بخلاف شعراء أم كلثوم العموديين الذين تماثلوا في نزوع مديحها، وتقاسموا مهب الاطراء حد التقديس لأيقونتها الغنائية، مازجين بين أثر ذاتها كأنثى معشوقة بوله وبين فرادة صوتها الذي لا يضاهى، نلفي خارج هذا العروض حاشيتين شعريتين مفردتين للنظر إلى ظاهرتها الغنائية الطاعنة في الاستثناء، محض قصيدتين لشاعرين في نسقين زمنيين مغايرين، احتكما في نسيج نصيهما إلى أثرها المريب كصوت جارف، ضالع في الذهاب بحفنة اليقظة إلى سديم الحلم، لا مديحا مشاعا بل تماهيا موسيقيا مع ما يحدثه جلال الصوت من رجات بكر في كيمياء الذاكرة وإيقاظ جنادب الخيال كيما تجمح في سماء الأبدية المطبقة.
هما قصيدتان تتسمان بالاختلاف عما سبق ودار في فلك شعراء أم كلثوم الأقربين والأبعدين، الأولى لبدر شاكر السياب تحت عنوان "أم كلثوم والذكرى" المؤرخة في التاسع من مارس/ آذار في لندن عام 1963، وقد ضمنها حنايا ديوانه "شناشيل ابنة الجلبي وإقبال"، والثانية لمحمود درويش تحت عنوان "إدمان الوحيد" المنشورة ضمن كتابه "أثر الفراشة" الصادر عام 2008.
السياب وذاكرة الطفولة
في استغراقه الذاتي المتماهي مع ظلال مآسيه المستفحلة، يتمثل بدر شاكر السياب صوت أم كلثوم إكسيرا يشربه فيرسب به من كوة روحه إلى قرارة نفسه، موقدا شرارة تحتدم في صقيع أضلاعه. صوت وفق توصيفه ملؤه غناء يصدح به لسان النار الذي ينذره بنسيان أنثى موشومة أنكبته بقسوة الجفاء، وبذا تؤول سيرة أوجاعه إلى هباء.
يستأنف السياب شربه لصوت أم كلثوم كأنها جرعات ماء من نهر بويب في قريته جيكور، وفي الاشتباكات التخييلية خلف النهر تهسهس الكروم، وتتمادى الربى، فيما سمر الصبايا يرددن لازمة "ها، ها، ها".
لا يبارح السياب استغراقه في الحنين وعودته الأوليسية إلى ذاكرة طفولته وصباه النهرية، فيتمثل في شرب صوت أم كلثوم عرسا نازحا في زورق، يناغمه شجن مزمار مواز، مشفوعا بإيقاع الدرابك المصاحب. كل هذا الاحتدام النهري يخترق روحه في شفق من النار، ثم يبزغ ظل أيقونة إناثه وفيقة، المجللة في أشعاره الحميمة مثل "شرفة وفيقة" و"حدائق وفيقة"، هي حب يفاعته الهشة، "وفيقة" الفرعاء تشرئب من حولها سحائب العطر، بل زوبعة ألحان بلا أوتار.