الميليشيات تعود إلى الواجهة مجددا مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا على يد قوات المتمردين التابعة لـ"هيئة تحرير الشام"(HTS) في ديسمبر/كانون الأول. يثير هذا الحدث تساؤلات عديدة حول مستقبل استقرار البلاد. إذ تسيطر ميليشيات كثيرة، بما في ذلك تلك التي يديرها الأكراد، على مناطق مختلفة من سوريا. لكن ما هو النمط التاريخي المرتبط بالميليشيات؟ هل تمثل هذه الكيانات قوة للاستقرار داخل الدولة، أم إنها تشكل تحديا جوهريا لاستقرارها؟ السجل التاريخي معقد، ولكنه يشير إلى نمط متكرر بازدهار الميليشيات في فترات ضعف السلطة المركزية أو غيابها.
ترمز الميليشيات إلى حقبة سبقت نشوء الدول القوية وكل ما يرتبط بها، بما في ذلك الجيوش النظامية. وتستند ولاءات الميليشيات إلى روابط القرابة أو فئات اجتماعية أخرى، وليس إلى الدولة الوطنية. ومن خلال القوة العسكرية، غالبا ما تتحدى قوات الدولة القائمة، لكنها في أحيان أخرى تخدم مصالح الدولة، سواء بتعزيز الأمن الداخلي أو تحقيق مصالح خارجية.
الميليشيات، مصطلح مشتق جزئيا من الكلمة اللاتينية التي تعني "الجندي"، تحمل في طياتها تاريخا طويلا يمتد عبر قرون. يمكن تتبع جذورها إلى مقدونيا في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث ظهرت ككيانات عسكرية تطورت بمرور الزمن. في أوروبا خلال العصور الوسطى، أصبحت الميليشيات جزءا أساسيا من الحياة اليومية، حيث كان القادة المحليون يفرضون على الرجال البالغين القادرين على القتال أداء الخدمة العسكرية لفترات محددة.
في بريطانيا، قبل عام 1066، برزت ميليشيا "فيرد" خلال الحقبة الأنغلوسكسونية، وكانت وظيفتها الدفاع عن البلاد ضد غارات الفايكنغ. ومع ذلك، شهدت العصور الوسطى بداية تراجع دور الميليشيات مع صعود الجيوش المحترفة، وهو اتجاه تعزز عبر القرون، خاصة في القرن التاسع عشر، بالتزامن مع ظهور الدول الحديثة التي عززت من تنظيمها العسكري.
ورغم هذا التراجع التدريجي، لم تختفِ الميليشيات بالكامل، بل استمرت في لعب أدوار محورية في محطات تاريخية مفصلية. على سبيل المثال، خلال الثورة الأميركية (1775-1783)، كان للميليشيات دور رئيس في مقاومة الاستعمار البريطاني. في أميركا الاستعمارية، ظهرت الميليشيات بداية كتنظيمات محلية في البلدات، ثم تطورت إلى تشكيلات أكبر على مستوى المقاطعات. وقد كان من الصعب على المستعمرين تحدي الملك جورج الثالث وقوة بريطانيا العظمى دون تدخل هذه الميليشيات، خاصة في المراحل الأولى من الصراع، حين كانت القوات القارية الأميركية تفتقر إلى التدريب والتجهيز الكافيين. ومن بين أبرز المجموعات التي شاركت في تلك الحقبة، برزت ميليشيا "مينوتمن"، التي لعبت دورا جوهريا في السنوات الأولى من الكفاح الأميركي ضد البريطانيين.
شهد القرن العشرون تحولات جوهرية في الحروب، إذ أصبح الاحتراف العسكري سمة بارزة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومع ذلك، استمرت الميليشيات في الظهور بأدوار جديدة في سياقات الاضطراب، لا سيما خلال فترات إنهاء الاستعمار وإعادة تشكيل الدول القومية في أعقاب الحربين العالميتين، ثم مع نهاية الحرب الباردة. وظلت هذه التشكيلات العسكرية فاعلة في الكثير من النزاعات التي أعادت تشكيل المشهد السياسي العالمي.