المرض والكتابة

المرض والكتابة

كثير من كبار المفكرين حولوا أمراضهم إلى قوة تشدهم إلى الحياة. لنتذكر نيتشه مع الجنون، دوستويفسكي مع الصرع، توماس مان مع السل، بودلير مع مرض الزهري، ودولوز- الأقرب إلينا- مع مرض السل.

لنتوقف عند ما قاله هذا الأخير في الأبجدية عن مرضه. كان يصف حاله بأنه يتمتع بـ"صحة هشة" (Une petite santé) إلا أنه كان يرى في هذه الهشاشة "حالا مباركة، لأنها تقود المرء إلى الإصغاء، ليس إلى ما يحدث داخله، بل إلى الحياة التي تمر عبره، تلك الحياة التي هي أيضا أكبر بقليل مما يستطيع تحمله".

كيف يمكن للمرء أن يستفيد من المرض لاستعادة شيء من القوة من خلاله؟ المرض يزيد درجة التفكير شدة ليس لأنه يدفع المريض للإصغاء إلى ذاته وحياته الشخصية، وإنما لأنه يزيده هشاشة، ويحثه على الإصغاء إلى الحياة، فيدرك أشياء تفوقه عظمة. إذ لا يمكن للإنسان أن يُفكر حقا إذا لم يكن في مجال يتجاوز قليلا قدراته، أي في مجالٍ يجعله يحس نوعا من الهشاشة. ذلك أن المرض، حسب دولوز "ليس عدوا، وهو ليس إحساسا بالقرب من الموت، وإنما هو ما يزيد الحياة قوة وشدة". يصر صاحب "نيتشه والفلسفة" على أن تلك الشدة لا تعني إطلاقا تعلقا بملذات الحياة. ذلك أن ما فعله المرض بالضبط هو أنه حوله من مجرد "محب لملذات الحياة" (Bon vivant) إلى متعطش للحياة ذاتها (Grand vivant) على حد تعبيره. بهذا المعنى كان نيتشه قد كتب في "هو ذا الإنسان": "إن كائنا من النوع المريض في الأساس، ليس بإمكانه أن يغدو معافى، وأقل من ذلك، أن يكون بإمكانه معالجة نفسه. وفي المقابل، فإن الإصابة بالمرض ستكون بالنسبة إلى من هو معافى بطبعه حافزا حيويا للإقبال على الحياة، الحياة بكثافة. هكذا تتراءى لي الآن تلك الفترة الطويلة من المرض: لقد اكتشفت الحياة من جديد".

بهذا المعنى فإن صاحب "زرادوشترا" لا يفرق بين المرض والصحة، أو لنقل، على الأقل، لا يتصورهما في انعزال عن بعضهما، يقول: "أما بالنسبة إلى المرض الطويل الذي ينهكني، أليس علي أن أدين له بما لا يقاس أكثر مما أدين لصحتي الجيدة؟ إنني أدين له بصحة أسمى، يقويها كل ما لا يقضي علي! أدين له بفلسفتي. فالألم العظيم وحده هو الذي يحرر العقل تماما... فـبالنسبة إلى الشخص السليم، قد يصبح المرض، على العكس، حافزا قويا يثير غريزته الحيوية ويعززها".

لا يتعلق الأمر هنا، بطبيعة الحال، بتمجيد الألم، وإنما بأن يواجه المرء واقعه، وواقعه هو "واقعه كمريض". من أجل تلك المواجهة، كما يقول نيتشه: "لا يملك المريض سوى علاج كبير واحد، أسميه "الاستسلام الروسي للقدر"، ذلك الاستسلام الخالي من التمرد الذي يتميز به الجندي الروسي عندما يجد أن الحملة شديدة القسوة، فيستسلم للجليد".

نيتشه: أعطاني المرض أيضا الحق في تغيير جميع عاداتي تغييرا كاملا، فأذن لي- بل وأمرني- بأن أستسلم للنسيان... منحني المرض واجب البقاء في الفراش، والكسل، والانتظار، والصبر

هذا الإصرار وهذا العناد هما علامة على "إرادة حياة"، وهما ما يضمن له فرحته بالحياة و"طاقته الإيجابية الدائمة". ليست فرحة المريض هي فرحة من "يحب ملذات الحياة" ويتعلق بها، وإنما هي فرح من يعشق الحياة ذاتها. إنه فرح سبينوزي لا ينتظره صاحبه عند تلقي خبر سار، إذ إنه ليس مجرد إحساس تفاعلي، بل هو حالة يختار الإنسان تبنيها عمدا لتحقيق رهانه بنجاح، وحينها سيكون الحزن هو أن يجد نفسه منفصلا عن قوة تشده إلى الحياة، وليس فقط أن يحرم من ملذاتها. وهذا بالضبط ما يقوله دولوز عن مرضه، فهو لم يكن يعيش على أمل تلقي ما يفرح، وإنما كان، كما يقول في الأبجدية، "يفضل أن يعوض مسألة وجود الأمل أو عدمه بفكرة صنع رهان جيد ومتين". هذا الرهان يدفع المريض إلى أن يحس بأن عليه أن لا يعول على شيء، وأن لا يتكئ على سند.

لقد أبعد المرض صاحب "المسافر وظله" شيئا فشيئا عن محيطه، ووفر عليه أي قطيعة أو خطوة عنيفة ومتهورة: "في تلك اللحظة، لم أفقد أيا من مظاهر الرعاية التي كانت تحيط بي، بل اكتسبت مظاهر جديدة منها. وأعطاني المرض أيضا الحق في تغيير جميع عاداتي تغييرا كاملا، فأذن لي- بل وأمرني- بأن أستسلم للنسيان... منحني المرض واجب البقاء في الفراش، والكسل، والانتظار، والصبر... لقد تحررت من الكتب، لسنوات طويلة لم أقرأ شيئا، وكان ذلك أعظم نعمة منحتها لنفسي على الإطلاق! في الواقع، هكذا تبدو لي الآن تلك الفترة الطويلة من المرض التي عشتها: لقد اكتشفت الحياة من جديد، بما في ذلك نفسي، استمتعت بكل الأشياء الجميلة وحتى بأبسط الأمور، بطريقة يصعب على الآخرين ربما أن يستمتعوا بها". ثم يعقب نيتشه على كل هذا: "ولكن هذا هو بالتحديد ما يُسمى التفكير".

عدد كبير من المبدعين واجهوا المرض من خلال الكتابة، مستمدين منها مصدر إلهام، أو متحدّين الألم بالكلمات

قد نستغرب هذه الحيوية الذهنية عند من لم يفارقه المرض طيلة حياته. إلا أن ما يهمنا هنا هو أن "ما لم يقض عليه، جعله أقوى مما كان"، كما يقول. وذلك بالضبط ما أبعده عن "الكتب" وما يقوله الآخرون، ليدفعه إلى إعمال الفكر، وامتهان الكتابة أداة للعلاج.

نعلم أن عددا كبيرا من المبدعين واجهوا المرض من خلال الكتابة، مستمدين منها مصدر إلهام، أو متحدّين الألم بالكلمات. هذا المزيج المثير من الحالات يسلط الضوء على المواجهة بين اللغة والألم الذي لا يوصف، بين الكلمة والمرض، مما يضع البحث عن معنى المعاناة في صميم الكتابة نفسها.

كانت الأديبة فرجينيا وولف تؤمن بالكتابة وسيلة للعلاج. فقد كانت بالنسبة إليها طريقا لتمرير الألم. لكن كتابتها لم تكن تحميها من الآثار القاتلة لكل أزمة من أزماتها، لذا كان كل كتاب تكتبه، وخاصة كل نشر لكتاب، يقودها إلى آخر مقاومة للمرض.

قال نيتشه عن كتابه "إنسان مفرط في إنسانيته": "كل جملة من هذا الكتاب هي مضاد حيوي للمرض".

font change