوبة.

يدين أحمد الشرع، بشكل أو بآخر، بالكثير لتركيا، لكن إلى جانب ذلك، هناك مصالح وهواجس مشتركة تحفز التعاون بين الجانبين.فبفضل موقعها الجغرافي القريب وميزاتها الاقتصادية والتجارية، ستؤدي تركيا دورا محوريا في تعافي سوريا وإعادة إعمارها. وإلى جانب كونها المورد الرئيس لسوريا في المجال التجاري، فإن خبرتها الواسعة في قطاع البناء ستوفر فرصا إضافية لدعم عملية إعادة الإعمار.

من ناحية أخرى، وباعتبار سوريا جزءا من العالم العربي، ومع سعي الرئيس السوري أحمد الشرع للحصول على دعم مالي لإعادة الإعمار، لا سيما من دول الخليج، فإنه يحرص على تجنب أي خطوات قد تثير حساسيات هذه الدول أو تؤثر على علاقاته معها.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن أول زيارة خارجية قام بها الشرع بصفته رئيسا مؤقتا كانت قبل يومين إلى الرياض، التي تُعد مركز الثقل في العالم العربي. كما أن أول زعيم أجنبي استضافه في دمشق كان أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.

وعلى الرغم من أن مصر والإمارات، وهما من القوى العربية الكبرى، غير مرتاحتين لخلفية أحمد الشرع و"هيئة تحرير الشام"، فإنهما لا تتخذان موقفا سلبيا علنيا تجاهه.

وبالرغم من سقوط نظام الأسد، فإن الكثير من العوامل التي أدت إلى اندلاع الأزمة في عام 2011 وما تبعها من تطورات لا تزال قائمة. وتأتي الكراهية الطائفية والرغبة في الانتقام، إلى جانب الأزمات الاقتصادية، على رأس التحديات الأكثر خطورة التي تواجه سوريا.

ويعمل أحمد الشرع وفريقه على الحفاظ على الأمن، وفي الوقت ذاته، يسعون إلى تأسيس نظام جديد. فقد جرى تفكيك المؤسسات الرئيسة لنظام الأسد، بما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنية ومجلس الشعب وحزب "البعث" و"الجبهة الوطنية التقدمية"، إلى جانب إلغاء الدستور.

وفي هذا الإطار، أعلن الشرع عن خارطة طريق لإعادة بناء النظام والمؤسسات، تتضمن تشكيل حكومة انتقالية جامعة، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة.

ومع ذلك، لم يجر تحديد أي جداول زمنية لهذه الخطوات، وسيجري تنفيذ جميع الإجراءات من خلال لجان يعين أعضاءها الرئيس المؤقت أحمد الشرع. وقد أثار هذا النهج في إدارة المرحلة الانتقالية مخاوف وانتقادات متعددة.

مقربون من أحمد الشرع يصفونه بأنه رجل طموح سياسيا، يتمتع بمرونة وقدرة على التعامل ببرغماتية. كما يشيرون إلى استعداده للتخلص من أي شخص يعتبره عبئا، بغض النظر عن العلاقات السابقة

وهناك مقربون من أحمد الشرع يصفونه بأنه رجل طموح سياسيا، يتمتع بمرونة وقدرة على التعامل ببرغماتية. كما يشيرون إلى استعداده للتخلص من أي شخص يعتبره عبئا، بغض النظر عن العلاقات السابقة.

ويتولى أحمد الشرع قيادة مرحلة انتقالية سبق أن صرح بأنها قد تستمر ما بين أربع إلى خمس سنوات. وخلال هذه الفترة، سيكون أمامه خياران: إما تأسيس نظام يحترم الحريات ويستند إلى إرادة الشعب في اختيار من يحكمه، أو إعادة إنتاج نسخة خاصة به من نظام الأسد.

أ.ف.ب
خلال اللقاء الذي جمع الرئيسين أردوغان والشرع في أنقرة، تركيا في 4 فبراير

وتبدو تصريحات الشرع بشأن مستقبل البلاد واقعية وإيجابية، لكنها تظل رهينة التنفيذ. ووحده الوقت سيكشف مدى جدية التزامه بما يعلنه، ومدى تطابق أقواله مع أفعاله.

إحدى القضايا الأكثر أهمية في عملية بناء سوريا الجديدة هي مصير الأكراد السوريين، الذين يُقدر عددهم بما يتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين نسمة. فعلى مدى عقود، عانى الأكراد من القمع في ظل حكم "البعث" ونظام الأسد، حيث حُرم عدد كبير منهم من الجنسية السورية، بل وحتى من الحصول على بطاقة هوية.

إحدى القضايا الأكثر أهمية في عملية بناء سوريا الجديدة هي مصير الأكراد السوريين، الذين يُقدر عددهم بما يتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين نسمة

ومع اندلاع الأزمة عام 2011، أسست الجماعات الكردية المتأثرة بفكر عبدالله أوجلان، المسجون حاليا في تركيا مدى الحياة، قواتها المسلحة، ممثلة في "وحدات حماية الشعب" (YPG)، التي تلقت دعما عبر برامج التدريب والتسليح الأميركية.

وتمكنت "وحدات حماية الشعب"من فرض سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضي السورية، حيث تدير حاليا نحو 30في المئة من البلاد، وتسعى إلى الحفاظ على المكاسب التي حققتها خلال الحرب ضمن إطار "سوريا الجديدة".

ورغم أن مظلوم عبدي، قائد "وحدات حماية الشعب"، أكد أنهم لا يعتزمون تقسيم سوريا وأنهم ملتزمون بوحدة أراضيها، فإن التصريحات والوعود التي تُطلق في ظل الأوضاع الراهنة لا تمثل ضمانة أكيدة على المدى المتوسط أو البعيد.

وقد أجرت "هيئة تحرير الشام"و"وحدات حماية الشعب"مفاوضات حول شكل النظام الإداري الجديد في سوريا، ومستقبل الوحدات، وتقاسم عائدات إنتاج النفط، إلا أن هذه المحادثات انتهت دون التوصل إلى اتفاق.

وفي الوقت الحالي، تنتشر الفصائل السورية المدعومة من تركيابالقرب من المناطق الخاضعة لسيطرة الوحدات الكردية، فيما تشهد بعض هذه المناطق اشتباكات متقطعة بين الطرفين، خاصة في محيط سد تشرين.

وترى تركيافي وجود "وحدات حماية الشعب"على حدودها تهديدا مباشرا لأمنها القومي، وتعتبر أن ما يُعرف بـعملية المصالحة، التي أطلقها مؤخرا أقرب حلفاء الرئيس رجب طيب أردوغان، دولت بهجلي، ومستقبل الأكراد في سوريا، مسألتين مترابطتين.

وتسعى أنقرة إلى تقليص نفوذ "وحدات حماية الشعب"إلى الحد الذي يؤدي إلى إنهائها تماما، لكن آلية تحقيق ذلك لا تزال غير واضحة.

أ.ف.ب
أردوغان والشرع خلال مؤتمر صحفي مشترك في القصر الرئاسي في أنقرة، في 4 فبراير 2025

وفي هذا السياق، طالب وزير الخارجية التركي بضرورة خروج المقاتلين الأجانب المنتمين لـ"الوحدات"، أي أولئك الذين انضموا إليها من تركيا وإيران والعراق، من سوريا، إلى جانب مغادرة القيادات العلياللمنظمة، حتى وإن كانوا سوريين.إلا أن الوزير لم يحدد الوجهة التي يُفترض أن يتجهوا إليها، سواء كانت العراق، أو الولايات المتحدة، أو أي مكان آخر.

وفي هذه المرحلة، على الأقل، تتقاطع مواقف تركياو "هيئة تحرير الشام"بشأن "وحدات حماية الشعب".ففي خطابه بتاريخ 30 ديسمبر/كانون الأول، أكد أحمد الشرعأن إحدى أولوياته ستكون "استكمال وحدة الأراضي السورية بالكامل، وفرض سيادتها تحت سلطة واحدة وعلى أرض واحدة"،في رسالة واضحة تفيد بعدم استعداده للرضوخ لمطالب "وحدات حماية الشعب" الكردية.

ويشكل العامل الأميركي عنصرا محوريا في هذه المعادلة المعقدة. فرغم ميل دونالد ترمبإلى تجنب التورط في قضايا خارجية معقدة ومكلفة، فإن الولايات المتحدةلا تزال منخرطة في المشهد السوري، ساعية إلى تحقيق توازن دقيقبين تهدئة تركيا، حليفها المهمَل في "الناتو"، قدر الإمكان، وحماية استثماراتها وشريكها المحلي، "وحدات حماية الشعب". إلى جانب ذلك، تعمل أميركا على توجيه "هيئة تحرير الشام"نحو بناء نظام في سوريا يمكن للولايات المتحدة التكيف معه.

font change