منذ رحيلها قبل نصف قرن، ظلت أم كلثوم تعبر إلينا بوصفها مرجعية تناقش وتعارض وتستعاد وتنشئ تفاهمات وتعارضات وتمثلات لها في مجالات عديدة ومختلفة ومتباينة من السينما والتلفزيون مرورا بالفن التشكيلي والـ"بوب آرت" والموسيقى الإلكترونية وصولا إلى الحركات النسوية والشبابية.
لعل أم كلثوم هي الوحيدة بين مطربي ومطربات العالم العربي التي امتلكت صوتها بالكامل بكل معارفه وتجاربه وإمكاناته وخصوصياته التقافية التي شملت تجارب أجيال وأنماط أداء وخبرات عريضة تمتد من موسيقى القرن التاسع عشر والأدوار والموشحات وتلاوة القرآن وتجويده إلى تجارب حديثة وراقصة استوعبت مزاج الجاز والروك.
اختراق العالم الذكوري
في مشهد بات كلاسيكيا في استعراض سيرة أم كلثوم تتراءى لنا صورتها طفلة ترتدي زي الصبيان وتغني التواشيح والأناشيد الدينية وسط حلقة مكونة غالبا من مستمعين ذكور.
تيسرت لتلك الطفلة عناصر لم يكن من السهل توفرها في عالم مطلع القرن العشرين، إذا ما اعتمدنا تاريخ ولادتها الأقرب إلى الدقة في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1898، وقد منحها ذلك التعليم المنضبط والصارم للقرآن وطرق التجويد ما يُجمع المؤرخون على أنه شكل الخصوصية البارزة التي لازمتها طوال حياتها المتسمة بالجنوح إلى الجدية المفرطة في التعامل مع الغناء، وأضيف إلى ذلك تعلمها الأناشيد والمدائح الدينية التي كانت تستند الى تعاليم صارمة ومتطلبة لأداء يحرص على ملاحقة الموضوع وقدسيته بنمط أداء يستدعي في بنائه وتركيبه الجلال والاحترام.