بعيدا من ثنائية "النصر" و"الهزيمة"، وهي بخطاباتها المتعددة، جزء من الخطاب السياسي والأيديولوجي لكلّ طرف من الأطراف، وانطلاقا من قناعات تلك الأطراف الراسخة أساسا في افتراقها الحاد، في كل مسألة السابع أكتوبر وما حصل بعده، فإن مشهد عودة الغزيين المليونية إلى شمال غزة حمل في طياته ما يتجاوز ذلك الاستقطاب السياسي. إنه واحد من مشاهد قليلة، مما قد يشهدها المرء في حياته، ولا يملك سوى أن يعلق عليها بالقول إنها "أكبر من الحياة". ومصدر كونها كذلك، أي اندفاع الناس أنفسهم، أفرادا وجماعات وفي لحظة مشتركة متسامية، يتحدى في الواقع أحادية السرديات السياسية التي لا تتردد في توظيف معاناة البشر، من أجل تأكيد الخلاصات أو تسجيل النقاط، أو محوها.
المدينة و"المنتجع"
لم يشهد التاريخ الحديث هجرة عكسية بالكثافة والقوة التي شهدناها يوم 27 يناير/ كانون الثاني 2025. كان الاحتلال الإسرائيلي قد نجح عبر شهور من القصف والقتل والتدمير، في تهجير سكان شمال غزة، بما في ذلك مدينة غزة نفسها، في اتجاه وسط القطاع وجنوبه، وكان الطموح منذ بداية الحرب على غزة، أن يرى العالم هذا المشهد نفسه، في هجرة أولئك الناس الجماعية إلى سيناء. مشهد كان له لو حدث أن يشكل ذروة أحد أهداف الحرب الذي لم يكن سريا كثيرا بل غالبا ما كان معلنا، وهو تفريغ غزة من أهلها، بحيث تصبح الأرض ممهدة لأن تصبح منتجعا سياحيا فريدا من نوعه على البحر، وفق رؤية جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب في بدايات الحرب، وقد عبر ترمب نفسه عن هذا الطموح، مغلفا إياه بخطاب السلام الموعود، حين قال قبل أيام إنه لم يعد هناك ما يمكن أن يعود إليه السكان في شمال غزة، وبالتالي يجب أن يهاجروا لفترة تقصر أو تطول إلى مصر والأردن. كان الرجل يتكلم انطلاقا من قناعة راسخة بأن ذلك الهدف "السري" المعلن، الذي كان يشار إليه أحيانا باسم "خطة الجنرالات" تحقق فعلا.