سوريا الجديدة تحت المجهر الأميركي والأوروبي للتحرر من العقوبات

تقييم مستمر للأداء ورفع تدريجي للقيود

رويترز
رويترز
العلم السوري الجديد في وسط ساحة بدمشق، 24 ديسمبر 2024

سوريا الجديدة تحت المجهر الأميركي والأوروبي للتحرر من العقوبات

كان الهجوم المفاجئ في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني في سوريا الذي أدى، في غضون أيام، إلى انهيار حكم الأسد المستمر منذ عقود، تغييرا سارا للولايات المتحدة وشركائها. إذ إن رحيل النظام لم يضع حدا فقط لنمط من السلوك العدائي والمتطرف واللاإنساني الذي تبين أن واشنطن لا تحتمله، وإنما وجه أيضا ضربة لأكبر خصمين للولايات المتحدة في المنطقة، أي إيران وروسيا.

لكن على الرغم من أن واشنطن احتفلت بنهاية حكم الأسد الوحشي، فإنها فعلت ذلك بحذر. فوصول حكومة انتقالية لم يترجم في نظر الولايات المتحدة "نهاية" قاطعة للحرب الأهلية السورية التي استمرت قرابة أربعة عشر عاما، بل فصلا جديدا ينطوي على كثير من الأخطار الأمنية بقدر ما ينطوي على فرص للاستقرار على المدى الطويل.

ولبعض هذه الأخطار استجابات سياسية واضحة، كثني الجهات الفاعلة الخارجية مثل تركيا وإسرائيل عن الاعتداء على أراضٍ متنازع عليها مثل شمال شرق سوريا أو مرتفعات الجولان.

على مدى أكثر من أربعة عقود، صممت الولايات المتحدة سلسلة معقدة من العقوبات الواسعة النطاق المفروضة على القطاعات الاقتصادية والشركات والأفراد في سوريا لتشجيع إحداث تغيير في سلوك دمشق

لكن تبين أن ثمة أخطارا أخرى أكثر صعوبة، بل أكثر غموضا بالنسبة لواشنطن - وأبرزها كيفية التعامل مع الحكومة السورية الجديدة.

نظام العقوبات الحالي

يشكل احتمال إلغاء العقوبات المفروضة على دمشق بداية لتحول كبير في السياسة الأميركية تجاه سوريا. فعلى مدى أكثر من أربعة عقود، صممت الولايات المتحدة تدريجيا سلسلة معقدة من العقوبات الواسعة النطاق المفروضة على القطاعات الاقتصادية والشركات والأفراد في سوريا لتشجيع إحداث تغيير في سلوك دمشق. فقد صنفت الولايات المتحدة سوريا "دولة راعية للإرهاب" بدءا من سنة 1979، وأضافتها إلى قائمة تضم العراق وليبيا واليمن الجنوبي (اليمن حاليا). وبناء على هذا النهج، وقعت الولايات المتحدة في سنة 2004، في خضم حربها في العراق، الأمر التنفيذي 13338 ليصبح قانونا يضيف مزيدا من العقوبات والقيود على الحكومة السورية ردا على دعمها لـ"حزب الله" وتعدياتها في لبنان.

.أ.ف.ب
رجل يعرض عملة الليرة مقابل عملة أجنبية، في أحد شوارع دمشق، 14 يناير 2025

كذلك، شكلت الاحتجاجات وأعمال القمع الوحشية التي مارسها نظام الأسد على المحتجين – وهو سلوك سرعان ما تحول إلى حملة تمييزية ممنهجة على مواطنيه في جميع أنحاء البلاد –مرحلة جديدة للقيود الاقتصادية الأميركية على سوريا. فبدأت الولايات المتحدة في استخدام العقوبات الاقتصادية بوصفها من أكثر الأدوات شعبية في مجموعة أدواتها، وذلك ردا على قائمة متزايدة من جرائم الحرب التي ارتكبها النظام، وتعزيز علاقاته مع روسيا وإيران، ومشاركته في إنتاج المخدرات غير المشروعة والاتجار بها، وسلوكه المتطرف مع جيرانه. فبعد شهر واحد فقط من اندلاع الاحتجاجات في مدينة درعا في جنوب سوريا على النظام ومواجهة السلطات لها بقمع واسع النطاق، أصدرت الولايات المتحدة الأمر التنفيذي 13572 في أبريل/نيسان 2011 الذي يفرض حظرا على ممتلكات مسؤولي النظام المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان.

واتخذت خطوات إضافية في مايو/أيار وأغسطس/آب من العام نفسه، عندما أصدرت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الأمرين التنفيذيين 13573 و13582، وفرضت عقوبات على مسؤولين سوريين رفيعي المستوى (مثل الرئيس الأسد نفسه)، وعلى ممتلكات الحكومة السورية، وبدأت بفرض قيود على الاستثمارات الجديدة، واستيراد النفط السوري، وبيع الخدمات من قبل أفراد أميركيين. في العام التالي، واصلت الولايات المتحدة البناء على نظام العقوبات، ففرضت قيودا إضافية في أبريل/نبسان ومايو/أيار 2012 - في الذكرى السنوية الأولى للثورة السورية - استهدفت مزيدا من الأفراد الموالين للنظام والكيانات التجارية التي كان لها دور في قمع النظام لمواطنيه وسعت للتهرب من العقوبات الدولية.

تستخدم الولايات المتحدة تخفيف العقوبات بمثابة أداة للضغط على الحكومة الجديدة وعدم مكافأة دمشق إلا بعد أن تتحقق من أنها نأت بنفسها عن الماضي

وفي أعقاب أغسطس/آب 2013، اعتبرت العقوبات الاقتصادية وسيلة للتعويض عن نهج عدم التدخل الذي وضعته إدارة أوباما، بعد الامتناع عن إنفاذ "الخط الأحمر" الذي حدده الرئيس أوباما ومستشاروه. وجاءت أكبر جولة من العقوبات مع "قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين" في ديسمبر/كانون الأول 2019، الذي صمم لعزل النظام اقتصاديا وسياسيا بعد سنوات من إفلاته من العقاب واستمرار سلوكه العدائي، وفرض قيودا شديدة على مسؤولي النظام والجهات الفاعلة المحتملة في إعادة الإعمار. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات إضافية بموجب "قانون الكبتاغون" لعام 2022 و"قانون مكافحة الاتجار غير المشروع بالكبتاغون" لعام 2024، اللذين صمما لفرض قيود على الشركات والأفراد السوريين واللبنانيين المرتبطين بعائلة الأسد، والفرقة الرابعة المدرعة التابعة للنظام وأجهزة الاستخبارات، و"حزب الله"، وقطاع الأعمال، الذين يساهمون في إنتاج الكبتاغون و/أو الاتجار فيه.

.أ.ب
محطة قطار القدم، بعد المعارك التي دارت حولها، دمشق، سوريا 13 يناير 2025

بمرور السنين، ومع تزايد قسوة العقوبات على المدنيين السوريين، أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الأميركية سلسلة من الإعفاءات وسياسات الترخيص للتصدير لتخفيف تكاليف العقوبات على المواطنين السوريين غير المرتبطين بالنظام وجرائمه. وسعت هذه المبادرات إلى توفير المرونة لمراجعة الحالات التي يمكن فيها للأفراد والشركات الأميركية تقديم الموارد الضرورية والمشاركة في أنشطة اقتصادية في سوريا لا تقدم الدعم – المباشر أو غير المباشر - للنظام السوري.

الطريق إلى الأمام

كان لسنوات الحرب الأهلية والانهيار المالي في سوريا آثار مدمرة على البنية التحتية الأساسية والقطاعات الاقتصادية في البلاد، وتشكل جميعها عقبات أمام عملية الانتقال السلس وإحياء المشاركة المدنية السورية. وقد أثارت الحاجة الماسة إلى الإغاثة المالية الفورية في سوريا نقاشا حيويا في واشنطن وفي عواصم شركائها في شأن التخفيف التدريجي للعقوبات الفردية والقطاعية المعقدة التي فرضت منذ سنوات على سوريا ردا على السلوك الخبيث للنظام.

وأوضحت إدارة بايدن، في أيامها الأخيرة، أن هيئاتها تدرس بالفعل تخفيف وطأة العقوبات، لكن النقاش لا يزال جاريا في شأن كيفية تصميم هذه العملية وتوقيتها وتنفيذها، ومن المرجح أن يستمر ذلك في إدارة ترمب الثانية. وفي المحصلة، وصفت معضلة العقوبات الأميركية بأنها موقف محير. ففي وسع الولايات المتحدة القيام بتخفيف رئيس للعقوبات يسمح بحصول تدفق نقدي كبير والتطبيع الاقتصادي مع سوريا الجديدة، وهو ما يدعم الانتقال السياسي السلس.

أعلن الاتحاد الأوروبي التوصل إلى توافق للبدء في رفع العقوبات عن سوريا من خلال خريطة طريق تتقدم "خطوة بخطوة"، بدءا بالقيود على الخدمات المصرفية والنقل والمواصلات وقطاع الطاقة

ويمكن بدلا من ذلك أن تستخدم الولايات المتحدة تخفيف العقوبات بمثابة أداة للضغط على الحكومة الجديدة وعدم مكافأة دمشق إلا بعد أن تتحقق من أنها قد نأت بنفسها عن الماضي.

من المرجح في الأشهر المقبلة أن تحافظ الولايات المتحدة على الموازنة بين النهجين، معتمدة إلى حد كبير على شركائها الأوروبيين والإقليميين لمعرفة ما يضمره الحكم الجديد أولا. وقد حثت الولايات المتحدة بهدوء حتى الآن دولا مثل المملكة المتحدة والأردن، والأمم المتحدة، ومنظمات المجتمع المدني، على تقييم سلوك الحكم الجديد، والتعرف الى سياساته المزمعة، ومناقشة رؤية دمشق لإحياء الاقتصاد السوري، وتحديد مبادئها الانتقالية والمجتمع المدني والامتثال للقواعد الدولية.

وبعد سلسلة من اللقاءات لتوجيه الحكومة السورية الجديدة المؤقتة، أعلن الاتحاد الأوروبي أن وزراءه السبعة والعشرين توصلوا إلى توافق في الرأي للبدء في رفع العقوبات عن سوريا من خلال خريطة طريق تتقدم "خطوة بخطوة"، بدءا بالقيود على الخدمات المصرفية والنقل والمواصلات وقطاع الطاقة.

.أ.ف.ب
رجل بيع غالونات وقود على جانب الطريق، في دمشق، 14 يناير 2025

لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة لم تقم بخطوات من جانبها. ففي 19 ديسمبر/كانون الأول، أرسل مكتب شؤون الشرق الأدنى بوزارة الخارجية الأميركية وفدا إلى دمشق، برئاسة مساعدة وزير الخارجية باربرا ليف، للقاء الرئيس السوري أحمد الشرع. ومع أن مناقشاتهم اقتصرت إلى حد كبير على مسائل مثل إطلاق سراح أوستن تايس الذي فقد منذ أكثر من 12 عاما في سوريا، فإن الاجتماع كان مهما، لأنه شكل أول اتصال بين الولايات المتحدة وسوريا الجديدة. كما حددت ليف أيضا كيف سيكون مسار التطبيع مع الرئيس الشرع، مع أنه لم يكشف النقاب عن "قواعد التنفيذ" بالضبط. وقبل أيام من تولي ترمب منصبه، أصدرت إدارة بايدن الترخيص العام 24، الذي يخفف العقوبات بفتح نافذة زمنية مدتها ستة أشهر مع الحكومة السورية الجديدة للمعاملات الاقتصادية المحدودة، والتحويلات المالية، ومبيعات الطاقة.

مع اقتراب انتهاء صلاحية مجموعة كبيرة من العقوبات الأميركية المفروضة بموجب "قانون قيصر" في السنة الجارية، فإن الولايات المتحدة ستمتنع عن فرض عقوبات إضافية على الأفراد والشركات والصناعات السورية

وأصدرت الولايات المتحدة أيضا إعفاء من قانون المساعدة الخارجية، يسمح بموجبه لدول مثل عمان ولبنان والعراق والكويت والأردن وقطر وأوكرانيا والإمارات العربية المتحدة وتركيا والمملكة العربية السعودية بمباشرة دعم التعافي الاقتصادي في سوريا مع استمرار تلقي المساعدة الأميركية - وهو أمر كان محظورا سابقا لتصنيف سوريا دولة راعية للإرهاب.

.أ.ف.ب
البنك المركزي السوري، في العاصمة دمشق، 30 ديسمبر 2024

لكن بوجود إدارة أميركية جديدة بقيادة رئيس نشر بعد يومين فقط من سقوط نظام الأسد، "هذه ليست معركتنا. دعوا الأمور تمضي. ولا تتورطوا"، فمن غير المعروف ما إذا كانت الإدارة الأميركية ستسعى للحفاظ على زخم المشاركة وتخفيف العقوبات.

ومع اقتراب انتهاء صلاحية مجموعة كبيرة من العقوبات الأميركية المفروضة بموجب "قانون قيصر" السنة الجارية، فإن الولايات المتحدة ستمتنع عن فرض عقوبات إضافية على الأفراد والشركات والصناعات السورية، مع التمسك إلى حد كبير بإمكان رفع العقوبات عن الكيانات والحكومة السورية بوصفه أكبر حافز للتأثير على الحكم الجديد. وربما تجد دمشق أن واشنطن تنتظر مدة أطول مما قد ترغب فيه لرفع سوريا من القائمة وإزالة العقوبات المتبقية - حتى لو استخدمت تخفيف العقوبات كأداة للضغط لتشجيع تغيير السلوك على المدى الطويل. ففي النهاية، تعتقد الولايات المتحدة أن في وسعها نقل مسؤولية الإنعاش الاقتصادي في سوريا إلى نظرائها الأوروبيين والشرق أوسطيين، والبدء في وضع الأسس لذلك وتشجيعهم على تقييم الموقف أولا.

font change