أتى مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترمب بنقل سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن، بحجة أن الحرب المدمرة حولت القطاع إلى مكان غير قابل للحياة، متناقضا مع تصريحات سابقة وصف فيها القطاع بالمنطقة الجميلة التي تحتاج إلى إعادة الإعمار، وإمكانية مشاركة الولايات المتحدة في ذلك.
وفي الواقع، ليس جديدا على ترمب هذا التسرع في إطلاق الموقف وضده، فهو يعكس نمطه في الحكم والتفكير، فمن جهة هو "صاحب شركات" ميدانه الأرباح المالية والصفقات التجارية، ومن جهة أخرى، هو حريص على إرضاء أحزاب اليمين المتطرف الإسرائيلي والإنجيليين الأميركيين الداعمين لها.
لكن الحقيقة تقول إن ترمب واجه بعد سريان الهدنة في القطاع، موجة انتقادات حادة من قبل الأحزاب والشخصيات اليمينية المتطرفة في إسرائيل ولوبياتهم في الولايات المتحدة، اتهمته بممارسة الضغط على إسرائيل بشكل غير عادل، من أجل وقف إطلاق النار في القطاع، لذلك سارع إلى التخفيف من وقع الصدمة على أصدقائه، بإعلان إتمام صفقة بيع القنابل الثقيلة المؤجلة لإسرائيل، وإلغاء العقوبات على مستوطنين متطرفين متورطين في أعمال عنف في الضفة الغربية، ثم اقتراح تهجير فلسطينيي القطاع والضفة إلى مصر والأردن.
مقترح تهجير الفلسطينيين أو طردهم خارج أرضهم، هو في الأصل فكرة تراود الحركة الصهيونية واليهود المتطرفين منذ نشوء إسرائيل، بحيث لم يكف الطرفان يوما عن المطالبة بترانسفير فلسطيني
إن مقترح تهجير الفلسطينيين أو طردهم خارج أرضهم، هو في الأصل فكرة تراود الحركة الصهيونية واليهود المتطرفين منذ نشوء إسرائيل، بحيث لم يكف الطرفان يوما عن المطالبة بترانسفير فلسطيني، يرسمان على إثره شخصية دولة إسرائيل اليهودية من دون ملامح أخرى شريكة، أي عربية فلسطينية (مسلمة ومسيحية) ولذلك تعاملا مع إعلان يهودية دولة إسرائيل في عام 2018، على أنه إشارة للشروع في جعل هذا الترانسفير أمرا واقعا، واعتبرا مقترح ترمب بمثابة الخطوة الأولى على طريق تنفيذه.
نسمع كثيرا أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم، التي لا تعلن أين تبدأ حدودها الجغرافية وأين تنتهي، وماذا يحدها من الجهات الأربع، وأنها أوسع من الأراضي التي احتلتها في عام النكبة، والتي ضمتها في عام النكسة، وأن الضفة والقطاع والقدس جزء من أراضيها التاريخية المقدسة.
هذه الأقاويل يتبناها حاليا اليمين الإسرائيلي المتطرف ويعممها، ويرى أنها لن تصبح وقائع إلا بتهجير الفلسطينيين كلهم، وإلغاء حق العودة، والقضاء على حل الدولتين، ولذلك هو يقرأ مقترح ترمب على أنه تحويل للحق التاريخي إلى مشروع رسمي.
انطلاقا من هنا، يتبين أن هدف إسرائيل على مدى 15 شهرا من الحرب الوحشية في القطاع، لم يكن تدمير حركة "حماس" وقتل قادتها فحسب، بل اجتثاث الفلسطينيين من جذورهم ورميهم خارج القطاع، لتتخفف بذلك من عبئين، جغرافي بضم قطاع غزة إلى إسرائيل التاريخية، وديموغرافي بالتخلص من تهديد وجودي ليهوديتها يمارسه مليونا فلسطيني.
كان الغزيون واعين لهذه النيات، لذلك رفض عدد كبير منهم مغادرة مناطق شمال القطاع، وعصوا أوامر الإخلاء الإسرائيلية، وواجهوا حرب الإبادة والتدمير
في المقابل، كان الغزيون واعين لهذه النيات، لذلك رفض عدد كبير منهم مغادرة مناطق شمال القطاع، وعصوا أوامر الإخلاء الإسرائيلية، وواجهوا حرب الإبادة والتدمير، بقدرات عجائبية على الصمود والتماسك والصبر، حتى الذين نزحوا إلى الجنوب رفض الكثير منهم اللجوء إلى مصر ولو مؤقتا، بعدما اتضحت لهم الخطة الإسرائيلية.
إضافة إلى ذلك، لا بد من التنويه بموقف مصر والأردن، اللتين أعلنتا منذ البداية رفضهما تهجير الفلسطينيين، مما ساعد في إحباط المخطط الإسرائيلي التهجيري.
لكن يبدو أن ترمب وإسرائيل قررا بعد نجاح وقف إطلاق النار في قطاع غزة، استخدام سلاح المساعدات الإنسانية، واستغلال كارثة الدمار، وقد يحاولان عرقلة إعادة الإعمار، أي استبدال حرب الإبادة بحرب التهجير، لفرض واقع جديد على الغزيين، قد يكون مشابها من حيث تعقيداته الإنسانية، للعقاب الجماعي الذي فرضوه عليهم، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى هذه الساعة، مما قد يقود إلى تنفيذ المقترح بالقوة.
يبقى التعويل من أجل إحباط مقترح ترمب على صبر الفلسطينيين وصمودهم مرة أخرى، وعلى مواقف الدول العربية الرافضة له منذ البداية.
لكن السؤال هو: ماذا ينتظر العالم بشكل عام والإدارة الأميركية بشكل خاص، لينظرا بعين العدالة إلى عمق النكبة الإنسانية الفلسطينية، وأسبابها وجذورها؟ ومتى سيسعون جديا للتوصل إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية؟ ذلك أن المضي في مشروع تهجير نحو 6 ملايين فلسطيني على الأقل، وطردهم من أرضهم وتوزيعهم على دول الجوار، سيعدم كل فرص السلام والاستقرار، وسيكون أشبه ببرميل بارود سوف يفجر المنطقة كلها.