عندما يستغيث أبو حيان

عندما يستغيث أبو حيان

هناك من يعد أبا حيان التوحيدي معبرا عن ثقافة النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، لما كان له من سعة في معارفه، ومن دقة في ملاحظاته وآرائه.

وقد غلبت عليه شخصية الفيلسوف لما كان له من اطلاع على الفلسفة والمنطق اليونانيين، ومن صلة بالحركات الصوفية. إلا أنه إضافة إلى ذلك كان ذا شخصية أدبية فذة، وأخرى نقدية ثاقبة.

ولكن التوحيدي- على الرغم مما تقدم- عاش حياة بائسة جدا. عاش فقيرا منبوذا مغبونا. ومما يدل على مدى البؤس الذي عاناه تلك الرسالة الحزينة المستغيثة التي كان قد وجهها إلى صديقه أبي الوفاء البوزجاني، والتي يختم بها الجزء الثالث من كتابه الشهير "الإمتاع والمؤانسة"، ونورد منها ما يأتي: "خلصني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء والعشاء... إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ قد والله بح الحلق، وتغير الخلق. اللهَ اللهَ في أمري، اجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صَدٍ، أغثني فإنني ملهوف، شهرني فإنني غفل، حلني فإنني عاطل...".

يتساءل المتأمل في هذه الرسالة المفعمة بالتفجع: كيف استطاع شخص مسحوق إلى هذا الحد أن ينتج ما أنتجه في ميادين المعرفة؟ وهو الذي ألف أكثر من عشرين كتابا، لم يبقَ منها إلا القليل. ومن كتبه الباقية :"الهوامل والشوامل"، "الصداقة والصديق"، "البصائر والذخائر"، "المقابسات"، "الإشارات الإلهية"، إضافة إلى "الإمتاع والمؤانسة".

المتأمل في رسالة أبي حيان يتعجب من قدرته في الظروف الصعبة التي عاشها على التصدي لأعقد المسائل الفكرية بذكاء وقاد وبصيرة نفاذة. يتعجب من ذلك ويأسى لأبي حيان بسبب الأهوال التي واجهها، وبسبب الغبن الذي لحق به. وقد لا يتعجب كثيرا مما روي عنه أنه في آخر أيامه عمَد إلى إحراق كتبه انتقاما من الناس الذين جحدوا أدبه وعلمه.

استغاث أبو حيان التوحيدي بصديقه أبي الوفاء البوزجاني، الذي عرف بالمهندس، وقال عنه ابن خلكان إنه واحد من أئمة المشاهير في علم الهندسة.

وقد أغاث البوزجاني صديقه، فقدمه إلى الوزير أبي عبدالله العارض، الذي جعله من سماره، فسامره أبو حيان حوالي أربعين ليلة. وفي كل ليلة كان السمَر يدور حول موضوع رئيس يحدده الوزير بسؤال يلقيه. لكن الإجابة كانت غالبا ما تثير أفكارا ومسائل عند الوزير، فيستطرد أبو حيان ويتناول أمورا كثيرة متنوعة، إلى أن يتطاول الليل، فيطلب الوزير "ملحة الوداع" التي تكون إما نادرة لطيفة وإما أبياتا رقيقة من الشعر.

من يقرأ في مؤلفات أبي حيان التوحيدي يجني الكثير من الفائدة والمتعة، ومن يقرأ في سيرته يشعر بالكثير من الأسى. وكم هنالك من أمثاله من المبدعين الذين عاشوا أهوال القهر والحرمان

بعد انقضاء هذه الليالي من السمر، طلب أبو الوفاء من أبي حيان أن يسجل ما دار بينه وبين الوزير من حديث. فأجاب أبو حيان، وفضل أن يدون الأحاديث في كتاب يشتمل على كل شيء من دقيق وجليل، من حلو ومر، وأن يتوخى الحق والصدق في عرضه. فكان كتاب "الإمتاع والمؤانسة".

المصادفة إذن هي التي قيضت لهذا الكتاب القيم أن يظهر. ولعل الوجه الأهم للمصادفة يتمثل في وجود وزير واسع الثقافة قرّب أبا حيان إليه، لأنه من مقدري العلم ومحبيه. فشخصية الوزير ليست عادية، بل هي استثنائية، لما فيها من تعطش لدى رجل السياسة إلى العلم والأدب، ولما فيها أيضا من إلمام بشؤون العلم والأدب، وما يتصل بهما من قريب أو بعيد.

وفي الكتاب مسائل من كل علم وفن. فمن أدب، إلى فلسفة، إلى أخلاق، إلى طبيعة، إلى بلاغة وتفسير وحديث، إلى غناء، إلى سياسة، إلى كلام على الحيوان، إلى كلام على الحروب، إلى تحليل لشخصيات فلاسفة العصر وأدبائه وعلمائه. ومن أطرف ما في الكتاب، المناظرة البديعة التي يرويها أبو حيان في الليلة الثامنة، وهي التي كانت قد جرت بين عالم النحو أبي سعيد السيرافي وعالم المنطق متى بن يونس القنائي. في هذه المناظرة يقع القارئ على وجه من وجوه التصادم أو التفاعل بين ثقافتين: اليونانية ممثلة بالمنطق، والعربية ممثلة بالنحو. ومن شأن القارئ أن يلاحظ العمق في المناقشة والبراعة في سوق الحجج والبراهين.

من يقرأ في مؤلفات أبي حيان التوحيدي يجني الكثير من الفائدة والمتعة، ومن يقرأ في سيرته يشعر بالكثير من الأسى. وكم هنالك من أمثاله من المبدعين الذين عاشوا أهوال القهر والحرمان، واستطاعوا- على الرغم من ذلك- أن يضعوا في أعمالهم ما يضيء للأجيال عبر العصور.

font change
مقالات ذات صلة