الفلسفة الجبانة

الفلسفة الجبانة

هناك تقسيمات عدة للفلسفة رافقتها في كل أزمانها، لكن صار من المشهور أنها اليوم تنقسم إلى قسمين كبيرين، الفلسفة "التحليلية" والفلسفة القارية، نسبة إلى قارة أوروبا. "التحليلية" هي الفلسفة الأقوى في العالم الناطق بالإنكليزية، مع أنها بدأت من أوروبا هي الأخرى، فمؤسسها هو المنطقي الألماني غوتليب فريغه، الذي اشتهر بعد عناية برتراند راسل بمشروعه.وهو اتجاه يقوم في الغالب على معالجة الألفاظ، فاللغة ليست مجرد وسيلة بل هدف من أهداف البحث الفلسفي. وفريق منهم يعتني بالمنطق، لكنه منطق لم يفهم نفسه بحسب وصف هوسيرل.

غاية التحليليين، بشقيهم اللغوي والمنطقي، هي جعل الفلسفة منصبة على اللغة وتحليلاتها للتخلص مما يشوب التعبيرات اللغوية من لبس أو غموض أو خلط أو زيف، ففكرتهم الأساسية أن مشكلات الفلسفة عبر القرون وأيام السرديات الكبرى هي مشكلات وهمية. وأنها نشأت بسبب سوء استخدام اللغة، أو ألاعيب اللغة. اشتهر هذا القول عن فتغنشتاين الذي وصفه جيل ديلوز بأنه "كارثة حلّت بالفلسفة". يقصد أنه بالغ في عدائه للمثالية حتى بدا وكأنه عدو للفلسفة نفسها.

ولكي نتصور "التحليلية" جيدا لا بد أن نلتفت إلى أن المنطق واللغة يعتبران أساسيين فيها منذ بداياتها، فهي توجهات فكرية نشأت انطلاقا من التوجه المنطقي اللغوي. وعن هذا التوجه نشأت الوضعية المنطقية وتعزز دور التجريبية وبرزت مقولة الفلسفة خادمة العلم، مع أنهم لم يتبنوا كلهم هذا الاتجاه، ولم يكونوا كلهم أعداء للميتافيزيقا.

لكننا حين نمعن النظر نجد أنه يصعب وضع قائمة بخصائص "التحليلية". فهي تجمع أطيافا متعددة وفلاسفتها لا يقدمون نمطا واحدا ولا يظهرون دوافع أو أهداف مشتركة واضحة. بل إنهم لم يتفقوا حتى على مجرد الاسم، فهي مرة "التحليل اللغوي" ومرة "التحليل المنطقي" ومرة "فلسفة كمبريدج" ومرة "فلسفة أكسفورد" ومرة "فلسفة اللغة الجارية"، فقد انقسموا أيضا على أي اللغات سيدرسون؟ هل سيؤلفون لغة اصطناعية جديدة؟ أم سيكتفون بالجارية؟

لا يوجد موقف "فلسفي تحليلي" مشترك إلا بتعميم واسع، كأن يقال إنهم أتباع فريغه ومور وراسل وفتغنشتاين. وحتى مصطلح "التحليل" الذي اجتمعوا عليه ينطوي على مشكلة، فهو لا يعني الشيء ذاته عند الجميع، ولا يوجد منهج تحليلي واحد، بل مناهج مختلفة. إنه مصطلح يشبه مصطلح "الوجودية" ونحن نعلم اليوم أن الوجودية تيارات متعارضة.

البحث في طبيعة الفلسفة "التحليلية" لا بد أن يبدأ بتحليل مفهوم "التحليل"، وإن فعلنا ذلك لزم تحديد نوع التحليل الذي سنطبقه في تحليل هذا المفهوم، وهنا ندخل في الدور والتسلسل اللامتناهي.

إنها حركة محدودة فكريا وطموحاتها ضئيلة للغاية. ومن نقاط ضعفها الرئيسة ميلها إلى إنكار وجودها من خلال إظهار فلاسفتها للتمايز بينهم، الأمر الذي يشكك في أي تعميم ممكن. كل من يتقدم بتعميمات يطرحها حول "التحليلية"، فإن التحليليين سيقولون إنه ليس دقيقا بما فيه الكفاية في تصوير موقفهم. وهذا فخ دفاعي يطرد كل واصف من خارج الدائرة.

لا بد من موقف من هذه الحياة التي بُعثت فينا، ومن الموت الذي يأتي خلسة. الموت مشكلة حقيقية لم ينتج عن خطأ لغوي. هذه القضايا لم تكن قط ترفاً ولا وهماً

وقد امتزج هذا بنوع من التعصب نراه في الأكاديميات التي يسيطرون عليها، فأي شخص يريد النشر في مجلاتهم يجب أن يتوافق معهم. وهم بذلك يفشلون في أداء أحد الواجبات الأساسية للفلسفة، وهو أن يحرص المرء على مراجعة كل فرضياته مراجعة دورية، وأن يكون على استعداد للتساؤل بجدية حتى عن أبسطها.لقد وضعت الفلسفة "التحليلية" نفسها في نظام غير فلسفي إلى حد كبير بحيث لا يمكن التشكيك في مقدماتها من قبل أي فيلسوف من الخارج.

"التحليلية" غير فلسفية لأنها تركز على التحليل وحده على حساب التركيب وهذا نوع من الجُبن المعرفي والخوف من النقد والتفنيد. إن جفافها وضيق أفقها هو نتاج مجتمع أكاديمي مغلق إلى حد كبير برغم وجود أكاديميين يتقدمون بين حين وآخر بالتشكيك في بعض فرضياتها، إلا أن تأثيرهم غير كافٍ لإحداث فرق، والنتيجة عموما هي تشويه التقاليد النبيلة للفلسفة، وإهدار المواهب الفلسفية.

وأكبر أخطاء التحليليين هو محاربتهم للميتافيزيقا، فالميتافيزيقا هي الفلسفة وبالتالي ظهروا بصورة عدو الفلسفة الذي يدعو لقتلها أو جعلها مجرد تابع للعلم. وكان غيرولد كاتز من التحليليين الذي أشاروا إلى هذه القضية، حيث دعا إلى معانقة الميتافيزيقا من جديد والتخلي عن النفور منها.

وفي كثير من الحالات تفتقر الفلسفة "التحليلية" أيضا إلى الدقة المنطقية. قد يبدو هذا غريبا، إذ كيف ننفي المنطقية عمن قدموا أنفسهم كمناطقة، ولكن الدقة المنطقية لا تأتي نتاجا لرمزية مصممة ببراعة، بل إنها تأتي مع دقة التفكير. والمنطق يساعد على ذلك، وليس غاية في ذاته.

خطيئتهم الكبرى هي أن مشكلات الفلسفة ليست مجرد أوهام نتجت عن سوء استخدام اللغة كما يقولون، بل هي مشكلات حقيقية نواجهها كل يوم وليلة منذ أن أدركنا أننا قد قُذف بنا في هذا العالم دون إرادتنا، وأننا بحاجة إلى أن نفهم وجودنا فيه وأن نسعى للوصول إلى معرفة صحيحة عنه وأن نؤسس لأخلاق إنسانية تقوم على التعاون والمحبة. لا بد من موقف من هذه الحياة التي بُعثت فينا، ومن الموت الذي يأتي خلسة. الموت مشكلة حقيقية لم ينتج عن خطأ لغوي. هذه القضايا لم تكن قط ترفاً ولا وهماً.

لكل هذا أجد "التحليلية" فلسفة جبانة لا تشبع رغبات المغامر الباحث القديم عن الحكمة.

font change