عن رحيل محمد الطويان شيخ الدراما السعودية

مسيرة حافلة بالإبداع منذ 1971

الفنان محمد الطويان

عن رحيل محمد الطويان شيخ الدراما السعودية

برحيل الفنان السعودي محمد الطويان في 31 يناير/ كانون الثاني 2025 فقدت الدراما السعودية أحد أبرز أعمدتها الفنية. ودّع الطويان الحياة بعد أكثر من خمسة عقود صنع خلالها التأثير الفني والاجتماعي، معالجا قضايا الإنسان والمجتمع. كما يعد أحد أهم المساهمين في رسم خريطة الدراما السعودية والخليجية حيث صنع مدرسة خاصة في التمثيل قدم من خلالها شخصيات وأدوارا عدة تنوعت بين الدراما والكوميديا.

ولد محمد الطويان في 9 مايو/ أيار 1945، في العاصمة الأردنية عمان، ليظل بعدها مرتبطا بمدينته بريدة إحدى محافظات منطقة القصيم التي عاد إليها لاحقا لينشأ وسط عائلته في المدينة التي لم يستطع الانفصال عنها رغم ارتحالاته وانتقالاته المتعددة. وينسب الى أسرته السبب الحقيقي وراء تشكل شخصيته الإبداعية والفنية. ولعل لارتحال والده الذي عمل في التجارة بين الشام وشمال المملكة دورا بارزا في تشكيل شخصيته، فالسفر بفوائده ودروسه لا شك أنه قد أخرج أجمل ما في الطويان حيث أن التنقل الذي شهده بين الثقافات منحه التنوع المعرفي وصقل الإنسان في داخله، ووسع مداركه ومخيلته الفنية.

قدم شخصيات لامست قلوب الجمهور، وأثبت نفسه على الساحة الفنية بأدائه المؤثر والمتقن، لتفتح أمامه الشاشات وعالم النجومية وتمنحه فرصا عدة لتقديم أجمل ما لديه

إلا أن مرافقته والده في ترحاله لم تشغله عن الفن الذي بدأت علاقته به من خلال المسرح، لتكبر معه هويته الفنية ويزداد عاما بعد آخر شغفه العميق وولعه بالدراما بجميع أنواعها. ذلك الشغف سافر به لدراسة المسرح وفنونه في الولايات المتحدة الأميركية مستثمرا موهبته التي احتاجت إلى كل هذين العناء والترحال كيما تحقق أحلامه الأولى. وما أن تحقق له هدفه وأنهى دراسته حتى عاد إلى السعودية ليبذل سنواته اللاحقة في مهمة جديدة نذرها للساحة الفنية كاتبا وممثلا وفنانا تشكيليا وداعما لجميع المواهب التي يصدفها في طريقه أو على خشبة المسرح، لينال لقب "شيخ الدراما السعودية" بمثل هذه المواقف النبيلة والأصيلة.

الفنان محمد الطويان

البداية والتحول

بدأ الطويان مسيرته الفنية في سبعينات القرن الماضي، وتحديدا في 1971 مع مسلسل "فرج الله والزمان"، ليليه في 1972 مسلسل "أحلام سعيدة"، هذه الأدوار رسخت حضوره في وجدان المشاهدين، إذ قدم شخصيات لامست قلوب الجمهور، وأثبت نفسه على الساحة الفنية بأدائه المؤثر والمتقن، لتفتح أمامه الشاشات وعالم النجومية وتمنحه فرصا عديدة لتقديم أجمل ما لديه، وليواصل تصاعده الفني. إلى أن جاءت نقطة التحول الفعلية في مسيرته حينما جسد شخصية "حظيظ" في مسلسل "السعد وعد" الذي عُرض في عام 1982 ليكون "حظيظ" الطريق إلى رسوخه في الأذهان، حيث منحته تلك الفرصة لإبراز إمكاناته التمثيلية بشكل لفت انتباه الجمهور والنقاد على حد سواء. وقد أثبت الطويان منذ ذلك التاريخ ملكته الهائلة وقدرته في تقمص الشخصيات المعقدة والمركبة، مما جعله أحد أبرز الوجوه الفنية في الدراما السعودية والخليجية، وقد برز بعد "السعد وعد" من خلال السهرات التلفزيونية البدوية ومنها "عقاب وشيهانة" التي عرضت في عام 1988، وأخرجها ماجد مسيب ونجدة أنزور، وكتبها الطويان، وشاركه بطولتها الفنانون محمد العلي وخالد سامي وناصر القصبي وعبد الله السدحان. ومن بين أبرز الأعمال التي قدمها في مجال التأليف والإنتاج مسلسل "عودة عصويد" في عام 1985، وقد جمع هذا المسلسل بين الكوميديا والدراما، وهو من إخراج المخرج العراقي عدنان إبراهيم.

وقدم الطويان في هذا المسلسل للمشاهدين شخصية معقدة جمعت بين الأب والابن في العمل نفسه، مما أثبت قدراته على تبديل الأدوار التي تتطلب فهما عميقا، وبدوره في هذا المسلسل بلغ في ميزان نقّاد الدراما مستوى النضج الفني، حيث استطاع أن يبرع في تقديم شخصية الأب الذي يعيش صراعاته الخاصة وفي الوقت ذاته يظهر جانب الابن الذي يواجه التحديات.

محمد الطويان في آخر أعماله

ذاكرة "طاش ما طاش"

لطالما كان مسلسل "طاش ما طاش" الكوميدي على مدار سنوات طويلة جزءا لا يتجزأ من المائدة العربية الفنية خلال شهر رمضان. فيه تجتمع الوجوه الفنية الصاعدة، والشخصيات الأكثر نجومية وشعبية، وكان الطويان على مدار عشرة مواسم متتالية أحد نجوم هذه السلسلة ليحفر مكانه في ذاكرة التلفزيون، مضفيا على هذه السلسلة نكهة خاصة ولمسة فنية تميزت بالتلقائية والقدرة على تقديم شخصيات مرحة ومؤثرة، ليحقق بذلك تفاعلا كبيرا مع الجمهور في مختلف أنحاء العالم العربي.

أضفى على "طاش ما طاش" نكهة خاصة ولمسة فنية تميزت بالتلقائية والقدرة على تقديم شخصيات مرحة ومؤثرة

واستمر الطويان في حصد إعجاب الجمهور في مسلسلات عدة منها "كلنا عيال قرية" و "سيلفي" و "غشمشم" و "لعبة الكبار" و"مكان في القلب". وفي جميع هذه الأعمال، قدم أدوارا تتسم بالتنوع والعمق، مظهرا براعته في تجسيد شخصيات متعددة برهنت مدى اتساع قدراته التمثيلية.

صدمة شخصية

عُرف عن الطويان أنه صاحب رؤية ثقافية وفنية شاملة، لهذا كان منفتحا على آفاق جديدة في صناعة الفن، وكانت له قدرة استثنائية على قراءة المشهد الفني، ليس من خلال أدائه فحسب، بل من خلال تأثيره على صناعة الدراما بشكل عام، إذ عمل على إلهام العديد من الفنانين والمبدعين في بداياتهم، ليكون بذلك عنصرا حيويا في تشكيل واكتشاف جيل جديد من المواهب التي أصبحت في ما بعد من الأسماء اللامعة في الساحة الفنية منهم ناصر القصبي وعبد الله السدحان، اللذان أصبحا لاحقا من أبرز نجوم الكوميديا في العالم العربي، مما ساهم في إثراء الساحة الدرامية بتجارب فنية مبدعة.

محمد الطويان في مشهد من فيلم "مندوب الليل"

وعلى الرغم من تلك النجاحات المتصلة والمتتالية التي حققها الطويان طوال مسيرته، إلا أنه تعرض لصدمة شخصية مؤلمة في عام 2002 بعد وفاة الفنان السعودي محمد العلي، رفيق عمره وصديق دربه، والذي يعدّه جزءا مهما من حياته المهنية والشخصية. لقد أثر رحيل العلي على نفسية وحياة الطويان إذ أفقده الشغف وعزله لسنوات طويلة عن ممارسة الفن بشتى أشكاله. وقد وصف الطويان ذلك في حديث تلفزيوني أجراه معه الإعلامي السعودي عبدالله المديفر في برنامج "الليوان" تطرق فيه إلى علاقته المديدة مع صديقه العلي التي بدأت منذ العام 1973، فحينما سأله المديفر عن مقدار ألمه بعد فقدانه محمد العلي وأثر ذلك عليه، قال: "محمد العلي هو نصفي الثاني. وقد أصبت بالاكتئاب بعد وفاته... جلست لأشهر بعد وفاته يأتيني خلالها في الأسبوع مرة إلى مرتين. وأرى أنني في الحلم أجلس أنا وهو، ثم أقول له: تصدق أني أحسبك مت". كما أكد الطويان في الحوار نفسه أنه كسر عزلته من خلال علاجه لنفسه بالفن حتى تجاوز حالته الحرجة التي عرّفها بـ"الاكتئاب الخريفي".

تعرض لصدمة شخصية مؤلمة في عام 2002 بعد وفاة محمد العلي، رفيق عمره وصديق دربه، الذي يعدّه جزءا مهما من حياته المهنية والشخصية

بعد فترة الانقطاع تلك عاد الطويان إلى عالم الدراما بقوة في عام 2007، عندما شارك في مسلسل "تسونامي" الذي أثبت من خلاله أنه لا يزال يمتلك القدرة على التأثير والإبداع. واستمر الطويان في تقديم أعمال فنية متميزة حتى آخر ظهور له في عام 2023، حيث شارك في مسلسل "طاش العودة" الذي أعاد إحياء العمل الكوميدي الشهير، وكذلك في الفيلم السعودي "مندوب الليل".

محمد الطويان في تجربته السينمائية الوحيدة «مندوب الليل»

يذكر أن الطويان حصل على العديد من التكريمات خلال حياته، منها جائزة "المسرح والفنون الأدائية" ضمن مبادرة الجوائز الثقافية الوطنية في دورتها الرابعة عام 2024، تكريما لمسيرته الفنية الطويلة. كما كرم بجائزة "جوي أوورد" لإبداعاته الفنية لكن ظروفه الصحية منعته من الحضور لاستلامها.

أخيرا لا يمكن قراءة سيرة ومسيرة الفنان محمد الطويان وحصره بين أول مسلسلاته "فرج الله والزمان" الذي عرض في عام 1971، وفيلم "مندوب الليل" الذي شهد آخر ظهور له على الشاشة، لأن الطويان نقش فني سعودي لا يمكن ذكر الدراما السعودية مستقبلا دون ذكره، يكفيه أن آخر كلماته لم تكن وداعا وإنما كانت "شكرا لوطني، شكرا لوطني، شكرا لوطني...".

font change

مقالات ذات صلة