الثابت والمتحول في موقع "حزب الله" داخل المعادلة اللبنانية

وحدة المسار والمصير بين بيروت ودمشق لم تكن مرة مطروحة كما هي اليوم

شاترستوك
شاترستوك
السرايا الحكومية في بيروت

الثابت والمتحول في موقع "حزب الله" داخل المعادلة اللبنانية

ثمة سؤال أساسي لا بد من التفكير فيه ومحاولة الإجابة عليه لاستقراء معالم الوضع اللبناني الجديد وتداخل العوامل الداخلية والخارجية فيه ظل المتغيرات التي شهدتها المنطقة خلال الأشهر الأخيرة. والسؤال هو: هل "حزب الله" يعتبر أن انتخاب الرئيس جوزيف عون وتكليف رئيس الحكومة نواف سلام هما ضده بالمطلق، وبالتالي يجب أن يدخل في مواجهة معهما على اعتبار أنهما فرضا بإرادة خارجية وبالأخص أميركية لمحاصرته في الداخل اللبناني؟ أم إن "حزب الله" يتعامل مع الوضع السياسي الجديد على أنه نتيجة المتغيرات في المنطقة ومن ضمنها لبنان والتي لا حول ولا قوة له في منعها، وبالتالي فهو مسلّم بضرورة مواكبة المرحلة الجديدة والحد من خسائره فيها بدلا من الذهاب إلى مواجهة مفتوحة مع الوقائع الجديدة بدءا من الحكومة العتيدة؟

عمليا لا يمكن التعامل مع هذه الأسئلة كما لو كانت شأنا لبنانيا بحتا، وتفصيلا في خضم التعقيدات الجيوسياسية التي طرأت على المنطقة بدءا من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ومن ثم ضد "حزب الله" في لبنان وصولا إلى سقوط نظام الأسدين في سوريا وما بينهما من مواجهات متنقلة في طول المنطقة وعرضها وصولا إلى إيران التي تلمست خطورة المرحلة وتلقت خسائر استراتيجية قد لا تقدر على تعويضها، ما اضطرها للتراجع خطوة إلى الوراء وانتظار مبادرات دونالد ترمب تجاهها أو ضدها.

فالواقع أن هذه الأسئلة متصلة اتصالا وثيقا بكل ما يجري في المنطقة وبكل ما يحضّر لها، خصوصا في ظل الإدارة الأميركية الجديدة والتي تتبنى مقاربات مختلفة للشرق الأوسط لم ولن تخلو من عنصر المفاجأة التي يصعب على الأطراف التعامل معه وإن كانوا يحاولون التقليل من وطأته عليهم، وهذا لا ينطبق على فصائل محدودة القوة والنفوذ كما "حزب الله" بل على دول بعينها مثل مصر والأردن التي يصر ترمب على تهجير جزء من فلسطينيي قطاع غزة إليهما.

لكن مع ذلك فإن صلة "حزب الله" البنيوية والعميقة مع إيران تجعل حركته من حركتها وتطلعاته من تطلعاتها ومخاوفه ارتدادا لمخاوفها، وبالتالي فإن "حزب الله" أيضا ينتظر بشكل أو بآخر خلاصات السياسات الأميركية الجديدة ليس للوقوف ضدها بالضرورة لكن للتعامل معها بالممكن والمتاح ومحاولة تجنب أضرارها عليه لا بل والتأقلم معها ومحاولة الاستفادة منها ضمن "الترتيبات" الجديدة في لبنان والمنطقة.

وهنا لا يمكن القياس على تجربة "حزب الله" منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لاستنتاج أن "الحزب" راديكالي في تكوينه ولا يحمل أي خصائص برغماتية. فمحاولة "الحزب" تجنب الحرب طيلة عام كامل إلى أن دفع إليها كخيار محتوم ومصير حتمي كان دليلا واضحا على برغماتيته عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى كالحرب مع إسرائيل وإن كانت هذه البرغماتية قد حفّزت إسرائيل على شن حربها ضدّه من ضمن حسابات معقدة متصلة أساسا بالقرار الإيراني الحاسم بعدم دخول الحرب بشكل مباشر.

المعادلات السياسية الجديدة في رئاسة الجمهورية والحكومة، ولاحقا في المجلس النيابي، تدفع باتجاه إسقاط احتكار الأحزاب كل الأحزاب للمجال السياسي

بيد أن تجربة "الحزب" المريرة مع الحرب الأخيرة لن تدفعه إلى التخلي عن برغماتيته والذهاب باتجاه خيارات راديكالية ستكون في الواقع خيارات انتحارية في ظل نتائح الحرب الأخيرة والتحولات الكبرى في المنطقة وفي مقدمتها سقوط "سوريا الأسد" التي كانت موئله وحديقته الخلفية وطريق إمداداته، بل على العكس تماما فهو يبدو مستعدا للانحناء للعاصفة وتجرع "كأس السم" بدءا من المشاركة في الحكومة الجديدة في لبنان بشروط أقل من تلك التي كان يفرضها عند تشكيل الحكومات طيلة المرحلة السابقة والتي كان يفرض فيها هيمنة شبه كاملة على خريطة السلطة في لبنان.

وليس قليل الدلالة في هذ السياق أن "حزب الله" سرعان ما تراجع عن الموقف الابتدائي من تكليف القاضي نواف سلام الذي لم يسمِه وخرج رئيس كتلته النيابة محمد رعد ليتحدث عن حكومة إقصاء، ثمّ ما لبث أن دخل في مفاوضات تشكيل الحكومة مع الرئيس المكلف وفق معايير مختلفة مؤداها أن "الحزب" وحليفه رئيس البرلمان نبيه بري لا يمكنهما فرض شروطهما بالكامل على سلام بل إن مشاركتهما ستكون مشروطة بارتضاء شروط الرئيس المكلف، وهذا دليل كاف على حجم التحولات التي طرأت على موازين القوى في لبنان، ليس بفعل رجحان هذه الموازين للقوى اللبنانية الخصمة لـ"الثنائي الشيعي" بل لأن المتغيرات الإقليمية أضعفت "حزب الله" من دون أن تنزاح قوته إلى خصومه، بل إن ضعفه الذي حفّز انخراط القوى العربية والدولية أو أتاح هذا الانخراط سمح بقيام معادلة سياسية جديدة في لبنان لا تقوم في الأساس على إعادة إنتاج اللاعبين القدامى وفي مقدمتهم "حزب الله"، وهو ما يفسر وصول شخصين من خارج النادي السياسي إلى سدة الحكم هما الرئيسان عون وسلام.

أ.ف.برئيس الحكومة المكلف نواف سلام يدلي ببيان في القصر الرئاسي في بعبدا، 14 يناير 2025

وهذا لا يعني استبعاد هؤلاء اللاعبين من المشهد وكأنهم غير موجودين وليسوا مؤثرين البتة وليس لهم أنصار وجمهور، بل إن الأصل في المشهد الجديد أن المعادلات السياسية الجديدة في رئاسة الجمهورية والحكومة، ولاحقا في المجلس النيابي، تدفع باتجاه إسقاط احتكار الأحزاب كل الأحزاب للمجال السياسي وإن كان موقع "حزب الله" في هذه المعادلات وكيفية تعامله معها سلبا أو إيجابا هما الأكثر تأثيرا في رسم ملامح المرحلة الجديدة في لبنان.

ثمة تحوّل أكيد في مسار "العلاقة" بين واشنطن و"حزب الله"، وهو تحول يترافق مع تحول في وضعية "حزب الله" ككل بفعل خسائره الفادحة في الحرب وسقوط نظام الأسد

إذن ما ينبغي التوقف عنده أولا أن "حزب الله" أعاد التأكيد على برغماتيته في التعامل مع المتغيرات على الساحة الداخلية والتي هي في الأساس انعكاس للمتغيرات في المنطقة وتبدل موازين القوى الإقليمية والدولية فيها، وهذه البرغماتية لا يمكن قياسها على كيفية تعامل "الحزب" مع انتخاب عون وتكليف سلام بوصفهما شأنا داخليا بحتا، بل إن ما يفترض أخذه في الاعتبار أن "حزب الله" يتعامل مع الداعمين الإقليميين والدوليين للمرحلة الجديدة في لبنان والتي لا يمكن فصلها أبدا عن المرحلة الجديدة في سوريا.

وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن أوساطا إعلامية قريبة من "حزب الله" كانت قد أشارت إلى أن "الثنائي الشيعي" تلقى نصيحة بأن يفاوض الأميركيين وليس الرئيس عون على انتخابه وعلى أسس العملية السياسية في المرحلة المقبلة، لكنه لم يأخذ بها. وسواء كانت هذه "المعلومة" دقيقة أم لا، فإنها تذكّر بأن المسار السياسي في لبنان كان قائما طيلة الفترة الماضية على تفاوض أو تقاطع مباشر أو غير مباشر بين "الثنائي الشيعي" وواشنطن، سواء عند توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022، أو عند التوصل إلى وقف لإطلاق النار في الحرب الأخيرة في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أو كذلك عند التمديد لهذا الاتفاق الأحد الماضي، وإن كان "الحزب" قد نفى الموافقة على هذا التمديد لكنه عمليا يلتزم به ولم يقم بأي رد فعل سياسي أو عسكري ضده، بل لا يزال يحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي لمناطق في جنوب لبنان.

 أ ف ب صورة لزعيم "حزب الله" السابق حسن نصر الله على انقاض مبنى في منطقة الرويس في ضاحية بيروت الجنوبية

من المؤكد أننا الآن إزاء مرحلة مختلفة في ظل كل التحولات منذ السابع من أكتوبر 2023 ومع بداية الولاية الثانية لدونالد ترمب الذي لن يتضح بعدُ كيف سيتعامل مع إيران وبالتالي مع حلفائها أو أذرعها الإقليميين وفي مقدمتهم "حزب الله". لكن من المؤكد أيضا أنه لا يمكن قراءة الوضع اللبناني الجديد من زاوية أنه سيكون هناك صدام أكيد بين "حزب الله" وواشنطن في بيروت، وإن كان من الصعب الظن أنه سيكون هناك تطبيع أميركي مع "الحزب" إلى درجة "السماح" له بإعادة إنتاج منظومته العسكرية والاقتصادية والسياسية كما كانت قبل الحرب.

إذن ثمة تحوّل أكيد في مسار "العلاقة" بين واشنطن و"حزب الله"، وهو تحول يترافق مع تحول في وضعية "حزب الله" ككل بفعل خسائره الفادحة في الحرب وسقوط نظام الأسد الذي لم يُقدّر كفايةً بعدُ حجمُ تأثيره الكبير على "الحزب". لكن "حزب الله" وإن كان قد بدأ يقدم قراءة مختلفة لنتائج الحرب ولمعايير الانتصار والهزيمة وللإصلاح في الدولة اللبنانية، فإنه لا يزال غير مستعد لإجراء قراءة نقدية لتجربته السابقة بين العمل السياسي والعسكري، أي إنه غير مستعد لإجراء تحول على مستوى منظومته السياسية والعسكرية يواكب التحول الذي طرأ على وضعيته ككل بعد الحرب والتغيير الكبير في دمشق.

لبنان كما سوريا يمران الآن بمرحلة انتقالية وكأن وحدة المسار والمصير بين البلدين لم تكن مرة مطروحة كما هي اليوم

وهذه جدلية أساسية من جدليات المرحلة الانتقالية في لبنان وسوريا، والسؤال الرئيس هنا إلى أي حد سيكون "حزب الله" مستعدا لإعادة التموضع والمباشرة بعملية تحول داخلية لمواكبة المشهد الجديد في المنطقة؟ وهذا قبل السؤال إلى أي حد ستضغط واشنطن على "حزب الله" لتسليم سلاحه بدءا من جنوب الليطاني؟ وليست قليلة الدلالة أيضا في هذا السياق دعوة وليد جنبلاط لـ"حزب الله" للتحول إلى حزب سياسي والتخلي عن العمل العسكري، أي عمليا عن "المقاومة". فهذه الدعوة ليست صادرة عن خصم لدود أو معلن لـ"حزب الله" بل عن شخص لا يمكن اختصار علاقته مع "الحزب" و"المقاومة" بأنها علاقة خصومة أو عداوة، بل هي علاقة تتموضع بحسب موازين القوى في المنطقة وبالأخص بين لبنان وسوريا، ولذلك فإن دعوة جنبلاط تلك هي دليل أكيد على أن ثمة تحولا كبيرا حصل في المنطقة وأن ما كان من الثوابت في الماضي لا يمكن أن يكون كذلك في المستقبل وهو ما ينطبق على "حزب الله" قبل غيره.

أ.ف.بلوحة إعلانية تحمل صورة للرئيس جوزيف عون

والحال أنه لا يمكن تلمس آفاق "العلاقات" الأميركية مع "حزب الله" من مجريات العملية السياسية في بيروت وحسب، إذ إن مساحة أساسية من مسار هذه "العلاقات" يتحدد في جنوب لبنان، حيث تشرف واشنطن على تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، والذي حتى الآن لا يبدو أنه يطبق كما كتب، أو أنه يطبق وفق "النسخة" الإسرائيلية وبدعم أميركي. والأهم أنه ليس من المؤكد أن الجيش الإسرائيلي سينسحب بشكل كامل من جنوب لبنان في الموعد المقرر يوم 18 فبراير/شباط، وهو ما يدفع إلى الربط ليس بين احتلال الجيش الإسرائيلي لمواقع في لبنان ونزع سلاح "حزب الله" في جنوب الليطاني وحسب، بل أيضا بين هذا الاحتلال والأجندة السياسية لواشنطن في لبنان من ضمن أجندتها الموسعة في المنطقة والتي تقوم في أهم عناوينها على توسيع مساحة التطبيع الإقليمي مع إسرائيل. ولعل هذا هو المحك لمستقبل "العلاقات" بين واشنطن و"حزب الله" صراعا أو تطبيعا، وليس ما إذا كان "الثنائي الشيعي" سيحتفظ بوزارة المال في الحكومة العتيدة أم لا.

وفي المحصلة، فإن لبنان كما سوريا يمران الآن بمرحلة انتقالية، وكأن وحدة المسار والمصير بين البلدين لم تكن مرة مطروحة كما هي اليوم، لكن مع فارق أنه في الماضي كان "حزب الله" جزءا من سوريا، أما اليوم فهو خارجها تماما، وهذا فارق كبير وتاريخي يدفع التفكير فيه وقراءة احتمالاته إلى فهم كل المتغيرات الحاصلة في الإقليم بدءا من تشكيل الحكومتين اللبنانية والسورية إلى مسارات التطبيع المعقدة في المنطقة.

font change