قبل مئة عام، أحيت أم كلثوم أولى حفلاتها في القاهرة، قادمة من الريف الذي جابته على الأقدام ثم على البهائم قبل أن يسمح لها أجرها بركوب القطارات متى كان ذلك متاحا. نسجت الحفلات التي أحيتها شبكة واسعة من العلاقات بوجهاء الريف وأنصاف الوجهاء صارت سندا لها في ما بعد، حيث ترى الباحثة فرجينيا دانيلسون في كتابها "صوت مصر: أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين"، أن هؤلاء كانوا من اشترى أسطوانات أم كلثوم بأعداد هائلة وأمّنوا لها نجاحا تجاريا مبهرا ومبكرا. أما في القاهرة فانقسمت الآراء ما بين وجهاء من أصل ريفي غالبا، مثل آل عبد الرازق، ممن خاطبت أم كلثوم بأسلوب إنشادها المبني على التواشيح الدينية والبطانة ذائقتهم، وبين من اعترض على صفحات الجرائد متسائلا أين التجديد الذي تقدمه إن لم تكن غير منشدة دينية، كما كتب في "روز اليوسف" آنذاك.
بعد أقل من عقد من السنوات كانت أم كلثوم أصبحت المطربة الأبرز في مصر والمنطقة، وباتت وجها تبرزه الملكية في ختام مؤتمرها عن الموسيقى سنة 1932 (وهو كان يستهدف، بين أمور أخرى، إبراز محورية مصر في "الموسيقى العربية" وتمييزها عن "الموسيقى الشرقية" لا سيما التركية العثمانية). وما لبثت أن أصبحت صديقة الباشوات ونساء الطبقة العليا، في الوقت الذي تصدرت فيه، فنيا وتجاريا، فن الغناء وأزاحت من كن سابقا منافساتها، خصوصا منيرة المهدية التي تراجعت مع تراجع المسرح الغنائي الذي استثمرت فيه معظم طاقتها، وفتحية أحمد التي كانت تنقطع عن المشهد القاهري للسفر أو للزواج، ثم تعود دون أن تصل إلى مرحلة تصدر الساحة.
تزعم التجديد لكن في خفاء
لم يكن هذا النجاح وإزاحة المنافسات ممكنا بالاستناد إلى ذكاء أم كلثوم الاجتماعي وفطنتها فحسب، بل إلى كونها تزعمت فعليا عملية تجديد أسلوب الغناء الأنثوي وإعادة صياغته بشكل كبير، مما حولها إلى مدرسة المطربات اللاحقات. أما الذكاء فكان في عدم إشاعتها عن نفسها صورة التجديد هذه، التي ربما كانت لتضر بشعبيتها في أوساط تتوقع من المرأة نوعا من المحافظة التقليدية والتي كانت ستضعها في موضع مقارب لـ"زعيم المجددين" آنذاك، أي المنافس في مجال المبيعات والشهرة، محمد عبد الوهاب الذي كان يمثل الوجهة العصرية الراغبة علنا في الأخذ بمظاهر الحياة الغربية. فنجد بقلم رجاء النقاش في كتاب "لغز أم كلثوم" (ص. 17 و18) القول إن آل عبد الرازق ساعدوا أم كلثوم في إيجاد "الحل الصحيح" ولم يكن هذا غير "المزج الأصيل الصادق بين العمامة والقبعة"، أي إنها "لم تتخل عن أساليب الفن الشرقي نهائيا، بل احتفظت بأصول هذا الفن وتقاليده وأضافت إليه وجددته". إلا أن أم كلثوم، وتحت ستار صورة الحفاظ على إرث الموسيقى التقليدية و"روحها" المحلية، كانت في الواقع تغير جذريا أسلوب الغناء بالتعاون مع زعيم فعلي للتجديد، وأستاذ محمد عبد الوهاب نفسه، أي محمد القصبجي.
ليس المقصود هنا محصورا فقط في التجديد في كلمات الأغاني، بالانتقال من الطقاطيق بكلامها العامي الطريف والأدوار بصنعتها المتكلفة والقصائد بشعريتها القديمة، إلى تجديدات أحمد شوقي (مع عبد الوهاب بداية) ورومانسية أحمد رامي، فما أدخلته أم كلثوم والقصبجي أهم موسيقيا من تغييرات كلام الأغاني.
ولا المقصود هو التجديد، السطحي آخر الأمر، وإن استهلك حبرا كثيرا من النقاد الشكلانيين، في قوالب الغناء : كتطوير القصبجي لشكل المونولوغ (كأغنية عاطفية بلا مذهب ولا بطانة، وإن كان البعض يرى أن سيد درويش سبقه إلى ذلك في لحن "والله تستاهل يا قلبي"، وكذلك النجريدي في بعض أعماله، بل تورد رتيبة الحفني في كتابها "أم كلثوم معجزة الغناء العربي" (ص. 75) تصنيف بعض ألحان الشيخ سلامة حجازي المسرحية على أنها من المونولوغات أيضا) ووضعه مقدمات موسيقية لأعماله (يرى البعض أيضا إن سيد درويش سبقه إلى ذلك في لحن "العربجية") أو تطوير زكريا أحمد لقالب الطقطوقة (بتنويعه ألحان ومقامات الكوبليهات مع الحفاظ على العودة إلى المذهب، وهذا كان موجودا من قبل في الموشحات حيث تتعدد ألحان ومقامات الخانات والسلاسل مع العودة إلى لحن المطلع أو الدور كما كان يسمى) أو مزجه بين قوالب الدور والموشح أحيانا، أو تلحين عبد الوهاب للمواويل (وفي كتابات صحافية كان عبد الوهاب ينسب إلى محمد عثمان تثبيت صيغ الموال الملحنة). فهذه كلها آخر الأمر، تغييرات شكلية كان يمكنها أن تمر دون أن تغير المضمون الموسيقي، أي طريقة صياغة الجملة الموسيقية في ذاتها وكذلك في تعالقها إيقاعا ومعنى مع النص المغنى، بخاصة أن هذه التغييرات الشكلانية أتت بعد انكسار القوالب التقليدية وبعد تطور مضمون الجمل الموسيقية في المسرح الغنائي، مع سيد درويش وداود حسني وكامل الخلعي وغيرهم، وقبلهم سلامة حجازي بقصائده الدرامية الرومانسية.