الميليشيات... قوى متقلبة في دول ممزقة

ترمز الميليشيات إلى حقبة سبقت نشوء الدول القوية وكل ما يرتبط بها

غيتي
غيتي
الاستيلاء على أعلام فلسطينية من قبل جنود إسرائيليين وصورة لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات خلال الحملة العسكرية الإسرائيلية للسلام في الجليل في 11 يونيو 1982

الميليشيات... قوى متقلبة في دول ممزقة

الميليشيات تعود إلى الواجهة مجددا مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا على يد قوات المتمردين التابعة لـ"هيئة تحرير الشام"(HTS) في ديسمبر/كانون الأول. يثير هذا الحدث تساؤلات عديدة حول مستقبل استقرار البلاد. إذ تسيطر ميليشيات كثيرة، بما في ذلك تلك التي يديرها الأكراد، على مناطق مختلفة من سوريا. لكن ما هو النمط التاريخي المرتبط بالميليشيات؟ هل تمثل هذه الكيانات قوة للاستقرار داخل الدولة، أم إنها تشكل تحديا جوهريا لاستقرارها؟ السجل التاريخي معقد، ولكنه يشير إلى نمط متكرر بازدهار الميليشيات في فترات ضعف السلطة المركزية أو غيابها.

ترمز الميليشيات إلى حقبة سبقت نشوء الدول القوية وكل ما يرتبط بها، بما في ذلك الجيوش النظامية. وتستند ولاءات الميليشيات إلى روابط القرابة أو فئات اجتماعية أخرى، وليس إلى الدولة الوطنية. ومن خلال القوة العسكرية، غالبا ما تتحدى قوات الدولة القائمة، لكنها في أحيان أخرى تخدم مصالح الدولة، سواء بتعزيز الأمن الداخلي أو تحقيق مصالح خارجية.

الميليشيات، مصطلح مشتق جزئيا من الكلمة اللاتينية التي تعني "الجندي"، تحمل في طياتها تاريخا طويلا يمتد عبر قرون. يمكن تتبع جذورها إلى مقدونيا في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث ظهرت ككيانات عسكرية تطورت بمرور الزمن. في أوروبا خلال العصور الوسطى، أصبحت الميليشيات جزءا أساسيا من الحياة اليومية، حيث كان القادة المحليون يفرضون على الرجال البالغين القادرين على القتال أداء الخدمة العسكرية لفترات محددة.

في بريطانيا، قبل عام 1066، برزت ميليشيا "فيرد" خلال الحقبة الأنغلوسكسونية، وكانت وظيفتها الدفاع عن البلاد ضد غارات الفايكنغ. ومع ذلك، شهدت العصور الوسطى بداية تراجع دور الميليشيات مع صعود الجيوش المحترفة، وهو اتجاه تعزز عبر القرون، خاصة في القرن التاسع عشر، بالتزامن مع ظهور الدول الحديثة التي عززت من تنظيمها العسكري.

ورغم هذا التراجع التدريجي، لم تختفِ الميليشيات بالكامل، بل استمرت في لعب أدوار محورية في محطات تاريخية مفصلية. على سبيل المثال، خلال الثورة الأميركية (1775-1783)، كان للميليشيات دور رئيس في مقاومة الاستعمار البريطاني. في أميركا الاستعمارية، ظهرت الميليشيات بداية كتنظيمات محلية في البلدات، ثم تطورت إلى تشكيلات أكبر على مستوى المقاطعات. وقد كان من الصعب على المستعمرين تحدي الملك جورج الثالث وقوة بريطانيا العظمى دون تدخل هذه الميليشيات، خاصة في المراحل الأولى من الصراع، حين كانت القوات القارية الأميركية تفتقر إلى التدريب والتجهيز الكافيين. ومن بين أبرز المجموعات التي شاركت في تلك الحقبة، برزت ميليشيا "مينوتمن"، التي لعبت دورا جوهريا في السنوات الأولى من الكفاح الأميركي ضد البريطانيين.

شهد القرن العشرون تحولات جوهرية في الحروب، إذ أصبح الاحتراف العسكري سمة بارزة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومع ذلك، استمرت الميليشيات في الظهور بأدوار جديدة في سياقات الاضطراب، لا سيما خلال فترات إنهاء الاستعمار وإعادة تشكيل الدول القومية في أعقاب الحربين العالميتين، ثم مع نهاية الحرب الباردة. وظلت هذه التشكيلات العسكرية فاعلة في الكثير من النزاعات التي أعادت تشكيل المشهد السياسي العالمي.

لم تقتصر الاضطرابات التي تزدهر فيها الميليشيات على لبنان وحده، بل امتدت لتشمل مناطق أخرى مثل يوغوسلافيا السابقة والسودان وسوريا

برز "حزب الله" كواحد من أبرز الميليشيات في العصر الحديث، نتيجة للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والذي استهدف منظمة التحرير الفلسطينية  وزعيمها ياسر عرفات. نشأ "حزب الله"، بدعم مباشر من الحكومة الإيرانية، ليمثل شريحة واسعة من السكان الشيعة في لبنان، وأُعلن عن وجوده رسميا في عام 1985 كتنظيم متعدد الأوجه يجمع بين الأدوار السياسية والعسكرية.

ورغم انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، تمكن "حزب الله" من الحفاظ على ميليشيا  تطورت لتصبح قوة عسكرية تضاهي الجيش اللبناني. وقد برز دوره العسكري بشكل لافت خلال حرب عام 2006 مع إسرائيل، حين خاض مواجهة استمرت شهرا كاملا، أظهر خلالها مقاتلو "الحزب" صمودا أمام الجيش الإسرائيلي، مما عزز مكانته كقوة إقليمية فاعلة.

مع تزايد قوته العسكرية، توسع نفوذ "حزب الله" إلى ما يتجاوز الحدود اللبنانية. فقد أرسل مقاتليه لدعم نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، في خضم النزاع الداخلي الذي اندلع عام 2011 على خلفية أحداث "الربيع العربي". وقد ساهمت هذه التحركات في تعزيز مكانة "الحزب" العسكرية والإقليمية، لكنها في الوقت نفسه جعلته هدفا رئيسا لإسرائيل. وخصصت إسرائيل موارد كبيرة لاستهداف "حزب الله"، وهو ما أدى إلى إلحاق أضرار كبيرة بالبنية العسكرية للحزب، لا سيما خلال العمليات الأخيرة.

لم تقتصر الاضطرابات التي تزدهر فيها الميليشيات على لبنان وحده، بل امتدت لتشمل مناطق أخرى مثل يوغوسلافيا السابقة والسودان وسوريا. وأدى تفكك يوغوسلافيا السابقة عام 1991، بالتزامن مع نهاية الحرب الباردة، إلى إطلاق موجة واسعة من الأنشطة الميليشياوية القائمة على أسس عرقية، شملت قوى صربية وكرواتية ومسلمة. تمتلك تلك المنطقة تاريخا طويلا مع أنشطة الميليشيات، أبرزها خلال الحرب العالمية الثانية، حيث انخرطت جماعات عسكرية متعددة تعكس الانقسامات العرقية والسياسية العميقة في صراعات إلى جانب أطراف الحرب.

مع انهيار يوغوسلافيا، اندلعت صراعات عرقية مسلحة شاركت فيها الميليشيات بفاعلية، وارتُكبت خلالها فظائع واسعة النطاق. استمر دور الميليشيات لاحقا في النزاع حول إقليم كوسوفو بين عامي 1998 و1999.

ومؤخرا، شهد السودان نزوح ملايين الأشخاص نتيجة الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 2023. وتُعد "قوات الدعم السريع" الخصم الرئيس الذي يقاتل الجيش السوداني في هذا الصراع. تأسست هذه القوات عام 2013 على يد عمر البشير، رئيس السودان آنذاك، كقوة لمكافحة التمرد تستهدف الجماعات الانفصالية في إقليم دارفور.

وعلى مر السنوات، نمت "قوات الدعم السريع" في القوة والنفوذ، متجاوزة دورها الأصلي كمجرد قوة أمنية، لتتحول إلى كيان عسكري قوي يهدد بقايا الدولة السودانية.

خلال الإدارة الأولى لترمب، حظيت الميليشيات اليمينية المتطرفة، مثل "حراس القسم" و"الثلاثة في المئة"، باهتمام غير مسبوق في أميركا

والولايات المتحدة تقدم نموذجا فريدا ينبثق من إرثها التاريخي والأسطوري. خلال الثورة الأميركية، لعبت الميليشيات الشعبية دورا رئيسا في مقاومة الحكم البريطاني، ما رسّخ صورة الميليشيات كجزء من الهوية الوطنية. في العقود الأربعة الماضية، شهدت أميركا نموا  ملحوظا  للميليشيات اليمينية  المتطرفة، مستفيدة من هذا الإرث التاريخي. وبرزت هذه الجماعات بشكل لافت عام 1995، بعد تفجير مدينة أوكلاهوما الذي أودى بحياة 168 شخصا. وتبيّن أن المسؤولين عن الهجوم حضروا اجتماعات جماعة تعرف باسم "ميليشيا  ميشيغان".

Alamy 
ميليشيا صربية من جنوب صربيا / مقدونيا

وأظهرت أنشطة  الميليشيات نمطا متذبذبا يعتمد على الأحداث السياسية الداخلية. فخلال الإدارة الأولى لترمب، حظيت الميليشيات اليمينية المتطرفة، مثل "حراس القسم" و"الثلاثة في المئة"، باهتمام غير مسبوق في أميركا، حيث تُعد حيازة الأسلحة حقا وليس امتيازا. وقد استمدت المجموعة الأخيرة اسمها من الادعاء المشكوك فيه بأن ثلاثة في المئة فقط من المستعمرين الأميركيين حملوا السلاح ضد البريطانيين خلال الثورة الأميركية.

يُظهر النمط التاريخي للميليشيات أنها تمثل عرَضا أكثر من كونها سببا لعدم الاستقرار. فالميليشيات تنشأ عادة في ظل غياب السلطة المركزية أو ضعفها أو فقدانها للشرعية. هذه الديناميكية تنطبق بشكل كبير على السياق السوري اليوم. فاستمرار وجود الميليشيات القوية هناك يُعد مؤشرا واضحا على عمق الانقسامات الداخلية.

font change

مقالات ذات صلة