ثلاثة سيناريوهات أمام " قوات سوريا الديمقراطية" بعد سقوط الأسد

أحد أبرز الأسئلة المطروحة على الساحة اليوم بالنسبة لمستقبل سوريا هو: ما دور "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)؟

رويترز
رويترز
امرأة تمشي بالقرب من سجن الصناعة، بينما ترفرف راية قوات سوريا الديمقراطية في الخلفية، في الحسكة، سوريا في 18 يناير

ثلاثة سيناريوهات أمام " قوات سوريا الديمقراطية" بعد سقوط الأسد

أحد أبرز الأسئلة المطروحة على الساحة اليوم بالنسبة لمستقبل سوريا هو ما دور قوات سوريا الديمقراطية (قسد). فعلى مدى عقد من الزمن، نجح التحالف بين الولايات المتحدة و"قوات سوريا الديمقراطية" (التي تقودها في الواقع "وحدات حماية الشعب" الكردية، وهي الجناح المسلح للفرع السوري من "حزب العمال الكردستاني") في هزيمة "داعش" كـ"دويلة" إقليمية، ولكنه سمح لـ"قوات سوريا الديمقراطية" تحت مظلة أمنية أميركية بتطوير دويلتها الخاصة في شمال شرقي سوريا.

وقد اضطلعت هذه "الدويلة" المزعومة الناشئة بإدارة شؤون ملايين السوريين، والسيطرة على أكثر من 20 في المئة من مساحة البلاد، إلى جانب معظم ثرواتها النفطية وأراضيها الزراعية، ما حرم نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين والروس من النفاذ إلى تلك المنطقة الاستراتيجية. ومع ذلك، فإن هذا النجاح، باعتبار "قوات سوريا الديمقراطية" امتدادا لـ"حزب العمال الكردستاني"، أوقعها هي ورعاتها الأميركيين في نزاعات متكررة مع تركيا. وقد شكّلت إدارة هذا التناقض المحوري في السياسة الأميركية تجاه سوريا أحد المتغيرات الأكثر تعقيدا، حتى إنها هيمنت في بعض الأحيان على التوجهات الأميركية العامة في الشرق الأوسط خلال الفترة الممتدة بين 2016 و2024.

وأدى التحول الذي شهدته سوريا في ديسمبر/كانون الأول 2024، إلى القضاء على النفوذ الإيراني والروسي في سوريا تقريبا وتشكيل حكومة في دمشق ترغب في التعاون معها كل من تركيا والولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية. وهو ما يعيد ترتيب أدوار "قوات سوريا الديمقراطية" وواشنطن في سوريا بشكل كلي، ويؤثر في الوقت نفسه بشكل خاص على "قوات سوريا الديمقراطية" بقوة.

اضطلعت هذه "الدويلة" المزعومة الناشئة بإدارة شؤون ملايين السوريين، والسيطرة على أكثر من 20 في المئة من مساحة البلاد، إلى جانب معظم ثرواتها النفطية وأراضيها الزراعية، ما حرم نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين والروس من النفاذ إلى تلك المنطقة الاستراتيجية

اليوم تضعنا هذه الأحداث أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسة لمستقبل "قوات سوريا الديمقراطية": استمرار وضعها المستقل الحالي وشراكتها مع الولايات المتحدة، أو صدام كبير مع تركيا بمساعدة الولايات المتحدة العالقة في المنتصف بين حليفين هامين بشكل أو بآخر، أو دمج "قوات سوريا الديمقراطية" كقوة عسكرية وكدويلة إقليمية في الدولة الوطنية الجديدة في دمشق التي تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام" (هتش).

ثمة جهات فاعلة مختلفة تؤثر على المسار الذي سوف تسلكه "قوات سوريا الديمقراطية"، بدءا من قيادة القوات نفسها، ومقر "حزب العمال الكردستاني" في العراق، وصولا إلى تركيا، وانتهاء بحكومة دمشق الجديدة. غير أن اللاعب الخارجي الأكثر أهمية هو إدارة ترمب. ونظرا لنقص الخبرة مع الإدارة الجديدة لترمب بوصفه رئيس الولايات المتحدة السابع والأربعين، ونهجه المتناقض في كثير من الأحيان تجاه سوريا خلال ولايته السابقة، فقد يكون التنبؤ بنهج محدد أمرا صعبا للغاية. ومع ذلك، ينبغي لنا أن نفترض أن واشنطن سوف تعمل على تعزيز مصالحها العديدة المتعلقة بسوريا، وهي مصالح يمكن تحديدها.

وقبل المضي قدما، من الأهمية بمكان أن نستعرض الهواجس الأمنية التي تلقي بظلالها على المشهد برمته. ذلك أن الحفاظ على الموقف الضعيف الذي تجد إيران نفسها فيه اليوم قد يكون الأكثر أهمية من بين تلك الهواجس التي تشمل أيضا الحد من أي نفوذ باقٍ لروسيا في سوريا، واحتواء تنظيم الدولة الإسلامية، والقضاء عليه بشكل كلي إن أمكن. كما أن الحفاظ على علاقات قوية مع تركيا هو أمر حيوي، نظرا لدورها في سوريا والشرق الأوسط عموما، وكذلك دورها في حرب أوكرانيا.

ويعتبر تطوير العلاقات مع حكومة دمشق غاية في حد ذاته نظرا لأهمية سوريا، كما أنه عامل رئيس يساهم في تحقيق النجاح فيما يخص المصالح الأمنية المذكورة أعلاه. كما يمكن للحكومة العاملة أن تهيئ الظروف اللازمة كي يتمكن اثنا عشر مليون لاجئ ونازح من العودة إلى ديارهم، وهو ما يقلص العبء المالي الذي تتحمله الولايات المتحدة والجهات المانحة الأخرى بشكل كبير.

إن المسار المحتمل الأول، وهو استمرار الولايات المتحدة في علاقتها الحالية مع "قوات سوريا الديمقراطية"، ومع احتفاظها بالسيطرة الفعلية على الشمال الشرقي، من شأنه بالتأكيد أن يسمح باستمرار العمليات ضد "داعش". لكن من الأهمية بمكان أن ندرك أغراض وحدود تلك العمليات. فهي ليست مصممة للقضاء على آخر فلول "داعش" المتبقية، خاصة في عمق البادية جنوب الفرات البعيدة حتى الآن عن متناول "قوات سوريا الديمقراطية". فبالإضافة إلى إحكام السيطرة على آلاف السجناء من "داعش" وعشرات الآلاف من أفراد عائلاتهم الذين يشكلون خطرا محتملا، تركز العمليات ضد "داعش" التي تشنها "قوات سوريا الديمقراطية" بدعم الولايات المتحدة على مكافحة التمرد، لمنع "داعش" من التسلل إلى المجتمعات العربية على طول نهر الفرات وفي عمق شمال شرقي سوريا.

ويشمل الجهد المشترك أيضا قيام كلا الشريكين بتطوير المعلومات الاستخباراتية عن "داعش" في البادية والمناطق الأخرى البعيدة عن الشمال الشرقي، ما يسمح بتنفيذ ضربات أميركية في بعض الأحيان.

وهذا العمل مهم في مكافحة الإرهاب نظرا لإمكانية التنظيم في إعادة بناء نفسه، ولكنه لن يجتث "داعش" من قلب المسرح السوري. وسيتطلب ذلك: أولا حكومة مركزية سورية لا تقمع ولا تشن حربا على الأغلبية العربية السنية التي يستمد التنظيم دعمه منها مثلما فعل الأسد، بل تعمل معها. وثانيا عمليات مكافحة إرهاب فعالة ضد "داعش" في جميع أنحاء سوريا بما في ذلك البادية.

قد تكون الحكومة المركزية بقيادة "هيئة تحرير الشام" هي القوة الوحيدة القادرة نظريا على الاضطلاع بهذه المهمة. غير أن استمرار الدعم الأميركي لـ"قوات سوريا الديمقراطية" من شأنه أن يسبب خلافا بين الولايات المتحدة ودمشق

وقد تكون الحكومة المركزية بقيادة "هيئة تحرير الشام" هي القوة الوحيدة القادرة نظريا على الاضطلاع بهذه المهمة. غير أن استمرار الدعم الأميركي لـ"قوات سوريا الديمقراطية" من شأنه أن يسبب خلافا بين الولايات المتحدة ودمشق، التي تسعى بشكل مفهوم إلى دولة موحدة. كما أن التعامل مع كيان شبه مستقل تدعمه الولايات المتحدة سوف يستهلك موارد دمشق، ويشجع مناطق أخرى على الخروج عن سيطرتها، ما قد يقضي على أولوية القتال ضد "داعش". وهو ما يعني أن الولايات المتحدة ستعرقل إنشاء دولة سورية قوية موحدة ليس بهدف هزيمة "داعش" بحلول وقت محدد، وإنما لمواصلة حملة مكافحة التمرد دون نهاية واضحة.

أما المسار الثاني الذي قد تسلكه "قوات سوريا الديمقراطية" فقد يفضي إلى الانهيار التام بسبب هجوم تركي في عمق شمال شرقي سوريا لإضعاف سيطرة تلك القوات على المدنيين، وبشكل خاص على المجتمعات العربية. وهو ما سيقف حائلا أمام جهود مكافحة "داعش" ويجبر الولايات المتحدة على الاختيار بين حليفين قيمين. ومثل هذا التطور قد يؤدي إلى دوامة من الانهيارات والتداعيات التي لا يمكن إيقافها، والتي من المرجح أن تشمل تقليصا حادا للجهود الرامية لمكافحة "داعش" في الشمال الشرقي، وانقساما حادا بين واشنطن وأنقرة، وتآكلا خطيرا للثقة بين القوات الأميركية و"قوات سوريا الديمقراطية". ويبدو جليا أن هذا المسار هو الأكثر سلبية لكافة الأطراف المعنية، إلا أنه قد يكون الأكثر ترجيحا إذا لم تتحرك "قوات سوريا الديمقراطية" وأنقرة وواشنطن ودمشق بسرعة وحكمة في الأسابيع المقبلة.

رويترز
مؤيدو حزب المساواة والديمقراطية المؤيد للأكراد (DEM) يرفعون أعلاما عليها صورة زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان، في إسطنبول، تركيا، 17 مارس

أما المسار الثالث للمستقبل فقد يكون هو الأفضل تقريبا وفقا لمختلف وجهات النظر، ولكنه سيتطلب أيضا بذل جهود جبارة من قبل جميع الأطراف- الاندماج التدريجي ضمن سوريا الموحدة لفرعي "حزب العمال الكردستاني" اللذين شكلا ركيزة "قوات سوريا الديمقراطية"، وهما "وحدات حماية الشعب" المسلحة، وحزب "الاتحاد الديمقراطي" السياسي. حيث تتولى في الوقت نفسه "وحدات حماية الشعب" دورا داخل الجيش السوري وآخر كقوات محلية، ويقوم حزب "الاتحاد الديمقراطي" بتشكيل حزب سياسي، على غرار حزب "الشعوب الديمقراطي" المتحالف مع حزب "العمال الكردستاني" والذي يمكن القول إنه موجود الآن في البرلمان التركي.

ومن ناحية أخرى، فإن مثل هذا التطور سوف يشجع على التقارب المحتمل بين أنقرة وأعضاء من حزب "العمال الكردستاني" بمن فيهم زعيمه أوجلان، وهو ما يعزز عملية واعدة بدأت بالتبلور للتو.

إن الخطوات الأولى معروفة جيدا، وتؤيدها بدرجات متفاوتة حكومة دمشق وواشنطن وأنقرة: تتخلى "قوات سوريا الديمقراطية" عن كبار قادتها من غير السوريين في حزب "العمال الكردستاني"، وتنسحب من المناطق ذات الأغلبية العربية في الشمال الشرقي، وتسلم البنية التحتية الرئيسة للنفط إلى الحكومة المركزية. وفي المقابل، تتوقف بشكل كلي العمليات العسكرية المحدودة ضد "قوات سوريا الديمقراطية" التي تنفذها وحدات جوية تركية وقوات الجيش الوطني السوري المعارضة المتحالفة مع تركيا (لن تقبل تركيا مصطلح "وقف إطلاق النار")، وتتوصل الأطراف المعنية إلى اتفاق لتقاسم العائدات بين دمشق والإدارة المدنية بقيادة حزب "الاتحاد الديمقراطي"، لتعويض تلك الإدارة جزئيا عن تشغيل وحراسة المرافق النفطية.

بمرور الوقت، قد يتمكن قادة "قوات سوريا الديمقراطية" من التفاوض على ترتيبات مماثلة لتلك التي تفاوض عليها زعماء أكراد العراق مع بغداد عند وضع الدستور العراقي عام 2005، ولكنها محدودة أكثر وذات طابع غير رسمي

وبمرور الوقت، قد يتمكن قادة "قوات سوريا الديمقراطية" من التفاوض على ترتيبات مماثلة لتلك التي تفاوض عليها زعماء أكراد العراق مع بغداد عند وضع الدستور العراقي عام 2005، ولكنها محدودة أكثر وذات طابع غير رسمي: مثل الحصول على حكم ذاتي محلي على الأقل (ربما لا يشمل الأكراد فقط ولكن المجتمعات المحلية في جميع أنحاء البلاد)، ودمج بعض وحدات "قوات سوريا الديمقراطية" الأكثر قدرة في الجيش السوري الجديد، كي تكون قوة مناهضة لـ"داعش" على وجه التحديد، على غرار تكليف بعض ألوية البشمركة بالجيش العراقي. ويمكن تكليف "قوات سوريا الديمقراطية" الأخرى بمهام الشرطة المحلية والحرس الوطني، مع استخدام الأسلحة الخفيفة فقط، في حين تُسرّح العناصر الأخرى.

أ.ف.ب
حلب في 5 ديسمبر 2024، بعد أيام على سيطرة الفصائل المسلحة، بقيادة "هيئة تحرير الشام"، على المدينة الواقعة في شمال سوريا

وهنا سيكون لدمشق وأنقرة وواشنطن رأي في هذا الشأن. ويمكن للولايات المتحدة تحويل وجودها العسكري في الشمال الشرقي (والتنف) إلى عمليات استشارية وعمليات مكافحة للإرهاب لا تحصر جهودها في الشمال الشرقي وحسب وإنما تعمل مع حكومة دمشق ضد "داعش" أيضا، مع تعزيز الأمن الداخلي وظهور جيش سوري حديث في نهاية المطاف.

نقف اليوم على أعتاب مرحلة حاسمة، حيث سيتحدد في سوريا مستقبل الشرق الأوسط، ومستقبل التهديدات التي عاثت فيه فسادا على مدار العشرين عاما الماضية، تلك التهديدات التي تمثلت في الإرهاب الإسلامي والتوسع الإيراني. ومما لا شك فيه أن الوصول إلى نتائج إيجابية سينقل المنطقة بأسرها نحو مستقبل أفضل، وقد ينهي دورات العنف التي نشهدها بين الحين والآخر. وعلى الرغم من أن التوصل إلى حل لوضع "قوات سوريا الديمقراطية" في حد ذاته لن يضمن النجاح للمشروع السوري الأكبر، فإن الفشل في دمجها ودمج الأقلية الكردية بشكل عام في سوريا الجديدة سيؤدي بالتأكيد إلى وأد هذا المشروع في مهده، تاركا المنطقة عُرضة لدورات جديدة من الصراع وعدم الاستقرار.

font change