التضليل السياسي وإطالة أمد الحرب في السودان

عندما يفقد البعض القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال وبين الصواب والخطأ

AFP
AFP
محمد حمدان دقلو (حميدتي) شمال غرب الخرطوم في عام 2019

التضليل السياسي وإطالة أمد الحرب في السودان

اتسمت حرب السودان، التي اندلعت بين قوات الجيش السوداني وميليشيا "قوات الدعم السريع" إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي قامت بها الميليشيا صباح يوم 15 أبريل/نيسان 2023، بالاستقطاب الحاد على جميع المستويات.وخلال ما يقارب العامين من استمرار الحرب، انكشف الوجه الحقيقي لميليشيا "الدعم السريع" في تعاملها مع السودانيين في شتى أنحاء البلاد، من الجنينة في غرب السودان، وحتى الخرطوم ومدني في وسط البلاد.

ورغم ذلك، استمرت محاولات بعض القوى السياسية في التشويش على الواقع، وتشويه طبيعة الحرب لتبرير موقفها المتماهي مع ميليشيا "قوات الدعم السريع"، عبر تصوير الحرب على أنها ضد الإسلاميين، واعتبارها امتدادا للحروب ذات الطابع السياسي، التي خاضتها حركات الكفاح المسلح ضد حكومات المركز على مر تاريخ السودان، كما حاولت تبرير مواقفها المتماهية مع "قوات الدعم السريع" بتصويرها ككيان يشترك معهم في العداء للإسلاميين، ويخوض الحرب ضدهم.هذا التوجه يُعد أحد الأسباب الجوهرية التي تُساهم في استمرار الحرب، ومفاقمة معاناة الشعب السوداني تحت وطأة هذا الصراع المدمر. فميليشيا "الدعم السريع" ليست كيانا سياسيا نشأ نتيجة مطالب اجتماعية قاعدية يسعى لتحقيقها، بل هي أداة قمع وإرهاب أنشأها البشير في 2013كإعادة صياغة لميليشيات الجنجويدبهدف حماية نظام حكمه. ووجود الإسلاميين فيها،يفوق بكثير وجودهم في أجهزة الدولة الحالية. يتضح ذلك في خطابهم الإعلامي، وشعاراتهم وسلوكهم، الذي يشابه إلى حد كبير سلوك الجماعات الإسلامية المتطرفة، من "القاعدة" وحتى "بوكو حرام".

ميليشيا "الدعم السريع" ليست كيانا سياسيا نشأ نتيجة مطالب اجتماعية قاعديةيسعى لتحقيقها، بل هي أداة قمع وإرهاب أنشأها البشير في 2013 كإعادة صياغة لميليشيات الجنجويد، بهدف حماية نظام حكمه

قبل اندلاع الحرب، وبعد انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، كان التماهي بين بعض القوى السياسية والأفراد السياسيين، الذين كانوا يبحثون عن طريق العودة إلى السلطة عبر الاستقواء بسلاح أحد شريكي الانقلاب، مع أجندة ميليشيا "الدعم السريع" يتزايد بشكل واضح للعيان. عزز هذا التماهي، أوهام الميليشيا بقدرتها على السيطرة على البلاد، وعجّل بانقلابها.

لم يكن هذا التماهي نابعا من دوافع أيديولوجية أو سياسية حقيقية، بل كان مدفوعا بمصالح حزبية ضيقة، وأحيانا بمطامع شخصية في السلطة، يحركها شغف متسرع إلى المناصب، وكراسي الحكم بأي ثمن. هذا الواقع دفع بعض الإسلاميين، الذين ظلوا يتمتعون بنفوذ مؤسسي كبير داخل الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى، بسبب وجودهم الطويل في هذه الهياكل، إلى الانحياز للنقيض. والنتيجة هي هذاالواقع المأساوي، الذي يستغل فيه الطرفان الحرب لتحقيق مكاسب سياسية، تحت غطاء حلفائهم العسكريين.

مغالطات "الدعم السريع"

منذ اندلاع الحرب، ظل حلفاء "الدعم السريع"، سواء داخل تحالف "تقدم"أو خارجه، يغرقون المجال العام بمغالطات تهدف إلى خلق واقع بديل، دون حساب لما يترتب على هذا السلوك وصناعة الأكاذيب. وامتد هذا التضليل منذ بدايات الحرب، حين قاموا باختلاق وقائع اغتصاب، ونسبوها إلى الجيش، سعيا وراء خلق مساواة بين طرفي الحرب، في ارتكاب الانتهاكات، وحتى مؤخرا حين أصدرت بعض الدوائر المرتبطة بتحالف "تقدم" بيانا عن عسكرة مخيم زمزم للنازحين، تمهيدا لقصفه بواسطة ميليشيا "الدعم السريع".

في هذه السردية البديلة، يتم تصوير "الدعم السريع" ككيان سياسي له امتدادات اجتماعية ووجود مشروع، يُفرض على السودان وشعبه دون اعتبار للفظائع والجرائم التي ارتكبتها الميليشيا منذ اللحظات الأولى للحرب.هذه الفظائع لم تقتصر على عمليات القتل العرقي، وأعمال الإبادة الجماعية الموثقة، والتي اعترفت بها الولايات المتحدة رسميا في نهاية العام الماضي، عندما صنفت أفعال "الدعم السريع" على أنها إبادة جماعية.

استند هذا التصنيف إلى مجزرة المساليت التي ارتكبتها الميليشيا في الجنينة وأردمتا في بداية الحرب، والتي تكررت في بقاع شتى من البلاد.

وشملت جرائم "الدعم السريع" أيضا تشريد أكثر من نصف الشعب السوداني، وتحويلهم إلى لاجئين ونازحين، والعنف الجنسي الواسع النطاق واغتصاب النساء، وتدمير البنية التحتية للبلاد، كما شوهد في محاولة حرق مصفاة الجيلي، والهجمات على سد مروي، ومحطات الكهرباء والمياه في القضارف ودنقلا.

وامتدت صفحات الجرائم السوداء لميليشيا "الدعم السريع" إلى ولاية الجزيرة، بما في ذلك ود النورة، والهلالية وغيرهما، بالإضافة إلى نهب ممتلكات المواطنين في الخرطوم تحت ذريعة أنهم "كيزانإسلاميون". ولم تتوقف جرائم "الدعم السريع" عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل تدميرا منهجيا للمجتمعات المحلية، حيث تم استهداف المدنيين بشكل مباشر، في مناطق دارفور وكردفان والجزيرة. وأصبحت عمليات القتل العشوائي، والاعتقالات التعسفية، وتدمير القرى ممارسات يومية.كما تم توثيق استخدام الميليشيا للتجويع كسلاح حرب في مناطق مثل أحياء بانت والعباسية، وجزيرة توتي في الخرطوم، ومناطق مختلفة في ولاية شمال كردفان، وولاية الجزيرة، والتي شهدت أيضا تخريب الأراضي الزراعية، وتسميم مصادر المياه. وبالإضافة إلى ذلك، وثقت حالات استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب، حيث تعرضت آلاف النساء والفتيات للاغتصاب والاعتداء الجنسي، مما خلق أزمة إنسانية عميقة.

في هذه السردية البديلة، يتم تصوير "الدعم السريع" ككيان سياسي له امتدادات اجتماعية ووجود مشروع، يُفرض على السودان وشعبه دون اعتبار للفظائع والجرائم التي ارتكبتها الميليشيا منذ اللحظات الأولى للحرب

هذه الفظائع لا تقتصر على الخسائر البشرية المباشرة، بل تمتد إلى تدمير النسيج الاجتماعي والاقتصادي للسودان، فقد تسبب تشريد الملايين في تفاقم الأزمات الإنسانية، مع نقص حاد في الغذاء والمياه والرعاية الصحية، وأدى تدمير البنية التحتية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات، إلى خلق تحديات هائلة أمام الأجيال القادمة لإعادة بناء البلاد.

اختطاف ثورة ديسمبر

وسط كل ذلك، عملت الميليشيا وحلفاؤها على محاولة اختطاف شعارات ثورة ديسمبر المجيدة، التي أطاحت بحكم الإسلاميين، وتصوير "الدعم السريع" كحليف للثورة والمعركة السياسية ضد الإسلاميين، متجاهلين الفظائع التي ارتكبتها الميليشيا.يتغاضى حلفاء "الدعم السريع" عن هذه الجرائم، متعاملين مع موقفهم هذا كمجرد تقديرات سياسية، دون أن يلقوا بالا إلى آثاره المباشرة، مما يكشف عن عدم مبالاتهم البالغة بمعاناة السودانيين مقابل تصفية حساباتهم السياسية.

لقد بذلوا جهدهم في إغراق الشعب السوداني في واقع بديل، إلى درجة إنكار الحقائق التي شهدها الجميع حول من أشعل الحرب.فالحشد العسكري لـ"الدعم السريع" في العاصمة الخرطوم قبل اندلاع الحرب كان واضحا، وهجوم جنودها لمحاصرة قاعدة مروي الجوية قبل يومين من اندلاع الحرب بشكلها الشامل أيضا كان معلنا، ومع ذلك استمر خطاب الخداع لتبرئة ساحة الميليشيا.حتى التقارير المستقلة، مثل تقرير "معهد الدراسات الإنسانية" بجامعة ييل، الذي أكد أن الحرب اندلعت نتيجة محاولة انقلابية فاشلة قادتها ميليشيا "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)ولم تعد هذه القوى إلى صوابها،فخطابهم لا يستهدف الحقيقة، بل يهدف إلى صناعة الواقع البديل الذي تختلط فيه الحقيقة بالأكاذيب. وكما قالت حنة أرندت في كتابها "أصول الشمولية": "إن المواطن المثالي تحت الحكم الشمولي، ليس النازي المقتنع ولا الشيوعي المقتنع، بل هو الشخص الذي فقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال وبين الصواب والخطأ".

هذا المشهد السياسي السوداني، المشوه بالتلاعب بالحقائق، وخلق سرديات بديلة، يُمهّد لهذا المصير. وكما قال نعوم تشومسكي: "الطريقة الذكية لإبقاء الناس سلبيين ومطيعين، هي تحديد نطاق الرأي المقبول بشكل صارم، مع السماح بمناقشات حية داخل هذا النطاق". وينطبق ذلك بقوة هنا، حيث يتم التلاعب بحدود الخطاب المقبول لخدمة مصالح القوى التي تدعي احتكار شعارات الثورة، بينما تتهم كل من يختلف معها بالخيانة أو الردة.

هذا التضليل ليس مجرد مواقف أو تقديرات سياسية؛ بل إن انعكاساته السياسية كانت مباشرة وقاسية

لكن تفاصيل الواقع الذي يعيشه السودانيون أقوى من هذا التضليل، بما يجعل خطاب الأكاذيب والتضليل الذي يستخدم لتبرير جرائم الميليشيا يقدم أعظم خدمة لأعداء الثورة، وأعداء الشعب السوداني، الذين لا يتورعون عن نسبة بربرية وهمجية الميليشيا إلى ثورة ديسمبر المجيدة وهي منها ومنهم براء.

هذا التضليل ليس مجرد مواقف أو تقديرات سياسية؛ بل إن انعكاساته السياسية كانت مباشرة وقاسية، ساهمت في إطالة أمد الحرب، وسمح لـ"الدعم السريع" بمواصلة جرائمه وانتهاكاته تحت غطاء الحصانة السياسية التي يوفرها له حلفاؤه من خلال هذا التعتيم والخداع. كما أثر ذلك على موقف المجتمع الدولي، الذي بدا متساهلا في مواجهة هذه الانتهاكات والجرائم. إذا كانت النخب السودانية ذاتها تقوم بالتعتيم والتقليل من حجم هذه الفظائع وتبريرها، وتمضي في تجاهل معاناة الشعب السوداني إلى درجة الدفاع المباشر عن الدول الداعمة للميليشيا، فلماذا يجب على الأجانب الاهتمام؟

أ.ب
مواطنون سودانيون يحملون أمتعتهم يصلون إلى مقر قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان بعد ليلة من العنف في جوبا، جنوب السودان، في 17 يناير 2025

على الصعيد السياسي، فإن استمرار هذه الفظائع يقوّض أي جهود لتحقيق السلام المستدام. فبدون اعتراف بهذه الفظائع والدعوة لمحاسبة حقيقية على الجرائم المرتكبة، لن تنجح أي جهود للتعافي الاجتماعي أو السعي نحو مصالحة حقيقية أو عدالة انتقالية. كما أن استمرار الحرب، يعمق الانقسامات داخل المجتمع السوداني، مما يجعل عملية بناء دولة ديمقراطية مستقرة أكثر صعوبة. وتتطلب مواجهة هذه الفظائع شجاعة سياسية وإرادة دولية، تقوم بما هو أكثر من الإدانة الكلامية، وخطاب المساواة المخاتلة بين طرفي الحرب، واستخدام الدبلوماسية لمجاملة الأطراف الإقليمية. ويجب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته في دعم جهود العدالة والمحاسبة ضد مرتكبي جرائم الإبادة والقتل الجماعي، والاغتصاب الممنهج، والنهب واسع النطاق، وأن يضع حدا للإفلات من العقاب، الذي يتمتع به مرتكبو هذه الجرائم. وفقط من خلال تحقيق العدالة يمكن أن يكون هناك أمل في مستقبل أفضل للسودان.

font change