في قلب كل ثقافة، هناك قصص تقليدية قديمة تُروى عبر الأجيال، وعندما تجتمع مع بعضها من مختلف أنحاء العالم، فإنها تخلق لحظة من الفهم والإدراك والتبادل المعرفي المشترك. ومن أجل هذا التبادل الثقافي قدم مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) برنامج الأيام الثقافية اليابانية في خطوة نحو استمرار التواصل الحضاري بين السعودية واليابان.
ولا شك في أن مركز "إثراء" كغيره من الجهات المهتمة بنقل تجارب ثقافية عالمية متكاملة، يتيح للزوار والسائحين التعرف على أوجه حياة الشعوب من خلال فنونها التقليدية، وإبداعها المعاصر الذي استمدته واستلهمته من تاريخها القديم في دلالة بارزة للقيمة الأساسية لفنونها الأولى.
إن مثل هذه الجهود الثقافية التي تبذلها المملكة ممثلة في مركز "إثراء" في سبيل تواصلها مع العالم واحتفائها بثقافاته جديرة بالإشارة والتتبع والتحليل، إذ إنها وقبل إقامتها لأيام اليابان الثقافية سبق وأن أقامت في عام 2020 "الأيام الثقافية الفيتنامية" وفي عام 2022 "الأيام الثقافية المصرية"، ما يؤكد تواصلها المستمر مع جميع ثقافات الشعوب.
وكما هو معلوم، فإن الشعب الياباني متعدد الفنون والمعارف، بل ويعد أحد أبرز دول العالم حفاظا على التراث والفنون الشعبية والأساطير الأولى، وقد اشتهر بشعب "الساموراي" أو "بوشي"، هذا الاسم الذي خلد وحافظ على تضحيات المحاربين اليابانيين القدامى منذ عام 905، لتبقى قصصهم خالدة ومروية للأجيال حتى اليوم.
في هذه الأيام الثقافية استطاع المسرح الياباني أن يقدم للمرة الأولى في المملكة عددا من مسرحياته البارزة، مثل: "درم تاو: الحلم"، وعروض "سوزوكي شينكو نوبويوكي"، و"وادايكو ساي". إضافة إلى عرضه لفيلم "قلعة هاول المتحركة"، الذي حمل في طياته عناصر من الفانتازيا والخيال التي تمثل الجانب الإبداعي من الثقافة اليابانية التي نجحت بدورها في توظيف الفن السابع لنقل تقاليدها، وفلسفاتها، وأبعادها الإبداعية بهذا الفيلم الذي أخرجه "هياو ميازاكي" محافظا أثناء إخراجه على الطبيعة اليابانية، والصراع الداخلي، والعلاقات الإنسانية. ومعروف عن المخرج الياباني "ميازاكي" عنايته الدائمة بقضايا الحرب، والبيئة، والطبيعة اليابانية.
ولم تخل الأيام اليابانية من ورش عمل مبتكرة أتاحت للزوار تعلم الفنون الحرفية اليابانية، كورشة ورق الواشي (ورق اليد) التي تركز على استخدام أساليب قديمة لصناعة الورق تنقل خبرات مئات السنين من الحرفية. وتضمنت الفعاليات عرضا للأزياء اليابانية التقليدية مثل "الكيمونو" وورشة لتعلم فنون الكتابة اليابانية "الكانجي" بالإضافة إلى تجارب طهي وموسيقى حية، مما يعكس التعدد الغني الذي تمثله الثقافة اليابانية.
تاريخ الثقافة اليابانية وعلاقتها بالسعودية يمثلان محورا مثيرا لفهم أبعاد الشراكة بين الشعبين، إذ إن اليابان تحتفظ بثقافة تتسم بالانضباط والإبداع، بينما تتمتع السعودية بحضارة غنية وتاريخ طويل يشكل نواة للعلاقات الثقافية مع دول العالم
كما برز ضمن الفعاليات إقامة ورش لفن "الكنيتسوجي" والذي يعد أحد الأمثلة البارزة في السعي الياباني للحفاظ على التراث عبر التعليم الحرفي والذي يرجع تاريخه إلى حوالي 300 قبل الميلاد. وهو فن إصلاح الأشياء المكسورة باستخدام الذهب أو الفضة، مما يجعل من العيوب والمكسور جزءًا من تاريخ الأشياء ويحولها إلى شيء جمالي. ويعكس هذا الفن فلسفة "الموت والبعث" في الثقافة اليابانية، حيث يعتبرون أن الكمال ليس في الخلو من العيوب، بل في القدرة على تحويل هذه العيوب إلى شيء جميل وذي معنى. هذا الفهم العميق للجماليات يمكن أن نجد له تناظرا في الاهتمام السعودي بالفنون الحرفية التقليدية مثل رسم أزهار الكرز وصناعة الدمى الخشبية، واكتشاف تقنيات الطباعة بالألواح الخشبية، وصناعة الفخار والنسيج والخزف، وهي أنشطة تعكس ارتباطا مماثلا بالحرفية والهوية الثقافية. هذا التشابه في القيم بين الشعبين يعكس أهمية احترام التراث، والعمل على نقله للأجيال الجديدة ليظل حيًا في العصر الحديث.
ولأن المملكة تعيش اليوم عام الحرف اليدوية فقد أقيمت ورشة "الكاليوغرافي" (الخط الياباني) وصناعة الورق الواشي، وفن "الأوريغامي" وغيرها من الفنون التي تحاكي تاريخ الحرف اليابانية التي تقدم نموذجا تربويا يُشبع الروح ويحفز الفكر ويرسخ أهمية الحفاظ على التراث من خلال نقل المهارات للأجيال.
إن تاريخ الثقافة اليابانية وعلاقتها بالسعودية يمثلان محورا مثيرا لفهم أبعاد الشراكة بين الشعبين، إذ إن اليابان تحتفظ بثقافة عميقة ومتجذرة تتسم بالانضباط والإبداع، بينما تتمتع السعودية بحضارة غنية وتاريخ طويل يشكل نواة للعلاقات الثقافية مع دول العالم. كما أن اليابان والسعودية، وعلى الرغم من تباين المسافات الجغرافية فإنهما يلتقيان في مشتركات عديدة، أبرزها الاهتمام بالفنون، والتراث، والابتكار، مما يجعل من فكرة "أيام اليابان الثقافية" فرصة رائعة لفتح نافذة ثقافية دائمة بينهما.
النتائج النهائية من هذه الفعاليات وغيرها هو تمكين الأفراد من النظر إلى العالم بعيون أكثر انفتاحا، وأقل تحكما بالقوالب النمطية
وما يجب استلهامه ومعرفته من هذه التجربة أن اليابانيين يحرصون على الحفاظ على تراثهم عبر التعليم المستمر للأجيال. كما يتجسد هذا الاهتمام في مجموعة واسعة من البرامج التعليمية التي تهدف إلى نقل المعرفة الثقافية والفنية إلى الأجيال الصاعدة، بحيث يتمكنون من فهم وتقدير تقاليدهم الغنية والمترسخة، حيث يعد تعليم الفنون التقليدية جزءا أساسيا من مناهج التعليم الوطنية.
إن النتائج النهائية من هذه الفعاليات وغيرها هو تمكين الأفراد من النظر إلى العالم بعيون أكثر انفتاحا، وأقل تحكما بالقوالب النمطية. فعلى الرغم من أن كل ثقافة تمثل مجموعة من القيم والمعتقدات الفريدة، فإن هناك نقاط تلاقٍ بين الشعوب يمكن من خلالها بناء مجتمع عالمي يقدّس التنوع الثقافي. وأيام اليابان الثقافية في السعودية لا شك أنها ستتيح للجيل الحالي فرصة فريدة للاطلاع على أبعاد جديدة من التفكير والفن التي قد تكون بعيدة عن تجربتهم اليومية، لكن بالانفتاح على هذه التجارب، سيتمكنون من توسيع آفاقهم الإبداعية. كما أنها تعزز من قدرة الشباب على التفاعل مع معطيات وتغيرات العصر الحديث، وتعلم دروس عن التعاون بين الأمم، وحسن التعامل مع التنوع المعرفي من خلال الاندماج في ثقافات مختلفة تسهم في تعليمهم المستمر وتشكيل جيل سعودي عالمي متمسك بثقافته الحضارية، قادر على خلق أفكار ومعارف متجددة ومبتكرة.