"الترمبية" قد تهز العالم

لن يعود الرئيس الأميركي إلى السياسة التقليدية كالمعتاد. ولكنه- من خلال أيديولوجيته "الترمبية"- قد يقود ثورة اجتماعية وسياسية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي

سارة بادوفان/المجلة
سارة بادوفان/المجلة

"الترمبية" قد تهز العالم

يفترض كثيرون أن دونالد ترمب سيعود إلى ممارسة النمط التقليدي من السياسة بعد أن استرجع الرئاسة ورجع إلى البيت الأبيض، كما كان الحال جزئيا في ولايته الأولى وإن تكن بنكهته الخاصة وعفويته المميزة. ولكنني واثق من أن هذا لن يكون هو الحال.

الواقع أن ترمب يخطط لثورة. وتعد الأيام الأولى من ولايته الثانية أفضل الأوقات لإلقاء نظرة جادة على ما يحدث في أميركا-ترمب. وبالفعل، لا يمكن التقليل من أهمية ما يتكشف الآن. يقدم هذا المقال نظرة مفصلة على ملامح الترمبية كأيديولوجيا.

ما بعد الليبرالية

يصف نائب الرئيس فانس نفسه صراحة بأنه "ما بعد-ليبرالي"، ما يعني قطيعة بيّنة عن الليبرالية اليسارية التي هيمنت على السياسة الأميركية في العقود الأخيرة. ويبدو أن من هم اليوم في سدة الحكم يريدون إعادة النظر إلى حد كبير في الفكر الليبرالي، وربما تفكيكه بالكامل. وقد تخترق عملية التنظيف هذه المؤسسة السياسية الأميركية نفسها، والتي أفضل أن أشير إليها باسم الدولة العميقة.

بهذه الطريقة، تتشكل "الترمبية" تدريجيا كأيديولوجيا مستقلة ومميزة، تقف في مواجهة مباشرة مع الليبرالية اليسارية التي كانت سائدة حتى وقت قريب. وعلى الرغم من أن الترمبية ليست متجانسة، فإن لها بنية واضحة ذات خصائص مميزة.

أولا، تعارض "الترمبية" بشكل حاسم وصريح العولمة، التي تتصور الإنسانية ككيان موحد اقتصاديا وثقافيا، حيث تتلاشى الحدود الوطنية تدريجيا، وتتخلى الدول القومية عن سيادتها لصالح كيانات فوق وطنية (مثل الاتحاد الأوروبي). ويرى دعاة العولمة، ومن بينهم شخصيات مثل كلاوس شواب وبيل غيتس وجورج سوروس، أن هذا المسار سيؤدي في النهاية إلى إنشاء حكومة عالمية. في هذا التصور، يصبح جميع الأفراد مواطنين عالميين يتمتعون بحقوق متساوية ضمن إطار اقتصادي وتقني وثقافي واجتماعي مشترك. وتُعتبر الجائحة والأجندة البيئية آليات محتملة لدفع هذا المسار، الذي يُشار إليه غالبا باسم "إعادة الضبط العظيم".

تُبدي الترمبية قلقا كبيرا إزاء نمو المجتمعات الإسلامية في أميركا، وترى أن هذه المجتمعات لا تتقبل القيم والمعايير الغربية، وقد قويت شوكتها في ظل السياسات الليبرالية التي لم تطلب منها الاندماج

وذلك كلّه أمر غير مقبول على الإطلاق في نظر "الترمبية"، التي تدعو إلى الحفاظ على الدول القومية أو اندماجها ضمن سياقات حضارية أكبر، وخاصة الحضارة الغربية. وتسعى هذه المقاربة إلى توحيد الغرب، ليس تحت الأيديولوجيا الليبرالية العالمية، بل تحت راية الترمبية. ويعيد هذا المنظور صدى نظرية صموئيل هنتنغتون المعروفة باسم صدام الحضارات والتي تنبأت بحتمية مواجهة الغرب مع الحضارات الأخرى في نهاية المطاف. وبشكل عام، تميل المدرسة الترمبية إلى الواقعية الدولية.

أجندة مناهضة "الووك"

يدافع "الترمبيون" عن أجندة مناهضة للقيم التقدمية (التي يسمونها "الووك")، مثل سياسات النوع الاجتماعي. وهم لا يعترفون سوى بنوعين اثنين طبيعيين فقط، الذكر والأنثى، ويرفضون فكرة تطبيع المثلية الجنسية وثنائية الجنس والتحول الجنسي، ولا يؤيدون النسوية، بل يسعون إلى إعادة مفاهيم الذكورة ودور الرجل إلى الصدارة في المجتمع. وبالتالي، لا أحد مضطر للاعتذار عن كونه رجلا بعد الآن. وهذا هو سبب تسمية الترمبية أحيانا بـ"ثورة الإخوة"، ثورة الرجال.

وبدلا من النظرية العنصرية النقدية، تعيد "الترمبية" تأهيل الحضارة البيضاء. ولكن العنصرية البيضاء الصريحة سمة مميزة فقط للتيارات المتطرفة في "الترمبية". أما "الترمبية" عموما فتكتفي برفض انتقاد الهوية البيضاء مع الحفاظ على نهج متسامح نسبيا تجاه المجموعات غير البيضاء، بشرط أن لا تطالب هذه المجموعات البيضاء بالتوبة.

كيني هولستون- أ.ف.ب
الرئيس دونالد ترمب يدخل حفل تنصيبه كرئيس للولايات المتحدة السابع والأربعين في مبنى الكابيتول الأميركي في واشنطن العاصمة، الاثنين 20 يناير

مناهضة الهجرة

يطالب "الترمبيون" بفرض قيود صارمة على الهجرة ويريدون حظر المهاجرين غير الشرعيين بشكل تام ويسعون إلى طردهم من البلاد. ويطالب "الترمبيون" بهوية وطنية مشتركة، ويفترضون أن جميع القادمين إلى المجتمعات الغربية من الحضارات والثقافات الأخرى ينبغي أن يقبلوا القيم التقليدية للحضارة المضيفة، ولا يؤيدون التعددية الثقافية التي يدافع عنها أتباع التعددية الثقافية الليبرالية. ويتخذ التيار موقفا صارما بشكل خاص ضد الهجرة غير الشرعية وتدفق المهاجرين من أميركا اللاتينية، ويخشون من أنها ستغير التركيبة السكانية للولايات التي أصبح فيها اللاتينيون يشكلون الأغلبية.

وفوق ذلك، تُبدي الترمبية قلقا كبيرا إزاء نمو المجتمعات الإسلامية في أميركا، وترى أن هذه المجتمعات لا تتقبل القيم والمعايير الغربية، وقد قويت شوكتها في ظل السياسات الليبرالية التي لم تطلب منها الاندماج، بل على العكس دعمت الأقليات للحفاظ على استقلاليتها الثقافية.

وفيما يتعلق بالصين، يضمر أنصار ترمب استياء عميقا من النشاط الاقتصادي الصيني في الولايات المتحدة ويسعون إلى الحد من نفوذ الصين من خلال القضاء على ملكيتها للصناعات والشركات داخل البلاد.

الوقوف في وجه المدّ اللاتيني

ولكن العامل اللاتيني يبقى هو الأهم على الأجندة "الترمبية" في السياسة الداخلية الأميركية. وهنا، تلعب أفكار صموئيل هنتنغتون، مرة أخرى، دورا بالغ الأهمية. وكان هنتنغتون أشار في كتابه منذ عقود إلى أن التهديد الرئيس لهوية أميركا الشمالية وقاعدتها التقليدية البروتستانتية الأنجلو-سكسونية البيضاء، أو الواسب(WASP) هو تدفق المهاجرين من أميركا اللاتينية، الذي سيخلق هوية كاثوليكية لاتينية مختلفة تماما. ويجادل هنتنغتون بأن الواسب كانوا، إلى حد ما، قادرين على استيعاب الثقافات والشعوب الأخرى. ولكن مع التدفق الهائل للاتينيين، لم يعد ذلك ممكنا.

ترفض "الترمبية" أيضا مفهوم ما بعد الحداثة الذي يرتبط عادة بالاتجاهات اليسارية الليبرالية "التقدمية" في الثقافة والفن

وهكذا فإن ما يُطلق عليه "رهاب المهاجرين" يأخذ شكلا أكثر دقة في الولايات المتحدة: كراهية الهجرة الجماعية، وتحديدا من أميركا اللاتينية. وعلى هذه الخلفية جعل ترمب من بناء "الجدار العظيم" على طول الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك أولوية خلال فترة ولايته الأولى. أضف إلى ذلك أن "الترمبيين" لا يميلون بشكل عام إلى دول أميركا اللاتينية التي يعتبرونها يسارية ومصدرا للهجرة غير الشرعية.

ضد الرقابة اليسارية الليبرالية

يعارض "الترمبيون" الصوابية السياسية التي يرون فيها ضربا من ضروب الرقابة اليسارية الليبرالية ولا تساعد في مكافحة التطرف. وهم يرون أن الليبراليين بنوا نظاما متقنا للتلاعب بالرأي العام، وألغوا فعليا حرية التعبير، سواء في وسائل الإعلام الرئيسة أو في الشبكات الاجتماعية التي يسيطرون عليها. فأي شخص يعارض أو يحيد ولو قليلا عن الأجندة الليبرالية اليسارية كان يوصف على الفور بأنه "يميني متطرف" و"عنصري" و"فاشي" و"نازي"، ويتعرض للإقصاء والملاحقة القانونية التي قد تودي به إلى السجن. ويقولون إن الرقابة أصبحت تدريجيا شاملة، وغدت "الترمبية" نفسها– إلى جانب الحركات الأخرى المناهضة للعولمة (في روسيا في المقام الأول)، وكذلك التيارات الشعبوية الأوروبية ومفاهيم التعددية القطبية– هدفا مباشرا لهذه الرقابة.

وبالنسبة لـ"الترمبيين" تعتبر النخب الليبرالية أن المواطن العادي ضعيف العقل وغير واع في المجتمع، وأعادت تعريف الديمقراطية ليس على أنها "حكم الأغلبية" بل "حكم الأقلية"، وكل ما لا يتطابق مع الأجندة اليسارية الليبرالية كان يوصف بـ"الأخبار الكاذبة" ويوسم بأنه "دعاية بوتين" ويوضع في خانة نظريات المؤامرة والآراء المتطرفة الخطيرة التي تتطلب إجراءات عقابية. وهكذا تقلص مساحة المقبول بشكل حاد، واعتُبر كل ما يختلف عن عقيدة الليبرالية اليسارية المتطرفة (الووك) أمرا غير مقبول، فجرى اضطهاده وحظره. وانطبق ذلك على جميع مبادئ الليبرالية العالمية– الجنس، والهجرة، والنظرية العرقية النقدية، والتطعيم، وما إلى ذلك. وفي الواقع، أصبحت الليبرالية شمولية وغير متسامحة تماما، وأصبح المقصود بـ"الشمولية" (inclusiveness) هو أن يكون الشخص ليبراليا فقط.

على أن "الترمبية" ترفض كل ذلك رفضا قاطعا وتطالب بعودة حرية التعبير التي أُلغيت تدريجيا بشكل كامل على مدار العقود الماضية. وترى "الترمبية" أنه لا ينبغي إعطاء أي أفضلية لأي أيديولوجيا، بل إن الدفاع عن حرية الرأي عبر الطيف الكامل للأيديولوجيات الممكنة– من أقصى اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار– هو أساس أيديولوجيا "الترمبية".

سارة بادوفان/المجلة

مناهضة ما بعد الحداثة

ترفض "الترمبية" أيضا مفهوم ما بعد الحداثة الذي يرتبط عادة بالاتجاهات اليسارية الليبرالية "التقدمية" في الثقافة والفن. ولأن "الترمبية" لم تطوّر أسلوبها الخاص بها حتى الآن، فهي تقتصر على إزاحة ثقافة ما بعد الحداثة في صفوف قاعدتها والدعوة إلى تنويع المساعي الثقافية.

وعموما لا يتمتع أنصار "الترمبية" في معظمهم بالثقافة والحنكة وليسوا مهتمين بالخطاب الفكري العميق، بل يركزون على تحدي هيمنة الأفكار ما بعد الحداثية ومقاومة تطبيع ما يعتبرونه "فنا منحطا"، ويسعون بكل جهدهم إلى تفكيك ما يرونه قبضة استبدادية لقيم ما بعد الحداثة، بدلا من التفاعل معها أو تبنيها.

وفي المقابل، يتبنى بعض المفكرين "الترمبيين" استراتيجية مختلفة. فهم يقترحون "استرداد" ما بعد الحداثة من اليسار الليبرالي، متصورين إطارا بديلا يُطلق عليه غالبا "ما بعد الحداثة اليمينية"، وتعتمد هذه الرؤية على استخدام أدوات السخرية والتفكيك– التي استُخدمت تقليديا لنقد المحافظة والتقليدية– وتوجيهها لمواجهة الأيديولوجيات والمعايير الثقافية لليسار الليبرالي.

لعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة والذي حير الغرب بالفعل هو السرعة التي بدأ بها "الترمبيون" الذين لم يستقروا بعد في السلطة، في تنفيذ برنامجهم على المستوى الدولي

ومع ذلك ثمة بين أنصار "الترمبية" من يدافع عن "ما بعد الحداثة". ومثال ذلك إيلون ماسك الذي يشكل مزيجا فريدا من القيم التقليدية والسياسات اليمينية من جهة والتكنولوجيا المستقبلية والابتكار من جهة أخرى، ما يجعله شخصية بارزة في هذا التيار. ويشارك ماسك في هذه الرؤية بيتر ثيل، أحد أبرز رجال الأعمال في وادي السيليكون، الذي يمزج أيضا بين التوجه المستقبلي ورفض الأعراف الليبرالية.

الجغرافيا السياسية "الترمبية"

ولننتقل الآن إلى جانب آخر من جوانب "الترمبية"، وهو السياسة الخارجية، والتي يتمثل أحد الأسس الجوهرية فيها في تحويل التركيز من منظور عالمي إلى فكرة المركزية الأميركية والتوسعية الأميركية. وتتجلى أوضح الأمثلة على ذلك في تصريحات ترمب حول ضم كندا كولاية رقم 51، وشراء غرينلاند، والسيطرة على قناة بنما، وإعادة تسمية خليج المكسيك ليصبح "خليج أميركا". جميع هذه الأمثلة تشير بوضوح إلى واقعية هجومية في العلاقات الدولية، وعودة فعلية إلى مبدأ مونرو بعد قرن من سيطرة مبدأ وودرو ويلسون.

أعلن مبدأ مونرو في القرن التاسع عشر أن أولوية السياسة الخارجية الأميركية تكمن في السيطرة على قارة أميركا الشمالية، وأميركا الجنوبية جزئيا، بهدف إضعاف أو إزالة تأثير القوى الأوروبية من العالم القديم على العالم الجديد. ويُبرز انسجام ترمب مع هذا المبدأ الرغبة في تعزيز السيطرة على دول أميركا اللاتينية ورفض السياسات العالمية.

أما مبدأ ويلسون، الذي وُضع بعد الحرب العالمية الأولى، فقد أصبح خارطة طريق للعولمة الأميركية، حين حوّل التركيز من الولايات المتحدة كدولة قومية إلى التأكيد على مهمتها الكوكبية التي تهدف إلى نشر معايير الديمقراطية الليبرالية إلى البشرية جمعاء، والحفاظ على هياكلها على نطاق عالمي. وفي هذا السياق، أصبح موقع الولايات المتحدة، ككيان أو دولة، أقل أهمية مقارنة بمهمتها الدولية. وعلى الرغم من أن مبدأ ويلسون لم يُعطَ الأولوية خلال فترة الكساد الكبير، فقد أُعيد الاعتبار إليه بعد الحرب العالمية الثانية وأصبح مهيمنا خلال العقود الأخيرة.

وبالطبع لم يكن مهماً، في تلك الفترة، من الذي يملك غرينلاند، أو يترأس كندا أو يدير قناة بنما، ما دامت الأنظمة الديمقراطية الليبرالية التي تسيطر عليها النخب العالمية هي التي تحكم في كل مكان. أما اليوم، فإن ترمب يغير هذا التركيز بشكل جذري، وهو يعيد مركز الثقل إلى الولايات المتحدة ككيان ودولة، لا كمهمة دولية، مطالبا كندا والدنمارك وبنما بالخضوع، ليس لحكومة عالمية (والتي يعمل ترمب فعليا على تفكيكها)، بل لواشنطن والولايات المتحدة وترمب نفسه- كقائد كاريزمي لحقبة "الازدهار". وتعكس خريطة الولايات المتحدة التي تضم 51 ولاية (إذا ما احتسبنا بورتوريكو)، إضافة إلى غرينلاند وقناة بنما، التحول الجذري من مبدأ ويلسون إلى مبدأ مونرو بوضوح.

تفكيك أنظمة العولمة في أوروبا

لعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة والذي حير الغرب بالفعل هو السرعة التي بدأ بها "الترمبيون" الذين لم يستقروا بعد في السلطة، في تنفيذ برنامجهم على المستوى الدولي. لقد بدأ إيلون ماسك، عبر شبكته "إكس دوت كوم"، منذ ديسمبر/كانون الأول 2024، بتنفيذ سياسة نشطة تهدف إلى إزالة القادة الذين يرى "الترمبيون" أنهم غير مرغوب فيهم في الولايات المتحدة الأميركية، باستخدام أساليب كانت تُنسب في السابق إلى العولميين من أمثال جورج سوروس والشبكات التي يديرونها.

ولم يضيّع ماسك وقته، فأطلق حملات مماثلة- ولكن لصالح المناهضين للعولمة والشعبويين الأوروبيين، مثل حزب "البديل من أجل ألمانيا" وزعيمته أليس فايدل في ألمانيا، ومارين لوبان في فرنسا. كما شملت هذه السياسات حكومة الدنمارك، التي رفضت التنازل عن غرينلاند طواعية، وجاستن ترودو في كندا قبل استقالته، الذي أبدى معارضة شديدة لتحول بلاده إلى ولاية أميركية.

أما العولميون الأوروبيون، الذين يشكلون جزءا من الشبكة السابقة، فقد أصيبوا بحالة من الارتباك الشديد، وأبدوا اعتراضهم على التدخل المباشر للولايات المتحدة في السياسة الأوروبية، فردّ عليهم ماسك وأنصاره باتهامهم بالنفاق لأنهم لم يعترضوا على تدخل سوروس.

لا يحمل "الترمبيون" عداءً أيديولوجياً مسبقاً تجاه موسكو كما هو الحال لدى العولميين، لكنهم أيضا لا يشعرون بالكثير من التعاطف معها

كانت أوروبا تقف سابقا في صف الولايات المتحدة بشكل كامل، تتبنى مواقفها وتنفذ توجهاتها دون تردد. ولكن اليوم، تشهد واشنطن تحولا أيديولوجياً جذريا، بنسبة لا تقل عن 90 درجة، وربما تصل إلى 180 درجة. هذا التحول المفاجئ أحدث صدمة مؤلمة لحكام أوروبا، الذين اعتادوا، حديثا، طاعة أوامر واشنطن. والآن يُطلب منهم، وبشكل فوري، التنصل مما خدموه سابقا بإخلاص– سواء بالسخرية أو الأكاذيب– وإعلان الولاء للمقر الجديد للأيديولوجيا "الترمبية".

هذا التغيير الجذري سيجعل بعض القادة الأوروبيين ينصاعون بسهولة، في حين سيبدي آخرون مقاومة عنيدة. لكن عجلة التغيير قد بدأت بالفعل، حيث يعمل "الترمبيون" بجد على تفكيك تأثير التيارات الليبرالية والعولمية في أوروبا. والهدف النهائي لهذه الجهود يتجاوز مجرد تغيير السياسات؛ بل يتمثل في بناء غرب موحد، ليس فقط من الناحية الجيوسياسية أو الأيديولوجية، وإنما كإمبراطورية أميركية متكاملة الأركان.

الصين العدو رقم واحد

أحد الجوانب الأساسية من الجوانب الدولية لـ"الترمبية" هو الوقوف في وجه الصين، التي تجسد كل ما يكرهه "الترمبيون" في الليبرالية والعولمة: الأيديولوجيا اليسارية والعالمية. وبالطبع، فإن الصين المعاصرة أكثر تعقيدا بكثير، ولكن ثمة إجماع بين "الترمبيين" أن الصين، باعتبارها معقلا للحضارة غير البيضاء وغير الغربية، قد ربحت من العولمة التي ترعاها الولايات المتحدة وحققت فوائد جمّة.

أ.ف.ب.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يصافح الرئيس الصيني شي جينغ بينغ خلال زيارته الصين في فترة ولايته الأولى، بكين، 9 نوفمبر 2017.

لم ترتقِ الصين بنفسها إلى مرتبة القطب الجيوسياسي المستقل فحسب، بل اشترت أيضا الكثير من الصناعة والأعمال والأراضي الأميركية في هذه العملية. وقد أدى نقل الصناعة الأميركية إلى جنوب شرقي آسيا بحثا عن عمالة أرخص إلى تآكل القدرة الصناعية والسيادة الأميركية، ما جعلها تعتمد على مصادر خارجية.

ويلقي أنصار ترمب باللائمة في هذا الصعود الاقتصادي السريع للمعجزة الصينية على أنصار العولمة. وفي هذه النظرة العالمية، تحتل بكين مكانة العدو رقم واحد بالنسبة لأميركا.

الاتجاه المؤيد لإسرائيل ويمينها المتطرف

الموضوع الرئيس الثاني لـ"الترمبية" في السياسة الخارجية هو دعم إسرائيل. ورغم أن هذا الموقف ليس محل إجماع بين "الترمبيين" أنفسهم، حيث يوجد جزء من التيار الترمبي يتبنى مواقف مناهضة لإسرائيل، فإن الاتجاه العام يميل إلى دعم إسرائيل. ويعتمد هذا الدعم على النظرية البروتستانتية للمسيحية اليهودية، التي تفترض مجيء المسيح اليهودي كحتمية لتحول اليهود إلى المسيحية، إلى جانب الرفض العام للإسلام.

وتسهم كراهية الإسلام بين "الترمبيين" في تعزيز تضامنهم مع إسرائيل (والعكس صحيح)، إذ يشكل هذا الموقف أحد أهم محاور سياستهم في الشرق الأوسط. وبهذا المعنى، ينظر "الترمبيون" إلى القطب الشيعي في الإسلام، باعتباره الشر الأعظم، كونه الأكثر نشاطا في سياسته المعادية لإسرائيل. ومن هنا ينبع الرفض المطلق لإيران، والشيعة العراقيين، والحوثيين في اليمن، والعلويين في سوريا. وفي الواقع، يتسم "الترمبيون" بتحيز شديد ضد الشيعة، وهم في الوقت ذاته موالون عموما للصهيونية اليمينية واليمينية المتطرفة.

انسَ  روسيا.. ودعك من أوكرانيا

لا يحمل "الترمبيون" عداءً أيديولوجياً مسبقاً تجاه موسكو كما هو الحال لدى العولميين، لكنهم أيضا لا يشعرون بالكثير من التعاطف معها. هناك بين "الترمبيين" من يرى أن روسيا جزء من الحضارة المسيحية البيضاء، ويعتبرون أن دفعها نحو التحالف مع الصين تصرف غير مسؤول، بل وحتى إجرامي.

لا يعبأ "الترمبيون" كثيرا بالحضارات الأخرى. فإذا اختارت تلك الحضارات التمسك بهويتها، فهي حرة في ذلك، ولكن عليها أن تتحمل تبعات اختيارها

ومع ذلك، تظل هذه الفئة أقلية. أما الغالبية العظمى من "الترمبيين"، فيعتبرون روسيا ببساطة غير ذات أهمية. فهي لا تشكل منافسا اقتصاديا جديا (على عكس الصين)، ولا تملك جالية داخل الولايات المتحدة، كما يُنظر إلى نزاعها مع أوكرانيا باعتباره صراعا إقليميا غير ذي أهمية، يتحمل مسؤوليته العولميون الذين يُعتبرون أعداء لـ"الترمبيين".

وبالنسبة لهم، أوكرانيا وما يحدث هناك مهم فقط لأنه يكشف عن مغامرة فاسدة يربطها "الترمبيون" بإدارتي الرئيس أوباما والرئيس بايدن. وعلى الرغم من أن "الترمبيين" لا يتخذون موقفا مؤيدا لروسيا في معظم الأحيان، فإن دعمهم لأوكرانيا محدود للغاية مقارنة بالمساعدات الهائلة التي تلقتها من بايدن.

غيتي
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مؤتمر صحافي مشترك بعد القمة المشتركة في هلسنكي، فنلندا، 16 يوليو 2018

التعددية القطبية السلبية

يستحق مفهوم التعددية القطبية في سياق "الترمبية" دراسة معمّقة. ويمكن القول إن هذا التيار لا يتبنى فكرة العالم متعدد الأقطاب بشكل كامل، بل تمثل "الترمبية" نسخة جديدة من الهيمنة الأميركية، حيث تأخذ الأحادية القطبية طابعا ومضمونا مغايرين تماما لما يدعو إليه أنصار العولمة. ففي هذا الإطار، تتمركز الولايات المتحدة في قلب النظام العالمي، مستندة إلى قيمها التقليدية، والمتمثلة في الغرب المسيحي الأبيض، الذي يمتاز بالطابع المحافظ إلى حد كبير، مع إقراره بمفاهيم الحرية والفردية والسوق الحرة.

وتضع هذه الرؤية العالم أمام خيارين، فإما الالتحاق بالغرب وإما البقاء خارجه، ما يعني حرمانه من الرخاء والتقدم. ولم تعد هذه الرؤية تتمحور حول الشمولية، بل أصبحت تميل نحو الحصرية، إذ تحول الغرب، وفق هذا المنظور، إلى ما يشبه ناديا خاصا يتطلب الانضمام إليه بذل جهود كبيرة، مما يجعل العضوية فيه امتيازا محدودا.

لهذا السبب، لا يعبأ "الترمبيون" كثيرا بالحضارات الأخرى. فإذا اختارت تلك الحضارات التمسك بهويتها، فهي حرة في ذلك، ولكن عليها أن تتحمل تبعات اختيارها. أما إذا رغبت في الانضمام إلى الغرب، فسيتعين عليها اجتياز اختبارات صارمة، وهي إن نجحت فستظل تُعامل كجزء من الدرجة الثانية في هذا النظام.

بعبارة أخرى، لا تعكس هذه الرؤية تعددية قطبية فعالة أو إيجابية، بل أقرب إلى ما يمكن وصفه بـ"التعددية القطبية السلبية" أو المتسامحة. بمعنى أنه إذا لم تتمكن الحضارات الأخرى من أن تصبح جزءا من الغرب، فلتبقَ كما هي. بكلمات أخرى، لا يتبنى أنصار "الترمبية" فكرة عالم متعدد القوى (التعددية القطبية) بشكل صريح، لكنهم في الوقت ذاته لا يعارضونها. يتسم موقفهم بطابع سلبي ومتسامح؛ إذ يرون أنه إذا لم تتمكن دولة ما من الانتماء إلى الغرب، فعليها أن تسلك مسارها الخاص. إنهم لن يسعوا جاهدين لبناء عالم متعدد الأقطاب، لكن ذلك سيبرز بشكل طبيعي لأن ليس بإمكان الجميع الانضمام إلى الكتلة الغربية.

* تنسيق راميا يحيى

font change

مقالات ذات صلة