مسيرة صوت معجز: أم كلثوم مِن تزعم التجديد إلى ختم الطرب

هكذا ثوّرت مع القصبجي الغناء ونقلته إلى آفاق غير مسبوقة

Lina Jaradat
Lina Jaradat

مسيرة صوت معجز: أم كلثوم مِن تزعم التجديد إلى ختم الطرب

قبل مئة عام، أحيت أم كلثوم أولى حفلاتها في القاهرة، قادمة من الريف الذي جابته على الأقدام ثم على البهائم قبل أن يسمح لها أجرها بركوب القطارات متى كان ذلك متاحا. نسجت الحفلات التي أحيتها شبكة واسعة من العلاقات بوجهاء الريف وأنصاف الوجهاء صارت سندا لها في ما بعد، حيث ترى الباحثة فرجينيا دانيلسون في كتابها "صوت مصر: أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين"، أن هؤلاء كانوا من اشترى أسطوانات أم كلثوم بأعداد هائلة وأمّنوا لها نجاحا تجاريا مبهرا ومبكرا. أما في القاهرة فانقسمت الآراء ما بين وجهاء من أصل ريفي غالبا، مثل آل عبد الرازق، ممن خاطبت أم كلثوم بأسلوب إنشادها المبني على التواشيح الدينية والبطانة ذائقتهم، وبين من اعترض على صفحات الجرائد متسائلا أين التجديد الذي تقدمه إن لم تكن غير منشدة دينية، كما كتب في "روز اليوسف" آنذاك.

بعد أقل من عقد من السنوات كانت أم كلثوم أصبحت المطربة الأبرز في مصر والمنطقة، وباتت وجها تبرزه الملكية في ختام مؤتمرها عن الموسيقى سنة 1932 (وهو كان يستهدف، بين أمور أخرى، إبراز محورية مصر في "الموسيقى العربية" وتمييزها عن "الموسيقى الشرقية" لا سيما التركية العثمانية). وما لبثت أن أصبحت صديقة الباشوات ونساء الطبقة العليا، في الوقت الذي تصدرت فيه، فنيا وتجاريا، فن الغناء وأزاحت من كن سابقا منافساتها، خصوصا منيرة المهدية التي تراجعت مع تراجع المسرح الغنائي الذي استثمرت فيه معظم طاقتها، وفتحية أحمد التي كانت تنقطع عن المشهد القاهري للسفر أو للزواج، ثم تعود دون أن تصل إلى مرحلة تصدر الساحة.

تزعم التجديد لكن في خفاء

لم يكن هذا النجاح وإزاحة المنافسات ممكنا بالاستناد إلى ذكاء أم كلثوم الاجتماعي وفطنتها فحسب، بل إلى كونها تزعمت فعليا عملية تجديد أسلوب الغناء الأنثوي وإعادة صياغته بشكل كبير، مما حولها إلى مدرسة المطربات اللاحقات. أما الذكاء فكان في عدم إشاعتها عن نفسها صورة التجديد هذه، التي ربما كانت لتضر بشعبيتها في أوساط تتوقع من المرأة نوعا من المحافظة التقليدية والتي كانت ستضعها في موضع مقارب لـ"زعيم المجددين" آنذاك، أي المنافس في مجال المبيعات والشهرة، محمد عبد الوهاب الذي كان يمثل الوجهة العصرية الراغبة علنا في الأخذ بمظاهر الحياة الغربية. فنجد بقلم رجاء النقاش في كتاب "لغز أم كلثوم" (ص. 17 و18) القول إن آل عبد الرازق ساعدوا أم كلثوم في إيجاد "الحل الصحيح" ولم يكن هذا غير "المزج الأصيل الصادق بين العمامة والقبعة"، أي إنها "لم تتخل عن أساليب الفن الشرقي نهائيا، بل احتفظت بأصول هذا الفن وتقاليده وأضافت إليه وجددته". إلا أن أم كلثوم، وتحت ستار صورة الحفاظ على إرث الموسيقى التقليدية و"روحها" المحلية، كانت في الواقع تغير جذريا أسلوب الغناء بالتعاون مع زعيم فعلي للتجديد، وأستاذ محمد عبد الوهاب نفسه، أي محمد القصبجي.

ليس المقصود هنا محصورا فقط في التجديد في كلمات الأغاني، بالانتقال من الطقاطيق بكلامها العامي الطريف والأدوار بصنعتها المتكلفة والقصائد بشعريتها القديمة، إلى تجديدات أحمد شوقي (مع عبد الوهاب بداية) ورومانسية أحمد رامي، فما أدخلته أم كلثوم والقصبجي أهم موسيقيا من تغييرات كلام الأغاني.

ولا المقصود هو التجديد، السطحي آخر الأمر، وإن استهلك حبرا كثيرا من النقاد الشكلانيين، في قوالب الغناء : كتطوير القصبجي لشكل المونولوغ (كأغنية عاطفية بلا مذهب ولا بطانة، وإن كان البعض يرى أن سيد درويش سبقه إلى ذلك في لحن "والله تستاهل يا قلبي"، وكذلك النجريدي في بعض أعماله، بل تورد رتيبة الحفني في كتابها "أم كلثوم معجزة الغناء العربي" (ص. 75) تصنيف بعض ألحان الشيخ سلامة حجازي المسرحية على أنها من المونولوغات أيضا) ووضعه مقدمات موسيقية لأعماله (يرى البعض أيضا إن سيد درويش سبقه إلى ذلك في لحن "العربجية") أو تطوير زكريا أحمد لقالب الطقطوقة (بتنويعه ألحان ومقامات الكوبليهات مع الحفاظ على العودة إلى المذهب، وهذا كان موجودا من قبل في الموشحات حيث تتعدد ألحان ومقامات الخانات والسلاسل مع العودة إلى لحن المطلع أو الدور كما كان يسمى) أو مزجه بين قوالب الدور والموشح أحيانا، أو تلحين عبد الوهاب للمواويل (وفي كتابات صحافية كان عبد الوهاب ينسب إلى محمد عثمان تثبيت صيغ الموال الملحنة). فهذه كلها آخر الأمر، تغييرات شكلية كان يمكنها أن تمر دون أن تغير المضمون الموسيقي، أي طريقة صياغة الجملة الموسيقية في ذاتها وكذلك في تعالقها إيقاعا ومعنى مع النص المغنى، بخاصة أن هذه التغييرات الشكلانية أتت بعد انكسار القوالب التقليدية وبعد تطور مضمون الجمل الموسيقية في المسرح الغنائي، مع سيد درويش وداود حسني وكامل الخلعي وغيرهم، وقبلهم سلامة حجازي بقصائده الدرامية الرومانسية.

التجديد الذي حملت أم كلثوم لواءه كان تجديد تقنيات الصوت الأنثوي في الغناء وذلك على الأرجح بفعل أثر القصبجي على صوتها

فقد كان المسرح أصلا مكان ظهور الغناء الجماعي والمونولوغ والديالوغ والحوارات الغنائية والغناء الساخر. ومن خلاله تم التخلي عن انحصار الغناء في قوالب الطقطوقة والدور والقصيدة المرتجلة والموشح (الذي كان حضوره في مصر يتراجع بسرعة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر). وهذا غيّر بشكل ضخم أشكال الألحان مثلما غيّر في مضمونها الموسيقي، فاتحا إياه على آفاق أخرى، بسبب ضرورات مثل السياق المسرحي، والغناء من ممثلين ليسوا جميعا مطربين، وعرض موسيقات أقوام آخرين ولهجات موسيقية متعددة على الخشبة.

STRINGER/AFP
أم كلثوم تقدم حفلا في قاعة الأولمبيا في باريس

بل التجديد الذي حملت أم كلثوم لواءه، دون تباهٍ علني، كان تجديد تقنيات الصوت الأنثوي في الغناء المصري (وتاليا العربي)، وذلك على الأرجح بفعل أثر القصبجي على صوتها واقتراحه جملا موسيقية غير مسبوقة (ولا ملحوقة في الواقع) تتطلب أسلوب أداء مختلف جذريا عما سبق للمطربات أن عرفنه. وليس هذا حكم قيمة على ما سبق أم كلثوم، فله جمالياته الخاصة الفذة، لكنه توصيف لما أنجزته من تغيير في أسلوب أدائها ومن ثم أثرها في التابعات لها. وتعتبر رتيبة الحفني إن تطور أداء أم كلثوم كان "بموهبتها وذكائها الكبير" بحيث تخلصت من "كثرة الذبذبات الصوتية الي كانت تنطلق من حنجرتها وتحول دون تحديد النغمات الثابتة" (ص.168). غير أننا نظن أن جمل القصبجي اللحنية بما فرضته من قيود خاصة على المؤدية، وعلى الأرجح تدريبه المباشر لصوت أم كلثوم بخاصة في فترة انفرد فيها بصوتها، وتأثرها باطلاعه على الموسيقى الأوروبية وربما اطلاعها عليها مباشرة من طريقه ومن طريق حضور الجوقات والمغنيات الأوروبيات في القاهرة وطبقاتها العليا، كل ذلك أنتج عند أم كلثوم تقنية الصوت التي اعتمدتها ونشرتها حتى صارت هي مقياس و"مسطرة" الطرب الأنثوي التي تقاس عليها كل من تحاول "طربا"، ولا تخرج عليها بالتالي إلا من يمكن ضمهن في إطار موسيقات جهوية (كمغنيات الريف والشعبي والنوبة والصعيد، أو ما يوازيها في البلدان الأخرى) أو من تخرجن من إطار الطرب نفسه كمثل الاقتراح الجمالي الرحباني ـ الفيروزي. أي بكلمات أخرى، أصبح صوت أم كلثوم هو الأفق الذي تنضوي ضمنه حتما كل "المطربات" من بعدها، وأصبح أسلوب الأداء الأسبق عليها والمعاصر لبداياتها (مثل أساليب منيرة المهدية وفتحية أحمد وحتى ماري جبران ونادرة) يعتبر "متخلفا" عن التشذيب الكلثومي هذا، وأهمل الانتباه إليه، وصار يوصم ـ خطأ بسبب كتابات كمال النجمي ـ بالتتريك أو الغجرية، أو بالجموح أو فقط بالقدم.

يحتاج وصف هذا التجديد الصوتي إلى بحث أصول تدريب أم كلثوم الغنائي وكذلك إلى تحديد بعض الملامح الأساسية لبدايتها وما تغير مع القصبجي.

أداء أم كلثوم المشايخي والعوالمي

بداية، اختلفت أم كلثوم عن المطربات الأخريات في كونها منذ الطفولة تشربت من والدها الغناء من خلال تراث الإنشاد الديني الرجالي في الدرجة الأولى. وليس من خلال مجال العوالم اللاتي كانت أعمالهن أقل تطلبا صوتيا واكثر ارتباطا بعوالم النساء المغلقة وإن كانت بعضهن ينفذن إلى عوالم الرجال مثل ساكنة بيه، بل ويؤدين القصائد والأدوار مثل سكينة حسن. وكانت بين النساء أيضا من يؤدين التلاوة القرآنية. غير أنهن في العموم كن يعتبرن أقل تدريبا وتفننا من المقرئين والمنشدين والمطربين الذكور. ولعل التدريب على الإنشاد الديني، ونعرف بعض ملامحه الأقدم مع تسجيلات المشايخ أمثال إسماعيل سكر ومحرز سليمان، ثم "أستاذ الشرق" حقا الشيخ علي محمود، كان له أثر كبير في تنشئة أم كلثوم على مسافة من الأداء "العوالمي". ويمكن أن نرى ذلك في أداء مجايلة أم كلثوم، الشيخة منيرة عبده، وقد تناولتُ مسألة اثر الإنشاد الديني على الغناء الدنيوي في مقالة سابقة في موقع "معازف" بالاستناد إلى التسجيلات القليلة لمنيرة عبده كنموذج على حلقة بين الغناء الأقدم وبين ما بات عليه فن الطرب في القرن العشرين بعد ذلك.

يمكن تأمل بعض ملامح الأداء المبني على الإنشاد الديني في القصائد التي تلقتها أم كلثوم عن الشيخ أبي العلا محمد (وهو أيضا على تقاطع الغناء الديني والدنيوي، حيث تلتقي التواشيح مع القصائد والأدوار). فإذا استمعنا إلى أم كلثوم في "وحقك أنت المنى" (1926) مثلا، وقارنا أداءها بأداء فتحية أحمد، لوجدنا أن فتحية، التي لم تنشأ حصرا على تدريب مشايخي بل كانت ربيبة المسرح الغنائي وشريكة منيرة المهدية وكانت أختها رتيبة من أشهر مؤديات الطقاطيق الخفيفة، كان أداؤها مشوبا بملامح "عوالمية": فهي وإن أبدت مخيلة نغمية في التنويع على الجمل تتفوق على مخيلة أم كلثوم في هذا العمل (مثلا عندما تكرر لثاني مرة "انت المنى والطلب"، أو في دخولها "يا" من "يا هاجري")، إلا أنها كانت أحيانا تقع في نوع من التهدج الصوتي (مثلا عند "هذا الرضا" و"يعجبني منك لين الكلام")، وفي بحة منفلتة في مواضع لا يتبين منها أنها مقصودة لذاتها (مثلا عند ألف "السماء" أو "أعرض" الأولى)، أو يعتري صوتها انقطاع مقصود في النَفَس لكن في منتصف الكلمة (كما في "نج/م" أو "حسي/بك" أو "جمي/ل" ومثل ذلك كثير). كذلك نجد أن "التريل" (أي الترجيف أو التأرجح السريع بين درجتين صوتيتين متلاصقتين) الذي تستعمله أقل وضوحا من ترجيف أم كلثوم (كما في غنائها "أما والذي" الأولى) فضلا عن أنه قد يفاجئنا تقريبا في أي موضع من الأداء (كما في "روض" الجمال) وهي تكثر استعماله جدا (مثلا في "أعرض" و"هواك" ثم "إذا"، على التوالي من "وأعرض عن هواك إذا..."). وزخارفها الدائرية (أي التي تلوح وكأنها تكرر الدوران حول درجة صوتية محددة) ليست تامة الوضوح (كما عند "أرى" في "أرى رضاك" الأولى) وأخيرا فإن فتحية أحمد تشحن أحيانا صوتها بشحنات عاطفية تحاكي التأثر ولكن بلا علاقة واضحة مع الكلمات (كانكسار الصوت عند كلمة "غرب" أو "الحسب" أو تغيير خامة الصوت نحو الترقق عند "أرى رضاك").

مع القصبجي سنجد تخلص صوت أم كلثوم من الأنفية والاهتزاز، وتطورا في الوضوح في الزخارف الدائرية والمتشابكة وتقليلا لاستعمال البحة والترجيف وسيطرة على الجوابات

ويمكن القول بأن أداء أم كلثوم، الناشئة طفلة على تراث الإنشاد الديني، يتميز عن فتحية في هذا العمل بالإقلال من استعمال الترجيف وحصره في مواضع محددة (كما عند "المراد")، لا سيما قبيل القفلة (مثل "الغضب" أو "العنب" أو "شيء" في "شيء عجب" الأولى، أو في قفلة الختام)، والتركيز على أداء الدرجات الصوتية في صفاء وثبات (ما عدا بعض الانفلاتات مثل "لاح")، وبالتالي ثبات خامة الصوت عموما وعدم شحنها بمحاكاة عاطفية إلا بالتقاطع مع كلمات معينة (مثل "عتب" و "لكن حبك شيء عجب" الأولى، او "الرضا"). كما نلاحظ أنها لا تقطع الكلمات في منتصفها بخلاف فتحية أحمد.

في المقابل، كانت في غناء أم كلثوم بعض ملامح أداء العوالم (مما نراه حتى عند مطربات كبار قدامى مثل أسماء الكمسارية أو نعيمة المصرية أو منيرة المهدية)، الذي يتميز بالاهتزاز الفائض وتقطع أو حبس الصوت، وبالبحة وإن كان من الواضح أنها تسيطر عليها أكثر (عند "بذل الغرام" أو "الجمال البديع"، مع بعض الاستثناءات على ما نحسب، كما عند "وأعرض" أو "أرى رضاك") ولم يكن التهدج الصوتي المتخافض عندها بات بالوضوح الذي سيصير عليه لاحقا (مثلا عندما تؤدي "سقاه"). وهي أدت بالفعل، في منتصف عشرينات القرن الماضي، بعض الطقاطيق بهذه الروحية، مثل "الخلاعة والدلاعة" (من ألحان النجريدي) و"قال ايه حلف" (من ألحان القصبجي نفسه ويُروى إنه كان لحنها لمغنية أخرى قبل أن يتعرف الى أم كلثوم). ونجد فيها ملامح متقاطعة مع أداء العوالم في الصوت الأنفي الحاد والكثير الاهتزاز (وربما كان هذا ما يقصده وديع الصافي بالسرسعة التي لم يكن يحبها في بداياته وبدايات أم كلثوم، أو ما كان عبد الوهاب يقصده بالعفق الصوتي منتقدا الغناء المشايخي وكان يقصد مشايخ الغناء الدنيوي لا الديني)، والكثير البحة والكثير الانفلات الذي يغير من خامة الصوت وزخمه. ورغم ذلك نجد في بعض مواضع "الخلاعة الدلاعة" زخارف دائرية واضحة (عند "صفاها" مثلا)، وإن كان يجاورها احيانا بعض المد المهزوز (كما عند "والنبي") مثل ترجيف غير واضح. إضافة إلى ذلك، نجد في "قال ايه حلف" بعض الارتخاء المتعمد الساخر في مخارج الكلمات تدللا متمنعا (كما في "ده بس كلام").

ثورة الصوت المعجز مع القصبجي

أما مع القصبجي بعدما بدأ ثورته اللحنية، فسنجد، تدريجيا، تخلص صوت أم كلثوم من الأنفية والاهتزاز، وتطورا في الوضوح في الزخارف الدائرية والمتشابكة، وتقليلا لاستعمال البحة والترجيف في شكل غير منضبط، وسيطرة على الجوابات الحادة التي كان يأخذها إليها دون خوف حتى ولو قفلت عليها (بخلاف المشهور عنها من نزاعها مع السنباطي على قفلة الأطلال لأنها في الجواب أي في أعلى المقام).

AFP
صورة من الخمسينات تجمع أسطورة الغناء أم كلثوم بالموسيقار وعازف العود محمد القصبجي

ولنأخذ على هذا التدرج ثلاثة أمثلة، بداية من لحن "إن كنت أسامح" (1928)، مرورا بـ"عيني فيها الدموع" (1931) وانتهاء بتسجيل "يا قلبي بكره السفر" (سنة 38 أو 39)، حيث نعثر على صوت أم كلثوم في أعلى حالاته مع اكتمال شخصيتها الصوتية المعروفة لنا في تسجيلاتها الحية، وهذا اللحن يمكن اعتباره خلاصة ما وصلنا من أعمال القصبجي لأم كلثوم (وإن كان هذا أقل شهرة من "رق الحبيب"، إلا أن هذا الأخير محاولة من القصبجي للمواءمة بشكل أكبر بين تطلعاته الموسيقية والصيغة المسرحية للأغنية الكلثومية الطويلة بحسب ما كان يسعى زكريا أحمد إلى تشكيلها، أي الأغنية التي يمكن أم كلثوم الإعادة والإطالة والارتجال تقريبا في أي موضع منها. وبعد ذلك سعى السنباطي الذي تشرّب الاثنين الكبار إلى إنتاج صيغة معدلة تفي بمتطلبات "الشرقية" والتطريب اللذين نجدهما عند زكريا، والمشهد الموسيقي الدرامي والرومانسي كما صاغه القصبجي مع كلمات أحمد رامي).

نجد تركيز أم كلثوم على تحلية الجمل بزخارف أحيانا، أو بمؤثرات عاطفية ومحاكاة مسرحية، بدل التطريب المبني على الاستعادة والتكرار

فجملة القصبجي الموسيقية في تلك الفترة التي أطلق فيها خياله على مداه، كثيرا ما تعتمد على تصاعد سريع إلى الجوابات الحادة، وصولا إلى انهاء اللحن على الجواب (وهذا واضح في لحن "إن كنت أسامح" وسنستقي منه أمثلة هذا المقطع، وكذلك في ختام "عينيا فيها الدموع" و"يا قلبي بكره السفر")، بدل التصاعد التدريجي والبطيء بعد البقاء مطولا في الدرجات الأولى الخفيضة. فضلا على ذلك، فإن القصبجي يبدو متحررا من فكرة المقامات نفسها ومساراتها التنظيرية كما الموروثة (وهذان أمران متباينان جدا)، بل هو يطرح على فكرة المقامات تحديا جديا بتماسك أعمال لا تتبع المنطق المعهود عن هذه المقامات، وقد أشار إلى هذا الراحل عمار الشريعي في تعليقه على "يا قلبي بكره السفر" وإن لم يأخذه إلى نتيجته المنطقية فعاد إلى نسبة العمل إلى مقام مذهبه. فالقصبجي عمليا يتنقل بين عدد من الأجناس النغمية (والجنس تسهيلا هو تتابع عدد من الدرجات الموسيقية ذات أبعاد محددة ما بينها) بناء على معادلات مختلفة، فهو لا يستعمل دائما ما يعرف بـ"غماز المقام" وهو في العادة الدرجة الرابعة أو الخامسة منه (عدا في السيكاه وأقاربه) وعليها تجري غالبية التحويلات النغمية. بل إن القصبجي ينتقل كثيرا على نفس درجة الارتكاز (لا سيما في الجواب، مثلا انتقاله إلى جنس البوسليك عند "العين عزيزة")، أو يستعمل ما يفترض أنه مستقر المقام (أو جوابه) على أنه ثالثة جنس آخر فكأنه ينقل هذا المستقر درجتين إلى الأسفل ويستعمل جنسا جديدا (كما عندما أدخل جنس الصبا عند "إن كنت أرضى الهوان"). كما أنه لا يستنكف عن استعمال الكروماتيك (أي الدرجات المتتالية بينها نصف طنين صوتي فقط) رغم أنه خارج عن السلالم الشرقية (كما في مقدمة "يا قلبي بكره السفر" أو اللازمة التي تلي كلمة "الأوطان"، أو كذلك في "رق الحبيب" الشهيرة عند نهاية "غايب عني" والموسيقى بعدها). أما في تركيبة الجملة نفسها فهو نادرا ما يكرر تركيبة أو خلية إيقاعية على درجات المقام كما بات رائجا (والمثل الأسهل للتوضيح هو الجملة الموسيقية الموزونة الأولى في مقدمة "إنت عمري" لعبد الوهاب)، بل كثيرا ما تبدو جملته لهذه الجهة متكسرة متعارضة كأنها مركبة من خلايا متعددة (فعمليا مطلع "إن كنت أسامح" كله ليس فيه من التكرار غير "تقولي انسى/واشفق عليا")، بما في ذلك لمزاحمة الموسيقى صوت المغني أو مساجلتها له (كما عند "الأسية" و"من عذل قلبي" أو "طول أنينه كثير العذاب" ..الخ.)، بينما يكتفي في احيان أخرى بمدات طويلة، لا سيما عند اقتراب القفلة، تتصاعد درجة درجة (كما عند "اوعي تجافيني/يا نور عينيا"). وهو لا يمتنع عن إيقاف صوت ام كلثوم عند درجات مختلفة من السلم المستعمل، واستعمال لازمة موسيقية لقفل الجملة وإرجاعها إلى مستقر السلم (كما بعد "الأسية")، وهو على أية حال لا يولي عناية خاصة بصياغة قفلات صوتية معقدة (بخلاف ما سيقوم به السنباطي مثلا) بل إن نهاية "إن كنت أسامح" بالغة التقليدية وربما فائضة على الحاجة.

أخيرا ينبغي التوقف عند تعامل القصبجي مع الإيقاع، إذ باستثناء الفالس الثلاثي الواضح أحيانا في بعض الحانه لها، فهو يفك ارتباط الجملة بمفاصل الإيقاعات المعقدة (على ما كانت عليه جمل الموشحات)، وأيضا لا يخضع جملته لمنطق الإيقاع الرباعي ومثالاه الأشهر، الواحدة أو المصمودي اللذين كانت تلقى عليهما الأدوار والقصائد المرتجلة واللذين كانا يفرضان مواضع محددة للقفلة الصوتية. بل يمنحنا في كثير من الأحيان الانطباع بأن جملته غير موقعة أو موزونة وتتبع الخط النغمي الذي اختاره دون أن تخضع للإيقاع.

وعلى الرغم من هذا الانفكاك عن الإيقاع، إلا أن في هذه الجملة القصبجية بعضا من ملامح الإرث الموشحاتي السابق على عصر عبده الحمولي، كالتركيز على درجات محورية محددة وتلوينها بأجناس نغمية مختلفة بشكل حر غير مقيد، وعدم منح أهمية خاصة للقفلة الصوتية، وطول الجملة وابتعادها عموما عن تكرار خلايا نغمية قليلة، ووقوفها في غير موضع البداية أو المستقر مما يجعل من الصعب على الصوت المؤدي أن يكررها وينوع عليها إلا بعد أن يتم القصبجي جملته كاملة (بخلاف ما يمكن أن نجده بسهولة في تكرار "أهل الهوى يا ليل" أو "أنا في انتظارك خليت" في شغل زكريا أحمد، حيث نجد أيضا ارتباطا أوضح بالإيقاع الرباعي). مثل هذه الجملة اللحنية القصبجية تشبه أيضا عزفه على العود، في الصعود السريع إلى المنطقة الحادة، وتلوين درجات محورية بأجناس مختلفة، واعتماد قفزات صوتية غير معتادة أحيانا (منذ بداية "إن كنت اسامح" مثلا)، فضلا عن تقطع أو تكسر الجملة بفعل عدم تكرار خلايا ايقاعية بسيطة، وقوة ضرباته ووضوح زخرفاته. وينتج من ذلك كله ابتعاد القصبجي عن منطق الطرب القديم الشائع واقتراحه مضمونا جديدا لجمله الموسيقية، أكثر تناسقا مع الحمولة الرومانسية التي كان أحمد رامي يضفيها على الكلمات.

طورت أم كلثوم تقنياتها الصوتية فسعت إلى صوت يتحلى بدقة عالية وبوضوح تام حتى مع أصعب الزخارف أو الجمل اللحنية

غير أن مثل هذه الجمل ما كان لها أن تصل إلا محمولة على صوت استثنائي كأم كلثوم، وقد تأثر هذا الصوت حتما بالملحن والعازف الكبير، وبالاستماع معه إلى موسيقات أوروبية على ما نرجح أيضا. فتطور في ظننا بحيث ينضبط ويتعامل مع مثل هذا الإطار حيث اضطر صوت أم كلثوم مع القصبجي إلى التعامل مع مجموعة من الشروط الصعبة مثل تقطع الجملة ووقوفها في أماكن لا تسمح بالإعادة والتجويد، وإهمال بعض القفلات أو حتى أداؤها بلازمة موسيقية لا بالصوت، والقفزات الصوتية والاستعمال المكثف لجواباتها العالية. نتيجة ذلك، نجد تركيز أم كلثوم على تحلية الجمل بزخارف أحيانا، أو بمؤثرات عاطفية ومحاكاة مسرحية، خصوصا في ما وصلنا من تسجيلات أنجزت في الاستديو، بدل التطريب المبني على الاستعادة والتكرار والتنويع بل والارتجال المطلق المتحرر من اللحن الأصلي كما ستفعل كثيرا في حفلاتها.

سنجد أيضا ثباتا في مد الصوت وانحسار "السرسعة" والبحة والتقطع إلى حد كبير في "ان كنت اسامح" (وإن كانت تفلت أحيانا كما عند "في الحب حالي" الأولى،  أو عند "وترقي ليا" ثم بعدها "شوية"). وسنجد في تسجيل "عينيا فيها الدموع" خلوا شبه تام منها، وفي المقابل أداء غنيا بالمؤثرات العاطفية المسرحية، أي بمشاكلة المغنية لكلمات الأغنية مع مؤثرات من نوع التنهد الخفيف مع "حيران" أو التلجلج مع "ما حد وافى" أو خفوت الصوت عند "ويشوف طيفه" ...الخ (ومثل هذه المشاكلات كانت تعتبر، لدى كثيرين ممن كتبوا في مديح أم كلثوم، معايشة لها للكلمات، وهي ما سيسميه بعض أهل زماننا "الإحساس" بلا تعيين!). وسنجد في هذا التسجيل أيضا اكتمالا في وضوح النبرات واستكمال أحرف الكلام حتى لو كان ساكنا (كما عند "الأمانْ") ووضوحا في أداء الزخارف على أنواعها وقدرة عالية على مزج بعضها ببعض (من تريل أو ترجيف، وفيبراتو أو تمويج صوتي، ودوائر صوتية، ومد ثابت واستدخال درجات عابرة بصورة بالغة السرعة).

وأخيرا، مع "يا قلبي بكره السفر"، سنجد على الأرجح أقدم تسجيل لأداء كلثومي حي على المسرح لعمل من أعمال القصبجي، بما يتضمنه أيضا من تفاعلها مع الجمهور. وإلى جانب ما رأيناه في المثلين السابقين من وضوح واقتصاد في الحليات الصوتية (بما في ذلك التريوليهات أي الثلاثيات الصاعدة والهابطة) إلا من ضمن لحن القصبجي نفسه، ومن سيطرة على الصوت وقوته واستعمال مؤثرات درامية مسرحية (كتحنين الصوت عند "ينقل له شوقي")، يمكن أن نلاحظ في هذا التسجيل محدودية الزخرفة في أدائها والاقتصاد فيها كما في الارتجال الموزون (كما عند "يا ما بعدت" و"لكن صبرت") في معظم هذا العمل حتى حين تؤدي إعادات (خلافا مثلا لما تقوم به في "والموجة تجري ورا الموجة" في "فاكر لما كنت جنبي" من ألحان السنباطي)، ربما لأن جمل القصبجي وتقطيعها ودور الفرقة فيها تعيق مثل هذا التطريب بالتكرار والزخرفة. فلما شاءت أن "تطرّب" فعلا براحتها اختارت الانفراد في ارتجال غير موقع مطوّل عند "لكن يا قلبي" (وهو ما ستعود إليه لاحقا، ربما لأسباب موسيقية مشابهة، في أعمالها مع عبد الوهاب مثلا، بينما كانت ترتجل على الإيقاع كثيرا في أعمالها مع زكريا أحمد). ويمكن أيضا ملاحظة حجم الضغط الهائل الذي يفرضه الختام، وكذلك ارتجالاتها غير الموقعة ما قبل الختام على طبقة صوتية ربما تكون أعلى ما بلغه صوتها في أوسع مدى له، ولكن بزخم صوتي كبير ودون ضعف.

AFP
صورة من الستينات تُظهر أم كلثوم مع الموسيقار والمطرب محمد عبد الوهاب

طورت أم كلثوم تقنياتها الصوتية، بتدريب هائل لا شك، وباختيارات خاصة، فسعت إلى صوت يتحلى بدقة عالية وبوضوح تام حتى مع أصعب الزخارف أو الجمل اللحنية، فضلا عن اختيار أنواع الزخرفات بدقة وتشذيب ما باتت تراه غير ملائم، أو وضعه في إطار محدد. فمن ذلك الثبات الصوتي والزخارف الدائرية والتريوليهات صاعدة أو هابطة كالشلال والتريل أو الترجيف السريع والتلاعب بالصوت جهارة وخفوتا، في مقابل التقليل من البحة، ومن التقطع أو حبس الصوت، ومن "فتح الصوت" على طريقة العوالم قبل القفلة. كذلك طورت نوعا من الأداء المسرحي، فمسرحت أداءها وإن لم تلعب أدوارا في مسرحيات، ويظهر ذلك مثلا في "تقمص" الحالة الموصوفة في الكلام المغنى، في حين يكاد يكون غناء العوالم (بخلاف بعض المطربين مثل عبد الحي حلمي مثلا، وبالطبع بخلاف مقرئي القرآن الكبار في القرن العشرين) خلوا من الدراما والانفعالات عدا السخرية المغوية. ولا شك أن ما أسعف أم كلثوم في ذلك، وما حفظه لنا، هو تحسن التقاط الميكروفونات لهذا الأداء فوصلنا، بينما كانت التسجيلات الأقدم على الأرجح تحرم المستمع من إمكان التنبه إلى مسرحة الأداء بسبب اضطرار المغني محاطا بهيتروفونية العازفين حوله إلى رفع الصوت عاليا كي يتسنى انطباعه على الاسطوانة.

صارت أم كلثوم أفقا للطرب، لا علما عليه فقط ، أي صارت التجربة ـ الحد التي تتوقف عندها تجارب التطريب الأنثوي

عمليا حقق القصبجي لأم كلثوم أبرز نجاحاتها المبكرة مقترحا تطويرا خاصا للغناء معها ومجالا انفردت به. ولئن كنا ننسب هذا إليه فلأنه، إضافة إلى قيود جملته اللحنية على صوتها، سيطر على فترة انتشار أم كلثوم في بداياتها، إذ توفي أبو العلا محمد مبكرا نسبيا بعد مرضه، وانسحب النجريدي ذو العبارات اللحنية الجميلة والتقليدية عموما، ولم يبدأ زكريا أحمد تعاونه مع أم كلثوم إلا مع نهايات المسرح الغنائي في مطلع الثلاثينات أي تقريبا بعد أن أنجز القصبجي وأم كلثوم صياغة الأداء الجديد، في ظل ما تفرضه جملة القصبجي الموسيقية من شروط وقيود. وبعدها استقرت أم كلثوم في صدارة المشهد وبقيت متسيدة مجال الطرب بلا منازع لأربعين عاما بعدها، شهدت فيها تغيرات المشهد السياسي والأنظمة وتقنيات التسجيل والأذواق وتفاعلت معها لكن متكئة على منجز هائل وعلى نموذج غنائي باتت هي أفقه.

أفق الطرب المقفل

استمرار أم كلثوم على القمة كان أيضا رهنا بتعاملها مع التطورات المختلفة في صورتها وصوتها والحياة الاجتماعية والسياسية حولها. كذلك بعد مرحلة المنافسة السينمائية مع عبد الوهاب، بنقاط فشلها (لا سيما "اوبرا عايدة" التي، على ما يروى، حملتها على حرق الجزء الذي لحنه القصبجي) ونجاحاتها (لا سيما مع زكريا أحمد في أسلوب شرقي واطار زمني من عصور سحيقة)، استعانت بزكريا أحمد ورياض السنباطي لمدّها بكمية من الألحان الصالحة للتطريب "الشرقي" في أغنيات مطولة تناسب ما بات يسمى "الوصلة الكلثومية"، بخاصة أن علاقتها بجمهورها المسرحي باتت معتمدة بشكل أكبر على التطريب الناتج من ارتجالاتها وتفريداتها وزخارفها وتنويعاتها على الجمل اللحنية الأصلية. كما أن طبيعة صوتها تغيرت بلا شك مع العمر وبات من المستبعد لها أن تستمر في أداء ألحان بالغة التعقيد والإجهاد كما يتبدى من أعمالها مع القصبجي (التي باستثناءات قليلة مثل "رق الحبيب"، لم تجرؤ مغنية أخرى على أدائها).

AFP
صورة من السبعينات لرياض السنباطي

هكذا تقاطعت على الأرجح، لإنهاء تعاونها مع القصبجي ملحنا، تغيرات في الذوق العام تجاه الرومانسية المفرطة وبحث عن كلمات تعبر عن الغرام في شكل جديد مع بيرم التونسي (كما أوضح الصديق الباحث ياسر عبد الله في مقال "التونسي الحائر بين الهوى والغرام" على مدوّنة "طرب مصري") وعن شغل يليق بالفخامة المفترضة لزعيمة الطرب يتجلى في مقدمات رياض السنباطي لأغنياتها وأيضا في اختيارات القصائد لا سيما الشوقيات منها، وتعبٌ ربما من التطلب البدني والضغط المستمر على الحنجرة في أفكار القصبجي الموسيقية فضلا عن عدم فتحه مجالات التطريب على حساب اللحن كما يراه هو، وانتقال التلحين عموما مع عبد الوهاب والسنباطي إلى صيغ لحنية أكثر بديهية ومباشرة من تعقيد جمل القصبجي مما يجعل هذه الأخيرة أصعب على تقبل السامع العادي لها.

هكذا بات في وسع أم كلثوم إذا ما سئلت عن القصبجي أن تقول إنه "عالم موسيقي"، في عملية قتل رمزية واضحة للأب الملحن والمدرب وصانع صوتها وصوت فرقتها، بينما بات يقول عنها في الصحف إنها أصبحت "رجعية" موسيقيا أي بعبارة أخرى إنها تخلت عن حلم التجديد المتواصل الذي كان القصبجي يهجس به حتى انتهى عازفا فقط وراءها. و"رجعية" أم كلثوم هذه عنت أنها رجعت من مغامرتها مع القصبجي إلى مجال التطريب الشرقي، وهي لم تغادره كليا بدليل أعمالها مع داود حسني وزكريا أحمد في الثلاثينات بالتوازي مع شغلها مع القصبجي. ولكنها رجعت محملة أساليب وتقنيات صوتية جديدة وفريدة تجعلها فوق المقارنة بأي صوت آخر.

صارت أم كلثوم أفقا للطرب، لا علما عليه فقط ، أي صارت التجربة ـ الحد التي تتوقف عندها تجارب التطريب الأنثوي. وستظل كل المطربات بعدها قاصرات عنها، لا سيما اليوم حيث تقلد الشابات، في ما يشي بسوء فهم عميق لفن أم كلثوم، أداء الست عندما كانت في العقد السادس والسابع من عمرها! وضع أم كلثوم في هذا الموقف، أي جعلها أفق الطرب وختمه أي قفله أيضا، هو ما أشار إليه عبد الوهاب بذكائه اللماح عند وفاتها عندما تحسر على انتهاء فن الطرب المبني على القفلات الحراقة.

فإن تكن المطربات عاجزات عن الأداء الكلثومي، لأسباب تتعلق باستثنائية مصادفة الصوت والتنشئة والتدريب والطموح، وإن يكن هذا الأداء هو "معيار" الطرب، فهذا يعني عمليا انتهاء فن الطرب عند العرب وتحنيطه. وهو ما نشاهده عموما على الشاشات، اللهم ما لم نتخل عن الانحصار في هذا الأفق الكلثومي ونتراجع ربما نحو جذور أخرى نستمد منها إمكان البحث عن طرب جديد مغاير يجعل الفن، الذي وهبت الست له حياتها، مستمرا وحيا.

font change