الكويت... مراجعات مالية مستحقة لأنظمة عفا عليها الزمن

منها ضرورة اصلاح النظام الصحي ووقف تمويل مشاريع بلا جدوى ومعرضة للإفلاس

Shutterstock
Shutterstock
مستشفيات مجموعة "بيند القار" الصحية، في العاصمة الكويتية على طريق الخليج، 2019

الكويت... مراجعات مالية مستحقة لأنظمة عفا عليها الزمن

منذ بداية عصر النفط في الكويت في أواخر أربعينات القرن الماضي، والبلاد تتبع سياسة رعاية اجتماعية سخية وتوفر التكافل المجتمعي من خلال الانفاق العام. ضمنت الكويت توفير وظائف للمواطنين في مختلف الوزارات الحكومية والمؤسسات العامة المملوكة للدولة، وتبنت نظاما صحيا يوفر الوقاية والرعاية للمواطنين والمقيمين كافة في الكويت.

كذلك عملت على توفير التعليم للكويتيين في مختلف مراحله من الروضة حتى الجامعة والمعاهد العليا. هذا بالإضافة إلى توفير الكهرباء والمياه والبنزين بأسعار مدعومة تقل كثيرا عن التكاليف الحقيقية. يضاف إلى ذلك تبني سياسة الرعاية الإسكانية المعتمدة على توفير الأرض والقرض الحسن أو المساكن الجاهزة للمواطنين المتزوجين.

هذه الالتزامات لا بد أنها مكلفة وارتفعت تكاليفها مع ارتفاع أعداد السكان، حيث لم يكن عدد سكان الكويت بعد إجراء أول تعداد سكاني رسمي في عام 1957 يتخطى 225 ألف نسمة منهم 115 ألف كويتي.

خلال السنوات الثلاثين الماضية، أضافت الدولة أعباء جديدة ذات تكلفة عالية، منها نظام "عافية" الخاص بتوفير التأمين الصحي للمتقاعدين الكويتيين للرعاية الصحية في المستشفيات والعيادات الخاصة. كلف النظام المذكور في آخر سنة مالية نحو 354 مليون دينار أو 1,2 مليار دولار

أما الآن، فعدد السكان تجاوز 4,5 مليون نسمة منهم 1,5 مليون كويتي. لا بد أن يكون هذا التطور الديمغرافي قد حمل الدولة تكاليف كبيرة تستدعي مراجعة الالتزامات كافة التي اضطلعت بها.

الرعاية الصحية: نظام "عافية" وتكاليفه

خلال السنوات الثلاثين الماضية، أضافت الدولة أعباء جديدة ذات تكلفة عالية، منها نظام "عافية" الخاص بتوفير التأمين الصحي للمتقاعدين الكويتيين للرعاية الصحية في المستشفيات والعيادات الخاصة. كلف النظام المذكور في آخر سنة مالية نحو 354 مليون دينار أو 1,2 مليار دولار. خلال السنوات التي مرت منذ اعتماد النظام بموجب القانون 114 لسنة 2014، برزت مشكلات بين وزارة الصحة وشركة التأمين، وظهرت عمليات ابتزاز كبيرة من قبل المؤسسات الصحية الخاصة للاستفادة من هذا النظام المكلف، ومنها إجراء فحوص غير ضرورية للمرضى أو صرف أدوية بكميات كبيرة أو احتساب تكاليف مبالغ فيها للكشوفات والفحوص المخبرية وصور الأشعة وغيرها، مما دفع شركة التأمين للمطالبة برفع التعويضات أو رسوم التأمين التي رفضتها الوزارة.

Shutterstockمستشفيات مجموعة "بيند القار" الصحية، في العاصمة الكويتية على طريق الخليج، 2019

وأدت الخلافات إلى قيام وزارة الصحة بالتوقف عن توفير هذه الرعاية ووقف العمل بالقانون. كما هو معلوم، توفر المستشفيات الحكومية خدمات صحية مجانية للمواطنين والمقيمين، وبعضها بأسعار رمزية، كما أن الرعاية الصحية الحكومية توفر علاجات لأمراض خطيرة مثل السرطان وأمراض القلب وأمراض العظام التي ليس في مقدور المؤسسات الصحية الخاصة توفيرها.

مشاريع لم تحظ بدراسات مناسبة، وتركزت في مشاريع متكررة ومنها المطاعم والمقاهي، ولم يكن هناك مبررات اقتصادية لقيام الدولة بتوفير هذه التمويلات الميسرة

لذلك، يتطلب إصلاح النظام الصحي الارتقاء بالخدمات الصحية الحكومية وتوفير الطواقم الطبية والتمريض المتميزة لتعزيز معالجة المرضى من المتقاعدين الذين تتزايد أعدادهم سنويا بسبب أنظمة التقاعد، التي تشمل من لديهم الرغبة في التقاعد المبكر، المسموح به بعد سن الخامسة والخمسين للذكور والخمسين للأناث.

تمويلات ميسرة لمشاريع بلا دراسات مناسبة

هناك أيضا التمويلات التي يقوم بها صندوق دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، الذي تأسس بموجب القانون 98 لسنة 2013. حدد رأسمال الصندوق بـ2 مليار دينار أو 6,5 مليارات دولار. بين القانون أن الحد الأقصى لتمويل المشروع هو في حدود 500 ألف دينار أو 1,6 مليون دولار. قام الصندوق بتوفير التمويل للعديد من المشاريع الصغيرة والمتوسطة في مختلف الأنشطة الاقتصادية، وذلك دعما للمبادرين وبناء على افتراض أن هذه المشروعات سوف تخلق فرص عمل للمواطنين بعيدا من الحكومة التي غرقت في البطالة المقنعة والأعداد الفائضة بسبب سياسات التوظيف المعتمدة. لكن هذه المشاريع لم تحظ بدراسات مناسبة، وتركزت في مشاريع متكررة ومنها المطاعم والمقاهي، واعتمدت على العمالة الوافدة بشكل كبير. يضاف إلى ذلك أن إدارة الصندوق تعرضت للتغيير بشكل متكرر.

.أ.ف.ببرج تجاري قيد الإنشاء وسط مدينة العاصمة الكويت، بالقرب من جسر الشيخ جابر الأحمد

كما هو معلوم، أن معظم المشاريع القائمة في الكويت هي مشاريع صغيرة لا يتجاوز عدد العاملين فيها العشرة. يملك هذه المشاريع صغار رجال الأعمال من الوافدين وبكفالة الكويتيين الصورية، وتمثل 85 في المئة من عدد المشاريع في البلاد. تعتمد الاقتصادات الطبيعية على دور مهم للمشاريع الصغيرة، إلا أن هذه المشاريع تعتمد على تمويلات النظام المصرفي الذي يدقق في مدى جدوى المشروع وقدراته على التزام تسديد الديون.

التزامات راكمتها الفلسفات الشعبوية التي اعتمدها مجلس الأمة وقبلت بها الحكومات المتعاقبة. تلك سياسات أفسدت الحياة الاجتماعية وعطلت التنمية الاقتصادية المستدامة

لذلك لم يكن هناك مبررات اقتصادية لقيام الدولة بتوفير هذه التمويلات الميسرة، التي قد تكون قد أوجدت مشاريع تعاني من ضعف الأعمال وعدم القدرة على توفير فرص عمل للكويتيين أو معرضة للإفلاس أو الإعسار في أحسن الأحوال وفي أنشطة أصبحت متشبعة دون مسوغات وجيهة.

تكاليف باهظة بلا نتائج ملموسة

 هذه القوانين التي نتجت منها التزامات مكلفة، لا بد من مراجعتها والبحث عن بدائل ملائمة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه ترشيد الإنفاق العام وتعزيز فرص العمل للمواطنين. لا شك أن هذه الالتزامات جاءت بفعل الفلسفات الشعبوية التي اعتمدها مجلس الأمة وقبلت بها الحكومات المتعاقبة. تلك سياسات أفسدت الحياة الاجتماعية وعطلت التنمية الاقتصادية المستدامة. وإذ لم يعد في الإمكان الاستمرار بهذه السياسات، بدأت الحكومة باتخاذ قرارات جريئة ومتسقة مع متطلبات الترشيد والإصلاح المالي والاقتصادي، أهمها وقف العمل بنظام "عافية" الصحي والعمل على تبني سياسات تمويل جديدة من قبل الصندوق الوطني لرعاية وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

Shutterstockالبنك المركزي الكويتي وسط العاصمة

السكن وقانون الرهن العقاري

من المهم ايضا مراجعة فلسفة الدعم لخدمات المرافق، الكهرباء، المياه وأسعار الوقود، والعمل على انتهاج نظام رعاية سكنية قابل للاستمرار، مثل اعتماد قانون للرهن العقاري يمكن النظام المصرفي من توفير التمويل اللازم لإقتناء السكن، وكذلك دعم المطورين العقاريين الذين يمكن أن يوفروا المساكن الملائمة للمواطنين بدلاً من الاعتماد على الأجهزة الحكومية العاجزة الإنجاز لأكثر من عشرين عاما. وقد تعرض المراجعات المستحقة مجلس الوزراء لانتقادات من عدد من الجهات لكن لم يعد ممكنا الاستمرار بهذه الأنظمة غير المتوازنة خلال السنوات والعقود المقبلة. فقد ورثت السلطة السياسية العديد من المشكلات عن الحكومات ومجالس الأمة السابقة وهي تأمل إنجاز المعالجات المفيدة وفي الوقت نفسه كسب الدعم الشعبي لكل مراجعة مستحقة.

font change